يعد الأمن الغذائي ضلعًا أساسيًا في منظومة الأمن القومي، لا يتحقق الأخير بمعزل عن الأول، ويمثل القمح قلب الأمن الغذائي العالمي النابض الذي يضخ دماء الأمان والاستقرار ومن دونه قد يجد الملايين أنفسهم فجأة في مهب الجوع بعدما تحول إلى سلاح “حرب” أكثر منه محصول غذائي.
وكشفت الحرب الروسية الأوكرانية الأخيرة خطورة سلاح القمح الذي تحول إلى خنجر في ظهر السيادة العربية واستقلال شعوب المنطقة التي حبست أنفاسها خوفًا من تداعيات تلك المعركة على مخزون تلك السلعة الإستراتيجية التي تعد شريان الغذاء الأول للعرب، لا سيما أن الجزء الأكبر من إمدادات هذا السلاح يأتي من طرفي الحرب.
ورغم أن الأقطار العربية جميعها لا تشكل إلا 5% فقط من سكان العالم، فإنها تستهلك أكثر من 25% من صادرات الحبوب في العالم، هذا بخلاف تراجع معدلات الاكتفاء الذاتي عربيًا من القمح لتقف عند حاجز الـ41.6% بنسبة عجز تصل إلى 57.4%، ما يعني أن أكثر من نصف الخبز العربي يتحكم فيه غير العرب.
القمح على الخريطة العربية
بلغت الأراضي المزروعة في الوطن العربي عام 2020 نحو 72.8 مليون هكتار، بما نسبته 5.4% من مساحة الدول العربية، ويمثل نصيب الفرد من تلك الأرض نحو 0.14 هكتار مقارنة بالمتوسط العالمي والبالغ 0.18 هكتار للفرد، فيما تقدر نسبة الأراضي الصالحة للزراعة في المنطقة العربية بنحو 38.5% من الأرض الكلية للوطن العربي، وفق التقرير السنوي لأوضاع الأمن الغذائي العربي 2020.
تتصدر الحبوب قائمة الأراضي المزروعة بنسبة 49% تليها البذور الزيتية بنسبة 13% ثم الفاكهة بنحو 5.6% والأعلاف بنسبة 4.3% ثم الخضر بـ3.4%، فيما تعاني إنتاجية الأراضي العربية عمومًا من تدنٍ بمعدل 1.13 طن للهكتار في المتوسط مقارنة بـ3.62 طن للهكتار على المستوى العالمي.
يعتبر القمح المحصول الرئيسي في مجموعة محاصيل الحبوب، فقد ساهم إنتاجه بنحو 48% من إنتاج الحبوب في العالم العربي 2020، البالغ 53.9 مليون طن، في حين تقدر مساحته بنحو 30% من مساحة الأرض المزروعة حبوب في المنطقة، وقد انخفض إنتاج القمح في المنطقة العربية بنحو 2.5% عام 2020 مقارنة بعام 2019.
يتركز نحو 44% من إنتاح القمح في العالم العربي في 5 دول، على رأسهم مصر بإنتاج 9.2 مليون طن، بمساهمة بلغت 17.7% من إجمالي الإنتاج، يليها المغرب بنسبة 11.2% ثم الجزائر 6.2% والعراق بـ5.8% وسوريا بنسبة 3%، وخلال الفترة من 2015 وحتى 2020 تراوح معدل النمو في الإنتاج بين دولة وأخرى، فكان 3% في مصر و2% في المغرب و1% في الدول الثلاثة المتبقية.
اهتمام متزايد ولكن..
في عام 2010 كان إجمالي الأراضي المزروعة في المنطقة العربية 71.4 مليون هكتار، بما نسبته 4.4% من إجمالي مساحة الدول العربية، لكن نصيب الفرد من تلك الأراضي كان متقاربًا نسبيًا مع المتوسط العالمي، حيث تراوح بين 0.20 و0.21 هتكار فيما كان متوسط الفرد العالمي 0.21 هكتار، حسب تقرير الأمن الغذائي العربي الصادر عن الجامعة العربية في 2010.
