ترجمة وتحرير: نون بوست
بغض النظر عما إذا كانت بكين قد تلقت تحذيرًا مسبقًا عن غزو روسيا لأوكرانيا، يمكن القول إن قرار الزعيم الصيني شي جين بينغ بإصدار بيان الشهر الماضي يحدد شراكة “بلا حدود” مع موسكو كان أكبر خطأ ارتكبه في السياسة الخارجية خلال السنوات العشر التي قضاها في السلطة. يتلقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نصيبًا كبيرًا من ردود الفعل السلبية بسبب هجومه غير المبرر على أوكرانيا، لكن البيان العلني للرئيس الصيني إلى جانب دعم بكين الدبلوماسي المستمر لموسكو قد شوّه سمعة الصين وأثار مخاوف متجددة بشأن طموحاتها العالمية.
وفي الواقع، ساهمت الحرب المكثّفة في أوكرانيا في تزايد الأصوات التي تدعو تايوان إلى تعزيز قدراتها الدفاعية، وتوحي الشراكات الأمنية مثل الناتو والحوار الأمني الرباعي وأوكوس بوجود هدف غير معلن.
لم يكن دعم شي الطائش لموسكو عشية الحملة العسكرية الكارثية على أوكرانيا أول زلّة لا تغتفر له في السياسة الخارجية، إذ أن قراره بالانتقام من مسؤولي الاتحاد الأوروبي في آذار/ مارس الماضي ردًا على العقوبات المفروضة بسبب انتهاكات حقوق الإنسان في سنجان قد تحرم بكين من صفقة استثمارية طال انتظارها مع أوروبا.
ومن شأن تهديدات شي الموجهة لتايوان أن تساهم في تقريب واشنطن وتايبيه من بعضهما البعض، بينما تجبر القوى الإقليمية الأخرى مثل أستراليا واليابان على إعلان مصلحتها الخاصة في أمن تايوان. وقد أثارت اشتباكات الجيش الصيني مع الجيش الهندي في وادي غالوان سنة 2020 استياء الشق المتشدد في نيودلهي.
هذه الإخفاقات المتزايدة تعكس نسقًا واضحًا: كلما ازدادت قوة شي وزادت سلطته المباشرة على سياسة بكين الخارجية، كانت النتائج أكثر سلبية بالنسبة للمصالح الاستراتيجية طويلة الأمد للصين. فبعد عقود من المناورات الذكية والفعالة نسبيًا من قبل قيادة ما بعد فترة ماو، وجّه شي السياسة الخارجية نحو اتجاه جديد أكثر تسامحًا مع فكرة الاحتكاك مع الولايات المتحدة وأوروبا والقوى المجاورة مقابل قلة النقاش الداخلي أو المدخلات الخارجية، ونتيجة لذلك تغيب السياسة الخارجية للصين لتسيطر السياسة الخارجية الخاصة بشي.
مع تولي شي فترة ولاية ثالثة مدتها خمس سنوات في المؤتمر العشرين القادم للحزب، من المهم أن تعمل الولايات المتحدة وحلفاؤها ليس فقط على فهم دوافع وملامح سياسته الخارجية وإنما أيضًا على فهم النظام البيئي السياسي والبيروقراطي الذي يتخذ من خلاله القرارات. ومثلما أثبتت المناورة الطائشة التي شنّها بوتين في أوكرانيا، فإن وجود زعيم استبدادي محاط بالمتملقين وتغذيه المظالم التاريخية والطموحات الإقليمية يخلق خطرًا محتملًا. مع أن شي ليس بوتين والصين ليست روسيا، إلا أنه سيكون من غير الحكمة تجاهل أوجه التشابه المتزايدة بينهما.
الرجل الأوحد
لقد عزّز شي سلطته في الصين بالفعل ويشير الكثيرون إلى أنه يحتل مكانة مميزة داخل الجهاز البيروقراطي الصيني، إذ يتضّح بشكل متزايد أن هناك نوعًا من تقديس الشخصية يتبلور ضمن وسائل الإعلام الحكومية والقنوات الدعائية الأخرى. لكن الآثار المترتبة عن هذا الواقع لا تؤخذ على محمل الجد بشكل كاف، لا سيما تأثيرها على سلوك دولة الحزب الشيوعي.
