11 عامًا مرّت على صرختنا الأولى، وفي كل عام تتجدد المطالب للمعارضة السورية -بشقَّيها السياسي والعسكري- لرصّ صفوفها وتوحيد أجندتها وتصويب بوصلتها، ويبدو الأمر كما لو كان لغزًا يستعصي حله.
ويُقال إن السوريين بقدر براعتهم في العمل الفردي، فإنهم فاشلون في العمل الجماعي، تسري المقولة كما لو كانت مثلًا شعبيًّا، كأنّ ما تخلص إليه هو قدرنا، لا تجربتنا التي يمكن تحسينها وتطويرها.
سياسيًّا وعسكريًّا وإنسانيًّا، تدور القضية السورية في حلقة مفرغة تقريبًا، هكذا يراها البعض؛ فعسكريًّا، استمسكت الأطراف كل واحد منها بجغرافيته، يحميها ويبنيها كما لو كانت هي الدولة كلها، لا هو يخسر منها ولا هو يزيد عليها؛ وسياسيًّا، توقفت موجة ابتكار المسارات والمنصات السياسية، وباتت منذ أكثر من عامين لا يزيد فيها إلا عدد جولاتها والصور التذكارية المملّة؛ أما إنسانيًّا، فما زالت كثير من الدول تدفعنا على أبوابها عند كل انتخابات.
يرى آخرون أن ثمة هدنة قائمة، وهي تمثّل فرصة لالتقاط الأنفاس وتوحيد الصفوف وتعزيز القواعد الشعبية والمسح على جراح الناس وإعادة توسيع شبكة المتضامنين والأنصار، ويضاف إلى هذه الفرصة فرصة أخرى لم تكن تخطر على البال، العالم يعزل ويعاقب روسيا، أهم حليف لنظام الأسد ومنقذه الفعلي، لمعاقبته على غزو أوكرانيا، في موجة ضغط اقتصادي لم يشهدها العالم من قبل ربما.
وبمناسبة الذكرى الحادية عشر للثورة السورية، توجّهنا إلى عدد من مدراء مراكز الأبحاث السورية والنشطاء البارزين، بسؤال واحد: كيف يمكن للسوريين الخروج من حالة الركود والمراوحة والاستعصاء، بعد 11 عامًا على انطلاقة الثورة، والنهوض بالقضية السورية وبث الحياة فيها من جديد على أجندات السوريين والعالم؟ وكانت هذه إجاباتهم.
رضوان زيادة
باحث في المركز العربي بواشنطن والمدير التنفيذي للمركز السوري للدراسات السياسية والاستراتيجية
هناك مسؤولية تقع على المعارضة السورية لإعداد استراتيجية جديدة من أجل بناء أولويات للملف السوري على الأجندة الدولية.
فالملف السوري أصبح معقدًا ومتشعّبًا للغاية، فاختلطت به قضايا معلقة كثيرة التعقيد أيضًا كاللاجئين والتدخلات الإقليمية والإرهاب وغيرها، كل ذلك ممّا يدفع أي دولة بما فيها أميركا للتردُّد في اتخاذ أي موقف أو التصدي لحلّ هذه القضية لأنها ستتحمل كل تبعاتها.
من كل ذلك، أتوقع أن إدارة الرئيس بايدن تعمل على تطوير استراتيجية سياسية وعسكرية بحقّ سوريا بعد ما جرى في أوكرانيا، ربما تعتمد في بعض عناصرها على تطوير أولوية الدفع بالانتقال السياسي وإزاحة الأسد.
المشكلة الرئيسية في هذه الاستراتيجية ستكون المعارضة السورية، السياسية منها والعسكرية، وإعادة تموقع القوى الإقليمية؛ فالمعارضة السورية السياسية في انهيار تام بفعل خلافات داخلية، والأهم عدم قدرتها على التأثير في مجرى الأحداث في سوريا بفعل عنف النظام الأعمى، ما ألغى أي معنى لمفاوضات أو عملية سياسية يمكن لها أن تسهم في بناء معارضة سياسية ذات تأثير وفعالية.
