ترجمة وتحرير: نون بوست
كان رومان أبراموفيتش – صاحب الوجه الطفولي والشخصية الحازمة وأحد أغنى رجال الأعمال الروس – يبلغ من العمر 34 سنة عندما اتخذ خطوة لم تكن مفهومة في ذلك الوقت. في سنة 2000، أصبح أبراموفيتش – اليتيم المنقطع عن دراسته الجامعية – مقربًا من الكرملين بعد أن جمع ثروة طائلة من خلال الاستحواذ على الشركات التي كانت في السابق مملوكة للدولة السوفيتية. كان يمتلك حوالي نصف شركة النفط “سبنفت” وحصة كبيرة من ثاني أكبر منتج للألمنيوم في العالم. يُعرف أبراموفيتش بذوقه المتنوّع فكان يفضل تناول الأطعمة الصينية وقضاء العطلات في الجنوب الفرنسي، ولكنه أعلن آنذاك الانتقال إلى منطقة تشوكوتكا النائية – وهي منطقة وعرة معزولة في القطب الشمالي – وأنه يعتزم الترشح للانتخابات.
تعتبر تشوكوتكا، التي تبعد حوالي 3700 ميل عن موسكو، منطقة وعرة بسبب مناخها القاسي ورياحها العاتية. عندما وصل أبراموفيتش إليها، كان عدد السكان ضئيلا ويعانون الفقر وإدمان الكحول. وبعد انتخابه حاكمًا للإقليم بغالبية مطلقة من الأصوات بلغت 92 بالمئة – كان منافسه مواطنا يرعى الرنة – خاطب رعاياه الجدد قائلا “متى سيكون لدينا وقود؟ متى سنحصل على اللحوم؟” لم يكن هناك طعام صيني في تشوكوتكا.
تعجب أبراموفيتش قائلا “الناس هنا لا يعيشون، إنهم موجودون فقط”. كان خجولا بطبيعته، ولكنه لم يكن سياسيًا بالفطرة. لقد استثمر الكثير من أمواله في المنطقة، لكن بدا أنه لا يستمد أي متعة من وظيفته الجديدة. ولا يمكنه أن يشرح، بما يرضي أي شخص، ما كان يفعله هناك. عندما سافر مراسل من صحيفة “وول ستريت جورنال” إلى تشوكوتكا لطرح هذا السؤال عليه، ادعى أبراموفيتش أنه “سئم” كسب المال. تكهنت الصحيفة بأنه كان يضع مخططا – هل كان لديه دليل على وجود بعض الموارد الطبيعية غير المستغلة تحت التندرا؟ اعترف أبراموفيتش بأن أصدقاءه “لا يستطيعون فهم” سبب قيامه بهذه الخطوة. وقال إنهم “لا يستطيعون حتى التخمين”
بعد ثلاث سنوات من توليه منصب الحاكم، احتل أبراموفيتش مكانة بارزة وتصدر اسمه عناوين الصحف الشعبية عندما اشترى نادي تشيلسي لكرة القدم في لندن. وفي سنة 2009، انتقل للعيش في قصر مكوّن من 15 غرفة نوم يقع خلف قصر كنسينغتون، اشتراه مقابل 90 مليون جنيه إسترليني. تميز يخته الفخم “إكليبس” بمهبطين للطائرات العمودية ونظام دفاع صاروخي خاص به، وتولى استضافة حفلات ليلة رأس السنة بحضور ضيوف مثل ليوناردو دي كابريو وبول مكارتني. لقد كان يعيش بعيدًا عن تشوكوتكا.
بدت هذه الفترة غير المتوقعة من حياته منسيةً في الغالب إلى أن صدر كتاب في سنة 2020 بعنوان “رجال بوتين: كيف استردت المخابرات الروسية روسيا ثم استولت على الغرب؟” للصحفية البريطانية كاثرين بيلتون التي تغطي أخبار روسيا. تروي بيلتون في كتابها كيف شرع فلاديمير بوتين في إدارة الدولة واقتصادها مثل رجل مافيا بعد أن أصبح رئيسا لروسيا في سنة 2000 – مستعينًا برجال الأعمال المستقلين ظاهريًا مثل رومان أبراموفيتش.