لطالما كان هناك نمط يظهر عبر الأنظمة السياسية الاستبدادية حيث يظل القادة في مناصبهم لفترة أطول بكثير من نظرائهم الديمقراطيين. وكلما طالت مدة بقاء القائد في السلطة، فقدت مؤسسات الدولة كفاءتها الإدارية واستقلاليتها مع تطورها لتلائم التفضيلات الشخصية لذلك القائد، كما تساهم الجولات المتتالية من عمليات التطهير والترويج في تشكيل الشخصية البيروقراطية وتحركها بشكل تدريجي في نفس اتجاه الرؤية الكبرى للزعيم.
ما يبدأ كعقوبة رسمية للمعارضة الصريحة للقيادة يتحوّل في نهاية المطاف إلى نظام من الرقابة الذاتية غير الرسمية حيث يتمكن أعضاء البيروقراطية من فهم عبثية المعارضة، فيتماشون بشكل أفضل مع التوقعات غير المعلنة للامتثال. يصبح القائد أيضًا أكثر انطواء وعزلة معتمدا على مجموعة أصغر وأصغر من المستشارين الموثوقين لاتخاذ القرارات، والذين يظهرون له الولاء المطلق.
تكون هذه الدائرة المضيّقة نافذة القائد على العالم التي تعتمد على مدى دقة الواقع الخارجي الذي يختار أعضاؤها تقديمه له. هذه العملية الغامضة لصنع القرار تجعل من الصعب على المراقبين الخارجيين تفسير الإشارات الصادرة عن القيادة المركزية. ولكن الأهم من ذلك أن هذه العملية تعيق محاولة الجهات الفاعلة داخل هذه الأنظمة الاستبدادية توقع وتفسير تصرفات قادتها. والنتيجة سياسة خارجية لا يمكن التنبؤ بها، حيث يقوم القائد بصياغة قرارات مبكرة سرا بينما تتسابق بقية عناصر البيروقراطية للتكيف والرد.
لا يدير شي النظام السياسي الصيني بمفرده، ولكن كما هو الحال في روسيا التي يحكمها بوتين، فإن توطيد السلطة الشخصية على مدى فترة طويلة من الزمن يجعل عمليات صنع القرار تعمل لصالح شاغل المنصب ومستشاريه
أوضح تجسيد لهذه السياسة في الصين هو ماو تسي تونغ الذي أشرف على اضمحلال المؤسسات السياسية والإدارية الناشئة في الصين، وارتبط مفهوم البيروقراطية بالخضوع لأوامر ماو واستندت الترقيات إلى الصواب الأيديولوجي. وعلى الرغم من تأثير الجهات الفاعلة الأخرى على السياسة الخارجية لبكين، لا سيما رئيس الوزراء تشو إنلاي، إلا أن العامل الأكثر أهمية في تشكيل السلوك الاستراتيجي للصين كان رأي ماو الشخصي، ولكن تحديد هيمنة ماو على البيروقراطية الصينية لم يقدم في حد ذاته أي أدلة تساعد على تحديد قرارات السياسة الخارجية المستقبلية.
بسبب إيمانه بالنضال الثوري العالمي، دعم ماو الحركات المسلحة في جنوب شرق آسيا وقاده إحساسه بالسياسة الواقعية إلى تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة الرأسمالية بعد سنوات قليلة فقط. تمثّلت النقطة الأساسية في سياسة ماو الخارجية – كما هو الحال اليوم مع شي – في وجوب توافق المراقبين الخارجيين مع رؤيته للعالم وطموحاته ومخاوفه إذا أرادوا فهم تحركاته وتوقعها والبقاء في منأى عنها.
شي ليس ماو وليست لديه رغبة في تأجيج ثورة عالمية، كما أن نظرته إلى النظام السياسي المحلي المناسب أكثر تحفظًا بكثير مما كانت عليه وجهة نظر ماو. من المهم أيضًا التنويه إلى أن المعارضة الداخلية لسياسة شي الخارجية القومية والعدائية المتزايدة حاضرة بوضوح ومن المتوقع أن تتزايد نظرًا لأن قرارات شي أصبحت تؤثّر على مصالح الصين. لكن في الوقت ذاته، لا يستطيع خصوم شي فعل الكثير لتقييده بشكل هادف وهذا هو مستوى السلطة السياسية والبيروقراطية المهيمنة التي يمارسها الآن، إذ يتصدّر أنصاره أعلى المناصب في جميع مراكز القوة في الدولة بما في ذلك الجيش والأمن الداخلي والاقتصاد المملوك للدولة.