أما المعارضة المسلحة فقد انهار الجيش السوري الحر كقيادة مركزية في عام 2014، ولم تفلح أية جهود في إعادة توحيد الفصائل المختلفة تحت راية واحدة، ومع تعدد الفصائل وتفرُّقها واتخاذها عدة مسميات، لم تفلح في تكوين بديل عسكري.
ومع تلاحق سلسلة الانهيارات العسكرية وآخرها في حلب، أدركت الفصائل العسكرية أنها تعيش مرحلة من التراجع والانهيار مع تزايد دعم الميليشيات الإيرانية وحزب الله لنظام الأسد على الأرض، وهو للأسف ما لم يدفع هذه الفصائل إلى القيام بإعادة بناء التحالفات العسكرية وتركيز جهودها في استراتيجية عسكرية موحّدة، فالذي حصل هو العكس تمامًا حيث انهارت واختفت هذه الفصائل رويدًا رويدًا.
أما على المستوى الإقليمي فكان تغيُّر الأولويات عاملًا رئيسيًّا في انهيار المعارضة السورية المسلحة، خاصة بالنسبة إلى تركيا والسعودية، فتركيا أصبح تركيزها على منع الكرد المتحالفين مع حزب العمال الكردستاني من كسب المزيد من الأراضي السورية، والسعودية مع سيطرة الحوثيين على اليمن أصبحت الحديقة الخلفية لها أولوية لا بدَّ من تنظيفها.
لذلك يمكن القول إن نقطة الضعف الرئيسية في الاستراتيجية الأميركية ستكون المعارضة نفسها التي تُركت لسنوات كي تحارب وحدها قوات نظام الأسد وحزب الله والميليشيات العراقية والإيرانية وقوات الحرس الثوري، وفوق ذلك كله القوات الروسية التي تدخّلت جويًّا مع نهاية عام 2015 وبريًّا مع نهاية عام 2016.
لذلك، ولإنجاح أية استراتيجية أميركية في سوريا للتخلُّص من نظام الأسد، يجب أن تعيد المعارضة السياسية والعسكرية إعادة تمركزها وتنظيم صفوفها، وإلا أضاعت الفرصة الأخيرة لإنقاذ ما تبقى من سوريا.
باسل حفار
باحث ومدير مركز إدراك للدراسات والاستشارات
لا أعتقد أنّ الثورة السورية تعيش حالة مراوحة، الذي يعيش حالة مراوحة هو الحل العسكري، الذي يتضمن تغيير مساحات النفوذ وتقدم طرف على آخر من خلال المواجهة العسكرية، فيما عدا ذلك حققت الثورة السورية تقدمًا كبيرًا خلال السنوات الماضية، عندما استطاعت أن تحشد شريحة واسعة جدًّا من السوريين خصوصًا الشباب منهم إلى جانبها، واستطاعت الحفاظ على جزء محرَّر من الأرض السورية خارج سيطرة النظام رغم الحملات العسكرية والقلاقل الأمنية التي يثيرها النظام وحلفاؤه باستمرار.
واليوم نشهد تصاعدًا مضطردًا في الجهود الرامية لتحقيق الاستقرار في هذه المناطق وتحويلها إلى نموذج يتطلع إليه كل السوريون، عبر مأسسة ورفع سوية التعليم والأمن والصحة والحوكمة وغيرها من القطاعات في هذه المنطقة.
هذا الهدوء في الجانب العسكري هو في الحقيقة فرصة لصالح الثوار لترتيب أوراقهم وترسيخ أقدامهم وبناء مدنهم وقراهم وإعادة عجلة الحياة إليها، وليس أدل على نجاح هذه الثورة من قدرتنا على النجاح في هذه المهمة، مهمة البناء والاستقرار.
محمد سرميني
باحث ورئيس مركز جسور للدراسات
لا وجود لحلّ إلّا بإعادة إنتاج المعارضة السياسية حتى تكون قادرة ومستعدة لوضع رؤية حول مستقبل سوريا والمناطق التي تُسيطر عليها في شمال غرب البلاد، ولتبادر إلى إعادة إنتاج الخطاب الذي تستخدمه.
إنّ الحاجة لإعادة إنتاج المعارضة السياسية باتت ضرورة ملحّة، بعدما أصبحت العديد من الهيئات والكيانات أقرب إلى الأحزاب المغلقة بدل أن تكون دعامة لجبهة وطنية تقود العملية السياسية وإصلاح المؤسسات التي نشأت بعد عام 2011، وصولًا إلى تحقيق أهداف الثورة بما فيها إسقاط النظام السوري.