أخبرتنا بيلتون أن أبراموفيتش ذهب إلى تشوكوتكا “بناءً على أوامر بوتين”. لقد جمع الجيل الأول من الرأسماليين في فترة ما بعد الاتحاد السوفيتي ثروات هائلة، وشرع بوتين في إخضاع الأوليغارشية لسيطرة الدولة. لقد كان لديه نفوذ على المسؤولين الحكوميين، وأجبر أبراموفيتش على أن يصبح واحدًا منهم. قال أحد مساعدي أبراموفيتش لبيلتون “أخبرني بوتين أنه إذا خالف أبراموفيتش القانون بصفته حاكما، فيمكنه سجنه على الفور”. وتؤكد بيلتون أن “النظام الإقطاعي” بدأ في الظهور، حيث يُضطر مالكو أكبر الشركات الروسية “العمل كمديرين معينين يمثلون الدولة”. كانت عروضهم المبهرجة للثروة الشخصية بمثابة تضليل ذلك أن هؤلاء الأوليغارشية كانوا مجرد قادة استجابوا للزعيم الأكبر. لم تكن ثرواتهم ملكهم وإنما كانت ثروة بوتين. كتبت بيلتون أنهم “لم يكونوا سوى حُماة، وقد حافظوا على أعمالهم بمباركة الكرملين”.
أكدت بيلتون – نقلا عن حليف بوتين السابق سيرغي بوجاتشيف ومصدرين آخرين لم تكشف عنهما – أن أبراموفيتش اشترى نادي تشيلسي لكرة القدم بناءً على أوامر بوتين. وكتبت “لقد قدر الكرملين في عهد بوتين بدقة أن السبيل إلى اكتساب القبول في المجتمع البريطاني هو استغلال أعظم حب للبلاد، وهي الرياضة الوطنية”. أخبرها بوجاتشيف أن الهدف كان بناء “جسر للنفوذ الروسي في المملكة المتحدة”. ويضيف “أخبرني بوتين شخصيًا عن خطته للاستحواذ على نادي تشيلسي لكرة القدم من أجل تعزيز نفوذه ورفع مكانة روسيا، ليس فقط بمساعدة النخبة بل بمساعدة الشعب البريطاني أيضًا”.
إن التلميح الصارخ في عبارة “رجال بوتين” لا يعني أن رئيس روسيا قد يكون شريكًا صامتا في أحد أكثر الأندية الرياضية شهرةً في إنجلترا فحسب، وإنما يشير أيضًا إلى أن إنجلترا نفسها شريك صامت ومكافئ في مخططات بوتين الكليبتوقراطية. وعلى هذا النحو، اخترق الأوليغارشيون الروس خلال العقدين الماضيين الأنظمة السياسية والاقتصادية والقانونية في إنجلترا. أكد رئيس الوزراء بوريس جونسون في أعقاب غزو أوكرانيا على ضرورة “ملاحقة الأوليغارشية الروس”، باذلا قصارى جهده ليبدو مثل تشرشل. ولكن في الوقت الذي يعمل فيه المجتمع الدولي على عزل بوتين وأتباعه، فإن السؤال المطروح هو ما إذا كانت إنجلترا معرضةً للخطر بسبب الأموال الروسية.
على امتداد السنوات الماضية، قاد المراسل الروسي السابق أوليفر بولوغ “جولات كليبتوقراطية” حول لندن موضحًا كيف غيرت الأموال القذرة الخارجية المدينة. ويظهر بولوغ بحافلة مليئة بالمتطفلين أمام القصور الفخمة وأبراج الشقق المصنوعة من الفولاذ والزجاج في نايتسبريدج وبلغرافيا وهو يشير إلى المساكن التي تقدر قيمتها بملايين الجنيهات الإسترلينية التي تعود ملكيتها للمغتربين المشبوهين الذين يجدون ملاذًا هناك.
في كتابه بعنوان “كيف أصبحت بريطانيا خادمة للأوليغارشيين والمتهربين من الضرائب والكلبتوقراطيين والمجرمين” الذي نُشر مؤخرًا في المملكة المتحدة، يُجادل أوليفر بولوغ بأن إنجلترا سعت بنشاط لاستقطاب مثل هؤلاء المؤثرين الفاسدين من خلال السماح لـ “بعض أسوأ الناس في الوجود” بممارسة أعمالهم التجارية فيها.