لا يدير شي النظام السياسي الصيني بمفرده، ولكن كما هو الحال في روسيا التي يحكمها بوتين، فإن توطيد السلطة الشخصية على مدى فترة طويلة من الزمن يجعل عمليات صنع القرار تعمل لصالح شاغل المنصب ومستشاريه. وبناء على ذلك، ينتظر النظام السياسي بأكمله في الصين أوامر شي فيما يتعلّق بعديد القضايا منها تايوان وأوكرانيا. وبالتالي، ستكون السياسة الخارجية خلال فترة المؤتمر العشرين للحزب، 2022 – 2027، مرتبطة برؤية شي الخاصة للأحداث الدولية ونظام اتخاذ القرار المعزول الذي يحيط به.
فريق متعنت
كيف ستكون معالم هذه الحقبة الجديدة؟ على الصعيد العملي، سيستمر تهميش هيئات الحكومة في الخارج مثل وزارة الخارجية. ونظريًا، ينبغي أن تكون وزارة الخارجية قناة حيوية لفهم إجراءات ونوايا القيادة العليا للصين بشأن السياسة الخارجية. هذا هو السبب في امتلاك المؤتمر الصحفي اليومي لوزارة الخارجية أهمية على مدى التاريخ ذلك أنه أحد النوافذ القليلة التي تُمكّن المراقبين الخارجيين من فهم سياسات بكين
تكافح وزارة الخارجية عمليًا لشرح الإشارات الواردة من مكتب شي بسبب مواقفه المتغيرة بشأن الأزمة الأوكرانية. تُطبق الديناميكية ذاتها داخل مكتب شؤون تايوان المسؤول نظريا عن سياسة العلاقات بين تايوان والصين. اتضح في السنوات الأخيرة أن مكتب شؤون تايوان غالبًا ما يصُدم بقرارات شي وهذا ما يجعله في حيرة من أمره حول طريقة توضيح سياساته ثم تنفيذها. من المهم فهم الحقائق الوظيفية لمثل هذا التهميش البيروقراطي للمضي قدمًا، فتصريحات الحكومة الصينية قد لا تعكس دائمًا وجهات نظر شي بدقة. وتعد الهيئات الغامضة والسرية مثل لجنة الأمن القومي ومختلف “المجموعات الصغيرة الرائدة” التي يقودها شي أهم من المؤسسات البيروقراطية التقليدية.
من المتوقع أن تستمر دائرة مستشاري شي في التقلص. ومع أنه من المعتاد بالنسبة للقادة في أي نظام سياسي الإشادة بالجهود التي يبذلها بعض المستشارين، إلا أن اتخاذ القرار الفعال يتطلب أن يقدم هؤلاء المستشارون وجهات نظر مختلفة. هناك الكثير لتعلمه حول ما جعل بوتين يؤمن بأنه قادر على تحقيق نصر سريع في أوكرانيا، وتظهر المؤشرات الأولية أن مستشاريه العسكريين ضللوه بشأن الحالة الحقيقية للجيش الأوكراني. وهذا المثال يثبت مدى أهمية تقديم معلومات دقيقة لأي منظمة سياسية، لاسيما في الأنظمة الأكثر انغلاقًا واستبدادًا.
حسب ما يفهمه المحللون، فإن المقرّبين من شي بما في ذلك لي زانشو ودينغ شويكسيانغ ووانغ هانينغ، من الجهات الفاعلة البيروقراطية لكن لا يوجد ما يشير إلى أنهم يتحدون أحكامه. ومع تقاعد بعض هؤلاء المسؤولين الكبار، سيكون شي محاطًا بشكل متزايد بقادة أصغر سنًا وأقل خبرة ومرونة، لكن ما يحتاجه شي هو فريق من المتنافسين. في الوقت الحالي، ما لديه الآن ومن المحتمل أن يكون لديه في المستقبل هو مجموعة من الرجال الذين يوافقون على كل قراراته دون جدال.