لن تكون هناك فرصة مواتية لإعادة تشكيل المعارضة أفضل من انشغال العالم في الصراع شرق أوروبا، وضرورة عدم هدر الوقت في مباحثات اللجنة الدستورية، إلّا في حال كانت المعارضة تعتبرها مساحة للإشغال بينما تقوم بإعادة تنظيم وترتيب نفسها داخليًّا.
أسامة نصار
ناشط وصحافي، ورئيس تحرير مجلة “طلعنا عالحرية“
انتصار أو هزيمة الثورة هما مسألة نسبية؛ فلو كان هدف الثورة إسقاط النظام أو تحسين رفاه السوريين، فلا شك أنها فشلت فشلًا ذريعًا.
ولكن..
كانت ثورة الكرامة هي استثناء لحالة الركود المزمنة التي عاشتها سوريا لعقود طويلة، والآن نرى أننا عدنا لذاك الركود والانسداد الذي اخترقناه لبضع سنوات في نفحة من نفحات الله بدأت عام 2011؛ لم يكن أحد يراهن على ثورة سورية بهذا الحجم وبهذه الجذرية قبل أقل من سنة واحدة من انطلاقها بالفعل.
لا توجد وصفة واحدة لتجاوز تعقيدات الحالة السورية، لكن هناك قواعد لوصفات ضرورية ومستدامة وصحية على طول الخط:
أداء الواجب الصغير: رغم أن مثل هذه الكلمات تُقال للشباب من أجل امتصاص حماسهم وتخديرهم، إلا أنها ستفيدنا اليوم إذا قُرئت في سياق إيجابي من تحمل المسؤولية والسعي الدؤوب لبناء تراكمي ومستدام.
الهدف الجيد يتطلب بالضرورة وسائل جيدة؛ فأعمالنا كلها تحمل شيفرة وراثية لما نريد الوصول إليه. بهذا المعيار يمكن قياس ما قمنا به، وإعادة النظر في كوارث وجرائم ارتكبها بعضنا لا يمكن بأي حال أن تؤدي بنا إلى الحرية والكرامة والعيش الرغيد.
عدالة قضية ما لا تقتضي بالضرورة انتصارها؛ ونحن كشعب مظلوم جزء من ضحايا منظومة قهر واقعة على كثيرين مثلنا، وينبغي علينا النظر إلى قضيتنا كجزء من تحرر الإنسان وتحقيق كرامته في العالم، هذا دون ترحيل قضايانا المحلية إلى شأن كوني مائع لا أثر لكفاح الفرد والمجموعات الصغيرة فيه.
وتلخيصًا..
ما من وصفة واحدة لتجاوز تعقيدات الحالة السورية، لكن قواعد لوصفات ضرورية ومستدامة وصحية على طول الخط، كما يرى الصحافي أسامة نصار، على رأسها البناء التراكمي والمستدام، واعتماد الوسائل الجيدة للوصول للهدف.
الباحث باسل حفار لا يتفق مع فرضية أن القضية السورية تعيش حالة مراوحة، اللهم إلا في الجانب العسكري الذي يرى فيه فرصة لترتيب الأوراق، ويبرهن على رأيه في أن الثورة وسعّت من قواعدها الشعبية الشبابية وتعمل على بناء نموذها للحكم في المحرر.
ويخلُص الباحث محمد سرميني إلى أن انشغال العالم بالحرب الأوكرانية يمثل فرصة لا تتكرر لإعادة تشكيل المعارضة، ويقترح اعتبار الوقت المهدور في مباحثات اللجنة الدستورية مساحة إشغال إضافية يجب استغلالها لترتيب البيت الداخلي.
ويرى الدكتور رضوان زيادة أن غزو روسيا لأكرانيا سيدفع إدارة بايدين للعمل على استراتيجية جديدة بشأن سوريا، لكن نجاح هذه الإستراتيجية يعتمد أولًا على قدرة المعارضة على إعادة تمركزها وتنظيم صفوفها.
كل عام وأنتم بخير.