كانت نسبة الأرض المزروعة بالحبوب في 2010 نحو 41% من إجمالي الأرض المزروعة، فيما بلغ الإنتاج الإجمالي للقمح الذي يشكل قرابة 50% من مساحة الرقعة الزراعية للحبوب (10 ملايين هكتار) نحو 24.1 مليون طن، فيما وصلت إنتاجية الأراضي العربية إلى 2.97 طن للهكتار في المتوسط مقارنة بـ3.5 طن للهكتار على المستوى العالمي.
يلاحظ من خلال تلك المقارنة ارتفاع نسبي في مساحة الأرض المزروعة وإجمالي الإنتاج، لكنها الزيادة التي لا تتناسب مع زيادة عدد السكان وعليه انخفض نصيب الفرد من تلك الأراضي، وبالتبعية تراجعت حصته في المحصول بشكل واضح، الأمر الذي يزيد معه من حجم الفجوة.
الخمسون عامًا الماضية تراجع فيها منحنى الاكتفاء الذاتي من القمح بصورة لافتة للنظر، من 90% تقريبًا عام 1970 إلى 49.5% عام 1977 ثم 40.4 % بداية التسعينيات، ليرتفع بنسبة طفيفة العام الماضي ليصل إلى 41.6%، وهو التراجع الذي يحمل الكثير من المؤشرات عن وضعية القمح كمحصول أمن قومي على خريطة أولويات الحكومات العربية.
القمح والأمن القومي
قالوا قديمًا: “من لا يملك غذاءه وسلاحه فلا يملك قراره”، وحين تكون أكثر من نصف احتياجاتك (57%) من السلعة الأكثر استهلاكا بأيدي غيرك، فأمنك القومي بلا شك مهدد، فقد تحول القمح عامًا تلو الآخر إلى أداة ضغط قوية تهدد سيادة الدول وتقوض استقلاليتها في قرارها السياسي، وتخضعها أحيانًا إلى إملاءات وتوجهات في مقابل توفيرها.
وإن كان الأمن الغذائي بالكلية لم يكن على قائمة أولويات الدول العربية في العقود الماضية، فإن الأمر تغير بصورة كبيرة السنوات الأخيرة، ومع تزايد الرقعة السكانية ومحدودية الإنتاج، بات أمرًا ملحًا وخطرًا يهدد جميع الأنظمة، الغني منها والفقير.
الخبير الاقتصادي أندرس جاجيرسكوج، اختصاصي أول إدارة الموارد المائية بالبنك الدولي، يرى أن الأمن الغذائي ومعه المائي وأمن الطاقة سيكون على قائمة التهديدات الأمنية الناشئة في الشرق الأوسط، لافتًا إلى أن الأمن الغذائي سيكون له صداه القوي في المنطقة العربية التي تستورد أكثر من 50% من السعرات الحرارية التي تستهلكها.
وأشار إلى أن أزمة أسعار الغذاء 2008-2009 كشفت بشكل قوي خطورة هذا الملف، بعدما انضم “4 ملايين شخص إلى قائمة الأشخاص الذين يعانون من نقص التغذية في المنطقة العربية”، مستشهدًا بالوضع في اليمن الذي اضطر لتجريف أمنها الغذائي بسبب الصراعات ما أسفر عن سقوط عشرات الآلاف بسبب الجوع وسوء التغذية.
المخاطر هنا لا تحدق بالدول الفقيرة فقط، فالأمر ذاته ينسحب على دول الخليج رغم ثرائها النفطي والمالي، فمعظمها تعتمد على الأسواق العالمية لتلبية الاحتياجات الغذائية وهو ما يهدد سيادتها في كثير من الأزمات، ومع تراجع الموثوقية في النظام العالمي لتجارة الأغذية اضطرت تلك الدول إلى التوجه إلى عمليات الاستحواذ على الأراضي في الخارج لتعزيز أمنها الغذائي، ولتجنب الاضطرابات المحتملة الناجمة عن الصراعات والأزمات الطارئة.
البيئة العربية وزراعة القمح
هل البيئة الزراعية العربية مهيأة لزراعة القمح؟ توجهنا بهذا السؤال إلى الخبير الزراعي سليمان سعيد، الأستاذ في مركز البحوث الزراعية المصرية، فأشار إلى أن البيئة المثلى لزراعة القمح هي الشرق الأوسط وآسيا، لما يمتلكاه من مقومات ومميزات تؤهلهما تمامًا للحصول على أفضل إنتاجية لهذا المحصول.