مستشهدا بملاحظة دين أتشيسون الشهيرة في سنة 1962 بأن “بريطانيا العظمى فقدت إمبراطورية ولم تجد دورًا بعد”، يقترح بولوغ أن بريطانيا وجدت دورًا وهو مقدم خدمات إلى النخبة الفاسدة دون محاسبة بشكل يتيح لها الوصول إلى أسواق رأس المال والعقارات الرئيسية، والتسوق في محلات هارودز، وارتياد المدارس الخاصة البارزة، والتعامل مع محاسبين لممارسة التحايل الضريبي، وتوكيل محامين للمشاحنات القانونية، وتوظيف “مديري السمعة” للتجاوزات غير المرغوب فيها. يبدأ الأمر بالتأشيرات، حيث يمكن لأي أجنبي لديه ما يكفي من الأموال شراء تأشيرة عن طريق استثمار مليوني جنيه إسترليني في المملكة المتحدة. (علمًا بأنه يمكنك شراء إقامة دائمة مقابل عشرة ملايين جنيه إسترليني)
يمكن للأوليغارشية في لندن من التهرب من المحاسبة عبر ميلهم إلى متابعة الإجراءات القانونية العقابية ضد الأشخاص الذين يطعنون بهم، مستغلين نظامًا قانونيًا يتسم بالتسامح بشكل ملحوظ تجاه المدعين بالتشهير
لطالما كانت العقارات في لندن خيارًا مناسبًا لمثل هذه الاستثمارات. بعد الإطاحة بالملك قسطنطين الثاني في أعقاب انقلاب عسكري في اليونان سنة 1967، انتقل إلى قصر يطل على منتزه هامبستيد هيث. ومنذ ذلك الحين، سعى أثرياء العالم إلى إيجاد ملاذ آمن في المناطق الخضراء بالمدينة. وفي أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي، تسابق الروس إلى سوق الإسكان في لندن. وصف أحد سماسرة العقارات زبائنه الروس بأنهم “ينفقون نقودهم بكل سعادة”. ووفقًا لأرقام جديدة من منظمة الشفافية الدولية، اشترى الروس المتهمون بالفساد أو بارتباطهم بالكرملين ممتلكات في بريطانيا العظمى تتجاوز قيمتها 1.5 مليار جنيه إسترليني. ولا شك أن الرقم الحقيقي أعلى ولكن من المستحيل تقريبًا التحقق منه لأن العديد من هذه المعاملات تتم في كنف السرية. وتصف صحيفة “الإيكونوميست” لندن بأنها “دلو مليء بالثروة الروسية المريبة”.
تعمّق بولوغ في دراسة هذه العملية. وفي كتاب آخر صدر في سنة 2018 بعنوان “أرض الأموال: لماذا يحكم اللصوص والمحتالون الآن العالم وكيفية استعادته”، أوضح بولوغ أنه بالنسبة إلى الوافدين الذين لديهم مصالح في المملكة المتحدة، فإن الوطن الجديد الجذاب يعد بمثابة الخطوة الأولى لإنشاء مسار لتبييض السمعة.