أما القضية الحاسمة فهي نظرة شي للعالم. يتضح من خطاباته ومقالاته أن نظرة شي إلى البيئة الأمنية في الصين خلال العقد المقبل متشائمة بشكل متزايد. وحسب ما صرح به خلال الفترة الأخيرة “لا يزال الوضع الدولي يمر بتغيرات عميقة ومعقدة”، مضيفًا أن “اللعبة التي تدور بين القوى الدولية الكبرى تزداد حدة، ناهيك عن أن العالم يدخل فترة جديدة من الاضطراب والتغيير”.
ينبغي على الولايات المتحدة وحلفائها إعطاء الأولوية للتواصل المباشر مع شي للتأكد من اطلاعه على بعض الأفكار البديلة
يعتقد شي أن الولايات المتحدة قد أضفت الطابع الرسمي على سياسة الاحتواء تجاه بكين. وعندما تتحدث واشنطن عن العمل مع “الحلفاء والشركاء”، يُخيّل إلى شي أنه يسمع تصريحات عن سياسة الاحتواء التي يعود تاريخها لحقبة الحرب الباردة من خلال ما يسميه “الدوائر الصغيرة الحصرية والكتل التي تستقطب العالم”. يمكن القول إن هذا التشخيص دفع شي إلى التقرب من بوتين وموسكو في الأشهر التي سبقت اجتماعهما في شباط/ فبراير، وهذا هو السبب في أنه لن يتخلى عن روسيا في المستقبل.
ليس التشاؤم فقط هو الذي يشكل نظرة شي القاتمة للعالم؛ إنه شعور قوي بالقومية تغذيه ثقته في القوة الاقتصادية والعسكرية للحزب الشيوعي الصيني وموقفه المتعنت تجاه مدى تماسك واستقرار الولايات المتحدة والديمقراطيات الأخرى. من المناسب القول إن بكين بالغت في التأكيد على رواية تراجع الهيمنة الأمريكية لأغراض دعائية محلية، إلا أن تحركات شي تشير إلى أنه مرتاح لتأكيد مصالح بكين حتى عندما تتعارض مع قدرات وتصميم الولايات المتحدة وحلفائها.
هناك العديد من الأمثلة على هذه الديناميكية بدءًا من تفكيك الصين المؤسسات الديمقراطية في هونغ كونغ وصولًا إلى حملة الإكراه الاقتصادي المتواصلة التي تخوضها ضد أستراليا. لا يتعلق الأمر بتبني بكين سياسات المواجهة دون أن تدفع ثمنًا باهظا وإنما بتنامي قدرة شي على تحمل المخاطر استجابةً لتقييماته المتغيرة لتوازن القوى العالمي.
اجتماع صفات القائد الاستبدادي والقومي الذي يتبنى وجهة نظر قاتمة بشكل متزايد بشأن البيئة الخارجية ينذر بقدوم فترة مضطربة. تتمتع الصين على الصعيد العالمي بأهمية أكبر بكثير مما كانت عليه خلال حقبة ماو. كما تختلف البيئة الدولية التي يحاول فيها شي توجيه المصالح الصينية عما كانت عليه خلال فترة الستينيات والسبعينيات. ودون القدرة النسبية على التنبؤ التي اتسمت بها حقبة الحرب الباردة والقطبية الثنائية، تصبح المنافسة اليوم أكثر تعقيدًا ويصعب التعامل معها.
لهذا السبب، ينبغي على الولايات المتحدة وحلفائها إعطاء الأولوية للتواصل المباشر مع شي للتأكد من اطلاعه على بعض الأفكار البديلة. سيكون من المهم أيضًا لقادة الدول ذات التوجهات المماثلة نقل رسائل متسقة خلال تفاعلاتهم المنفصلة مع القيادة الصينية. بعد كل شيء، استبعاد شي لواشنطن يعود “لعقلية الحرب الباردة” التي ظل متمسكا بها ولتجاهل تحالف عريض من الحلفاء الديمقراطيين. وعلى مدى العقود الأربعة الماضية، أظهرت الصين خلال مناسبات عديدة أنها تستطيع تغيير مسارها قبل أن تحدث كارثة. والسؤال المطروح الآن هو ما إذا كان بإمكانها القيام بذلك مرة أخرى في عهد شي.
المصدر: فورين أفيرز