وأوضح سعيد خلال حديثه لـ”نون بوست” أن القمح في المجمل يحتاج إلى درجة حرارة تتأرجح بين 22 إلى 27 درجة مئوية، تزداد تدريجيًا في مرحلة النضح والإسبال إلى 33 درجة بما يساعد على جفاف الحبوب، بجانب معدل مياه يترواح بين 375 و875 ملم من الأمطار السنوية، تزداد وتقل بنسب معينة دون أن تؤثر على المنتج.
وتتمتع المنطقة العربية بتربة جيدة تمامًا لنمو القمح في العديد من المناطق، كونها أراضي خصبة عميقة، وجيدة الصرف، منوهًا أن بعض الأصناف قد تنمو في الصحراء كذلك، إذا توافرت لها الشروط المطلوبة وهي الشروط ذاتها المتوافرة لزراعة المحاصيل الأخرى كالفواكه والخضراوات.
وبقراءة خريطة الإنتاج العالمية من القمح والظروف المواتية فنيًا لزراعة هذا المحصول يلاحظ أنه ينمو بصورة جيدة مقارنة بغيرها، في المناطق التي تتمتع برطوبة نسبية كمناخ البحر الأبيض المتوسط، والأخرى ذات الشتاء المتوسط كما هو في أستراليا وجنوب أوروبا وآسيا وبعض دول جنوب إفريقيا.
إذن أين تكمن الأزمة؟
يقف خلف أزمة القمح بصفة خاصة والأمن الغذائي بشكل عام في المنطقة العربية نوعان من الأسباب، الأولى تتعلق بأسباب طبيعية لا دخل للحكومات والمواطن العربي بها، والثانية أسباب خاصة تلقي باللوم الكامل على السياسات والإستراتيجيات الرسمية لدى دول المنطقة في تعميق الأزمة.
النوع الأول على شاكلة الأزمات والكوارث الطبيعية التي تلقي بظلالها على الأمن الغذائي وتهدده، خاصة تلك التي ترتبط بالتغيرات المناخية وندرة المياه والفيضانات والزلازل والبراكين والجفاف والآفات والأمراض التي تصيب النباتات وتهدد معدلات الإنتاجية بصفة عامة، ومع تفاقم أزمات الفقر وتراجع الأمن الغذائي تصبح المجتمعات أكثر عرضة لتلك الكوارث، هذا بجانب جائحة كورونا التي ألقت بظلالها القاتمة على المشهد فزادته إحباطًا.
ويشمل هذا النوع أيضًا النزاعات والحروب وتداعياتها الكارثية على الخريطة الزراعية ومنظومة الأمن الغذائي، حيث تدهور المناخ الاستثماري وتحول البلاد إلى مناطق طاردة للسكان وتزايد نسب ومعدلات البطالة والفقر، ما يقلل بالفعل من الاهتمام بالزراعة ومن ثم تتراجع معدلات الإنتاج، وتعد سوريا أحد النماذج الصارخة لهذا العنصر كما سيرد ذكره لاحقًا.
ويكفي لمعرفة تأثير هذا النوع من الأسباب على أزمة القمح عربيًا الوقوف على التأثيرات الناجمة عن موجات الجفاف التي تعرضت لها المنطقة العربية بين عامي 1990 و2019 حيث تضرر أكثر من 44 مليون عربي جراء تلك الظاهرة، وتسبب التغير المناخي في تراجع معدلات هطول الأمطار بنسب غير مسبوقة، ما تسبب في ضرب العديد من المحاصيل وعلى رأسها القمح، كما في الأردن، لا سيما في منطقة الأغوار الوسطى وفي فلسطين.
أما النوع الثاني من الأسباب التي عمقت الأزمة، فتتعلق بالسياسات الخاطئة التي تتبعها العديد من البلدان العربية في زراعة القمح، ابتداءً من الخطط المدرجة التي لا تراعي حجم الفجوة المتصاعد بين الإنتاج والاستهلاك، بجانب المشاكل التي تواجه اختيار البذور وتوفير أدوات الزراعة ومتطلباتها من أسمدة وخلافه، فضلًا عن عدم تلبية مطالب المزارعين وتسهيل دورتهم الزراعية، وتجاهل مشاكلهم التي تتعلق في الغالب بارتفاع أسعار الأسمدة والخدمات من جانب وتراجع أسعار القمح من جانب آخر، ما يتسبب في خسارة نهاية الموسم للفلاح تدفعه إلى التفكير في زراعة محاصيل أخرى أكثر ربحية وأقل كلفة.
