ترجمة وتحرير: نون بوست
في ظل الحرب الروسية على أوكرانيا، اتبّع القادة الأتراك سياسة الموازنة بين الرغبة في مساعدة كييف في الدفاع عن نفسها والحفاظ على استمرارية العلاقات التجارية مع موسكو وذلك في إطار محاولاتهم إنقاذ الاقتصاد التركي المتعثّر.
زوّد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أوكرانيا بطائرات مسيرة مسلّحة لعبت دورًا في صدّ الهجوم الروسي. قالت تركيا إنها منعت بعض السفن الحربية الروسية من المرور عبر مضيق البوسفور إلى البحر الأسود. وفي الوقت نفسه، امتنعت تركيا عن الانضمام إلى الولايات المتحدة وغيرها من أعضاء حلف الناتو في فرض عقوبات على روسيا ويعود ذلك جزئيًا إلى رغبتها في حماية اقتصادها المتضرر فعلًا من التضخم من التداعيات الناجمة عن هذه الحرب.
في 14 آذار/ مارس، قال أردوغان “علينا الحفاظ على صداقتنا مع زيلينسكي وبوتين”. يرتبط الاقتصاد التركي ارتباطًا وثيقًا باقتصاد روسيا وأوكرانيا. تعد روسيا أهم شريك تجاري لتركيا بإجمالي مبادلات تجارية بلغت 35 مليار دولار في سنة 2021، وذلك وفقًا لبيانات الحكومة التركية، كما أنها أكبر مورد للغاز الطبيعي لتركيا بتوفير حوالي ثلث وارداتها، فضلا عن كونها مُنتجًِا رئيسيًا للقمح. في المقابل، بلغ حجم التجارة بين تركيا وأوكرانيا 7 مليارات دولار لكنّها توقّفت الآن بشكل كامل تقريبًا بسبب الحرب.
في الأيام الأولى من الغزو، تدافع المواطنون الأتراك على محلات البقالة بحثًا عن السلع الأساسية مثل زيت عباد الشمس الأوكراني على الرغم من أن الحكومة نفت وجود أيّ مشاكل في الإمداد. تعطلّت حركة السفن التركية التي تحمل مختلف أنواع الشحنات ـ من الشاحنات إلى الخضار ـ إلى أوكرانيا فيما أغلق أكثر من 200 متجر تركي لبيع الملابس في أوكرانيا منذ بدء الحرب.
هذا الأسبوع، قال رئيس اتحاد الأعمال الرئيسي في تركيا “توسياد” إنّ الحرب كلّفت الاقتصاد التركي ما يصل إلى 40 مليار دولار. وحسب يوسف يجيت ينر، المدير العام لشركة “جنك رورو” التركية التي تنقل الشاحنات عبر البحر الأسود بمعدل تسع مرات في الأسبوع، “تشهد التجارة عبر البحر الأسود جمودًا تامًا بسبب الحرب”، مضيفًا أنّ العودة إلى العمل قد تستغرق سنوات”.
اضطرت تركيا إلى تقليص شحنة قمح في وقت سابق من هذا الشهر بسبب ارتفاع الأسعار، وتبحث الآن عن أسواق بديلة وسط مخاوف من تعطل الإمدادات الروسية. تهدد العقوبات الدولية بتفكيك جزء كبير من تجارتها مع روسيا، لكنّ الخوف الأكبر يكمن في أنّ ارتفاع أسعار الطاقة قد يؤدي إلى ارتفاع معدلات التضخم.
إن الأسعار التي لا تتوقف عن الارتفاع مثّلت معضلة بالنسبة لتركيا في السنوات الأخيرة، وتتسبب الآن في تلاشي دعم الناخبين لأردوغان مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية المُقرّر عقدها السنة المقبلة. ارتفع معدل التضخم الرسمي إلى أكثر من 54 في المئة في شباط/ فبراير، وهو أعلى معدل تشهده البلاد منذ 20 عامًا وواحد من بين أعلى المعدلات في العالم. كما قفز مؤشر مينمين – وهو مقياس لتضخم أسعار الغذاء ـ إلى أكثر من 100 في المئة في نفس الشهر مقابل 64 في المئة في الشهر السابق.
قال عامل في مطعم يبلغ من العمر 32 عامًا يتسوق من أحد أسواق المنتجات الطازجة في إسطنبول “لا يمكنني شراء ما أريد لأولادي”، مشيرًا إلى كيس ورقي صغير يحمل حبتين أو ثلاث من الفراولة اشتراها لابنته ذات الخمس سنوات “هذا كل ما يمكنني شراؤه”.
وحسب ما أشار إليه محلل الأسواق الناشئة في شركة “بلو باي” لإدارة الأصول في لندن تيموثي آش فإنّ “قطاع الطاقة في تركيا والسياحة والواردات الغذائية تتعرض للضرر على جميع الجبهات”.
مع تراجع قيمة الليرة التركية وارتفاع معدلات التضخم يستعيض الأتراك عن عملتهم المحلية بالعملات المشفرة. وهنا تشرح شيلبي هوليداي من صحيفة “وول ستريت جورنال” ما قد يعنيه ذلك بالنسبة للاقتصاد التركي وسوق التشفير بشكل عام.