ومن أبرز الأسباب التي عمقت أزمة القمح، سوء التخزين، وهو ما ينجم عنه كميات كبيرة مهدرة من المحصول، ولعل الحالة المصرية هي الأكثر وضوحًا في هذا الشأن، إذ وصل الفاقد السنوي من القمح عام 2015 على سبيل المثال قرابة 4 ملايين طن بما نسبته 40% من إجمالي الإنتاج، بحسب نشرة حركة الإنتاج والتجارة الخارجية من السلع الزراعية الصادرة عن جهاز التعبئة العامة والإحصاء (حكومي).
النشرة كشفت أن معدل الفقد من القمح نتيجة سوء النقل والتخزين في مصر بلغ 500 ألف طن سنويًا خلال الفترة من عام 2001 وحتى 2009، لكنه ارتفع بشكل كبير خلال عام 2010 ليقترب من مليوني طن فاقد، ليصل أعلى مستوياته عام 2015، منوهة أنه خلال السنوات العشرة (2005 – 2015) بلغت كمية المنتج من المحصول قرابة 93.1 مليون طن فُقد منها 19.3 مليون نتيجة سوء التخزين وعمليات النقل والحصاد وغيرها، ما يعني أن الدولة المصرية فقدت خلال عقد واحد فقط نحو 21% من إنتاجها من القمح المحلى رغم العجز الواضح التي تعاني منه نتيجة الفجوة الكبيرة بين الإنتاج والاستهلاك، وهو ما يكلفها سنويًا عشرات المليارات.
سوريا والعراق: نموذجان جديران بالقراءة
إستراتيجية سوريا والعراق في التعاطي مع منظومة القمح تعد من النماذج الكاشفة عن التباين الواضح في إدارة هذا الملف، وكيف يمكن لدولة ما إذا ما توافرت لديها الإرادة أن تحقق نجاحات لا تحققها نظيرتها ذات الظروف المتشابهة، وهو ما يمكن قراءته إزاء العديد من تجارب البلدان العربية الأخرى.
كانت سوريا قبل عام 2011 الدولة العربية الوحيدة التي تحقق الاكتفاء الذاتي من القمح، إذ كانت تزرع قرابة 1.7 مليون هكتار، ويزيد إنتاجها عن 4 ملايين طن سنويًا، ووصل عام 2006 إلى 4.9 مليون طن، الأمر الذي كان يسمح للحكومة السورية وقتها بتصدير الفائض عن الاستهلاك.
لكن سرعان ما تهاوى هذا الصرح بعد الحرب، إذ اضطرت البلاد لأول مرة في تاريخها إلى استيراد المحصول عام 2012، بعد خروج أكثر من نصف المناطق التي كانت تنتجه في الشمال والجنوب بسبب الحرب والانتهاكات التي مارستها قوات بشار الأسد ضد المعارضة والثوار، إذ اتبع في بعض الأحيان سياسة الأرض المحروقة التي تعلمها من العقيدة العسكرية الروسية الداعمة له.
في نهاية 2018 وصل الإنتاج إلى 1.2 مليون طن، بتهاوٍ نسبته أكثر من 70% رغم تزايد الاحتياجات السنوية، وسط تباين في أسباب هذا التراجع، ما بين سوء إدارة وتخزين وفشل السياسات الزراعية وتجاهل الخريطة الزراعية بالكلية في ظل انشغال نظام الأسد بقتال المعارضة وتصفية الثوار، هذا بجانب موجة الجفاف التي ضربت البلاد في 2014 وكان لها صداها القوي على معدلات الإنتاج.
وعلى الجانب الآخر، هناك العراق، البلد الذي نجح في تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح للعام الثالث على التوالي، بعدما بلغ إنتاجه 4 مليون طن 2021، مقارنة بـ4 ملايين و539 ألف طن 2020، و4 ملايين و750 ألف طن في 2019، بينما تحتاج البلاد 4.2 مليون طن سنويًا لتحقيق هذا الاكتفاء.
وتكتفي بغداد باستيراد نحو مليون طن فقط من القمح سنويًا، ليس لسد العجز إنما لتحسين جودة القمح المحلي من خلال خلطه به لما يحتويه من مادة الجلوتين المطلوبة، بما يسمح ببقاء فائض سنوي يقدر بنحو 800 ألف طن، تخزنهم البلاد تحسبًا لأي أزمات طارئة.
ورغم الظروف السياسية والأمنية المضطربة في العراق منذ 2003 وحتى اليوم، فإن ذلك لم يمنع من الاهتمام بالأمن الغذائي، وفي 2010 أطلقت البلاد مشروعًا وطنيًا لتنمية زراعة القمح من خلال عدد من الإستراتيجيات الحديثة التي تعتمد على إنتاج بذور مقاومة للملوحة والجفاف، وذات إنتاجية عالية ومقاومة للأمراض، وأقل نسبيًا في استخدام المياه نظرًا لما تشكله قلة الأمطار في موسم الشتاء من تحدٍ كبير أمام إنتاج المحاصيل الزراعية.
ما المانع من تحقيق الاكتفاء الذاتي؟
في 2005 وعلى هامش حوار صحفي أجريته مع عالم الهندسة الوراثية الشهير، الدكتور أحمد مستجير (1934-2006)، عن فكرة الاكتفاء الذاتي من القمح في مصر، قال إنه تقدم ببحث لوزارة الزراعة المصرية يتضمن اكتشاف هجين من القمح والأرز يمكن زراعته بأقل قدر ممكن من المياه، بل في بعض الأحيان يكون مناسبًا للزراعة في الصحراء، وعلى شواطئ المصارف والترع والأنهار، بما يوفر على مصر كلفة استيراد القمح من الخارج التي تكلف ميزانية الدولة أموالًا طائلةً، لكنه لم يتلق أي رد من الوزارة على حد قوله.
وأكد مستجير حينها أن دولًا عدة عرضت عليه شراء هذا البحث الذي أدخل عليه تطورات عدة على مدار سنوات، وكان يرغب في أن تكون بلاده الأحق به وبمخرجاته الهائلة، لكنه صدم من رد الفعل السلبي الذي قوبل به بحثه، لافتًا أن الأمر يحتاج إلى إرادة سياسية في المقام الأول، فالدولة إذا ترغب في تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح فالطريق ممهد، ودون أي عقبات فنية، لكن الأمور بها كواليس تتعلق بخريطة نفوذ غذائي دولية، تضع دولًا في مرتبة “A” تمارس كل أنواع الابتزاز لإخضاع دول المرتبة “B” لحسابات سياسية دولية.
وللعالم المصري مشروع مشابه في دولة الهند بدأه عام 1989، تحت مسمى مشروع “زراعة الفقراء“، وكان يتعلق باستنباط سلالات من القمح والأرز تتحمل درجات عالية من الملوحة والجفاف بهدف الاستفادة منها فى زراعة الصحراء فى الدول النامية، وقد ساعد الهند على زراعة القمح بواسطة مياه البحر مباشرة دون تحليتها، لتتحول من دولة مستوردة لهذا المحصول حتى منتصف التسعينيات، إلى مصدرة له عام 2004 بعد أن حققت الاكتفاء الذاتى لشعب قوامه 1.3 مليار نسمة في ذلك الوقت.
لعل الحرب الروسية الأوكرانية تكون جرس إنذار إزاء خطورة اعتماد الوطن العربي على دول أجنبية في تأمين غذائه وفي المقدمة منه القمح الذي تحول إلى سلعة حرب، وهو ما يستوجب معه أن يدفع الحكومات العربية إلى إعادة النظر في خريطة إنتاجها من الحبوب عمومًا، مستفيدة بكل ما لديها من مقومات زراعية وبيئية ومناخية بجانب النفوذ المالي لبعض الدول، بما يقلل مرحليًا حجم الفجوة ويقلص من ترك خبز العرب بأيدي غير العرب، لكن هذا الأمر يحتاج قبل أي شيء إلى إرادة سياسية من الدول العربية.