بدأت صدمة الحرب تطغى على محاولات أردوغان تحقيق الاستقرار الاقتصادي بعد أزمة العملة السنة الماضية، حين خسرت الليرة التركية 45 بالمئة من قيمتها مقابل الدولار في الربع الرابع فقط من السنة. دفع الركود الملايين من الأتراك نحو عتبة الفقر ويُهدد بتقويض موقف أردوغان بعد حكم البلاد لمدة 19 سنة مع تراجع الدعم الشعبي حسب ما تظهره استطلاعات الرأي.
قبل الهجوم الروسي، كانت الحكومة التركية تحاول تثبيت سعر الليرة دون الترفيع في أسعار الفائدة، كجزء من رؤية أردوغان الاقتصادية غير التقليدية التي تهدف إلى تحفيز النمو الاقتصادي. ويوم الخميس، أعلن البنك المركزي التركي تثبيت نسبة الفائدة عند 14 بالمئة. في الأثناء، نجح المسؤولون الأتراك في تنسيق السياسات الاقتصادية على غرار بيع السندات الأجنبية ومقايضة العملات مع الإمارات العربية المتحدة والاستفادة من برنامج الادخار المتخصص.
حاولت تركيا – شأنها شأن الدول الأخرى – التوسط مباشرة في الأزمة من خلال استضافة اجتماع ثلاثي في وقت سابق من هذا الشهر بين وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، ونظيريه الروسي والأوكراني.
مع أن القمة لم تسفر عن أي نتائج دبلوماسية تُذكر إلا أنها نجحت في تسليط الضوء على تركيا بصفتها وسيطًا طموحًا في الشؤون الإقليمية. وأشاد الرئيس بايدن، في اتصال هاتفي مع أردوغان في نفس يوم الاجتماع، بجهود تركيا للوساطة. كما زار تركيا في الأيام الأخيرة قادة أجانب مثل المستشار الألماني أولاف شولتز والأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ وغيرهم من المسؤولين.
قال أيدين سلكان، المحلل الأمني والدبلوماسي التركي الكبير السابق: “هذا ما يتيح لتركيا أو للرئيس أردوغان مجالًا أكبر للمناورة الدبلوماسية”، وأضاف أن “أردوغان يحاول التقليل من الضرر الاقتصادي وتعظيم المكانة الدولية لتركيا”.
وفقًا لغرفة النقل البحري التركية، فإن تأثير الحرب يستمر في الانتشار عبر البحر الأسود وأدى إلى تعطيل جزء كبير من صناعة الشحن في تركيا التي تمثل 2.38 بالمئة من إجمالي الاقتصاد. وحُوصرت اثنتان من سفن “سينك رورو” و26 فردا من طاقمها في ميناء تشورنونورسك الأوكراني ولا يستطيعون العودة، بينما ظل السائقون الأوكرانيون عالقين في تركيا. ووفقًا لرئيسها التنفيذي، خسرت الشركة 870 ألف دولار في أسبوع واحد.
أمضى ينر أيامه الأخير في عقد اجتماعات الأزمات وهو يعمل على إخراج طاقمه من أوكرانيا، مشيرًا إلى أن طاقم السفن يمكنه سماع الانفجارات ورؤية وميض من الاشتباكات القريبة. ووفقًا لما ذكره هاكان سينديك، نائب رئيس رابطة مالكي ومشغلي السفن الساحلية “كوسدير”، لا تزال 23 سفينة مملوكة لتركيا و300 من أفراد الطاقم عالقين في المياه الأوكرانية في الوقت الحالي.
حتى إن تمكنت الشركات التركية من إيجاد طريقة لدفع الأموال لنظرائها الروس، فإنها لا تعرف ما إذا كان بإمكانها إعادة تصدير السلع الغذائية مثل الدقيق والمعكرونة ومنتجات الصلب المصنوعة من مواد روسية بسبب العقوبات
تقول مجموعات صناعية إن الشركات التركية التي تأمل في استئناف التجارة مع روسيا تجد نفسها مجمدة بسبب العقوبات الاقتصادية المفروضة على موسكو، بما في ذلك الحظر الجزئي على وصول روسيا إلى نظام “سويفت” للمدفوعات.
ذكر سينديك أنه حتى إن تمكنت الشركات التركية من إيجاد طريقة لدفع الأموال لنظرائها الروس، فإنها لا تعرف ما إذا كان بإمكانها إعادة تصدير السلع الغذائية مثل الدقيق والمعكرونة ومنتجات الصلب المصنوعة من مواد روسية بسبب العقوبات المفروضة على روسيا. وأضاف “يمر الجميع بنفس الوضع، دعونا ننتظر ونرى ما سيحدث”.
قبل جائحة كوفيد-19، تعرض القطاع السياحي الذي يساهم بنحو 4 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي لتركيا ويمثّل مصدرًا مهما للعملة الأجنبية لضربة قوية. شكل السياح من روسيا وأوكرانيا ربع إجمالي الوافدين إلى تركيا السنة الماضية، ولكن هذا التدفق قلّ في الوقت الراهن.
في غضون ذلك، كان البنك المركزي التركي يستنفذ أصوله الأجنبية في محاولة لدعم الليرة. وقد أظهرت بيانات عامة أن البنك المركزي باع إجمالي 5.4 مليار دولار للشركات المملوكة للدولة في شباط/ فبراير. ويقول محللون إن جهود دعم الليرة، التي بدأت في كانون الأول/ ديسمبر، تسارعت منذ بداية الحرب. وأكد الاقتصادي التركي أوغور غورسيس إن احتياطي البنك قد انخفض بنحو ملياري دولار في يوم واحد في أواخر شباط/ فبراير.
المصدر: وول ستريت جورنال