تتمثل الخطوة التالية في استئجار شركة علاقات عامة. يقول بولوغ إن “وكالة العلاقات العامة تضعهم على اتصال بأعضاء البرلمان المُذعنين، الذين هم على استعداد لطرح أسمائهم على مؤسسة الملياردير الخيرية. ثم تطلق المؤسسة أعمالها في مكان مناسب للفعاليات بلندن – ويعتبر المعرض مكانًا مثاليًا. وفي نهاية المطاف، سيضع الملياردير الذكي “اسمه في المؤسسة، أو يصبح مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بمؤسسة قد تكون كذلك”. كما يعتبر تقديم هبات للجامعات وأندية كرة القدم أمرا شائعًا
لعل الأمر الأكثر ملاءمة في تشبيه بولوغ لبريطانيا بالخادم هو العقارات الفخمة التي تضفي هالة من الاحترام حتى لأشد الثروات فسادًا. ويقترح بولوغ أنه قد يكون من الصعب فهم انبهار المرتزقة بدور بريطانيا لأنها تتعارض تمامًا مع الصورة العامة لبريطانيا. مع ذلك، فإن بيلتون وبولوغ يؤيدان التشخيص المحبط الذي قام به توم بورغيس، مؤلف الكتاب الممتاز “كليبتوبيا: كيف تغزو الأموال القذرة العالم” (2020). وقد وجدت وكالة الجريمة الوطنية البريطانية أن “مئات المليارات من الجنيهات الإسترلينية من الأموال الإجرامية الدولية” يتم غسلها من خلال البنوك والشركات التابعة في المملكة المتحدة كل سنة، بينما وصفت لجنة المخابرات بالبرلمان لندن بأنها “مغسلة” للأموال الروسية غير المشروعة. ومن جهتها، أعلنت لجنة الشؤون الخارجية في مجلس العموم في سنة 2018 أن السهولة التي يخفي بها الرئيس الروسي وحلفائه ثرواتهم في لندن هي التي ساعدت بوتين على تنفيذ أجندته في موسكو.
في السنوات الأخيرة، وفي كل مرة كان بوتين يتخذ فيها خطوة استفزازية – بما في ذلك اغتيال ألكسندر ليتفينينكو في مايفير في سنة 2006، وضم شبه جزيرة القرم في سنة 2014، وتسميم سيرغي سكريبال وابنته في سالزبوري في سنة 2018 – اعترف سياسيون ومعلقون بريطانيون بتواطؤ لندن مع نظامه وتعهدوا باتخاذ خطوات للتصدي لذلك. لكن تهديداتهم لم تتجاوز حدود الكلمات. يبدو أن المؤسسة السياسية الإنجليزية، مثل أي شيء آخر في لندن، معروضة للبيع. كان بوريس جونسون في منصب عمدة لندن رجلًا متملقًا للمشترين الأجانب متفاخرًا بأن العقارات في المدينة قد نمت بشكل مرغوب فيه لدرجة أنها “كانت تُعتبر فئة أخرى من الأصول”. وقد تبرعت الأوليغارشية الروسية بملايين الجنيهات الإسترلينية لحزب المحافظين، وجندوا اللوردات البريطانيين في مجالس إدارة شركاتهم.
في مزاد لجمع التبرعات في حفلة حزب المحافظين الصيفية في سنة 2014، دفعت امرأة تُدعى ليوبوف تشيرنوخين – التي كانت متزوجة آنذاك من فلاديمير تشيرنوخين، أحد نواب وزراء المالية السابقين لبوتين – 160 ألف جنيه إسترليني للجائزة الكبرى: مباراة تنس مع جونسون وديفيد كاميرون الذي كان رئيس الوزراء في ذلك الوقت. دافع جونسون عن المباراة مستنكرا “مستنقع الشك” متوجهًا بالكلام إلى “جميع الأثرياء الروس في لندن”. قال أوليغارشي روسي لكاثرين بيلتون: “في لندن، يحكم المال الجميع. يمكن شراء أي شخص وأي شيء”. وقال المصدر إن الروس جاءوا إلى لندن “لإفساد النخبة السياسية في المملكة المتحدة”.
يتمثّل السبب الآخر الذي يمكّن الأوليغارشية في لندن من التهرب من المحاسبة في ميلهم إلى متابعة الإجراءات القانونية العقابية ضد الأشخاص الذين يطعنون بهم، مستغلين نظامًا قانونيًا يتسم بالتسامح بشكل ملحوظ تجاه المدعين بالتشهير. وفي كانون الثاني/ يناير 2021، نشر المنشق الروسي والناشط المناهض للفساد أليكسي نافالني، الذي نجا مؤخرًا من محاولة اغتيال، مقطع فيديو بعنوان “قصر بوتين” اتهم فيه الرئيس الروسي بأنه “مهووس بالثروة والترف” وقدم معلومات حول مجمع بمليارات الدولارات قيل إن بوتين بناه لنفسه على ضفاف البحر الأسود. قال نافالني الذي حمل معه في مرحلة ما نسخة من كتاب كاثرين بيلتون: “تقوم روسيا ببيع النفط والغاز والمعادن والأسمدة والأخشاب بكميات ضخمة، لكن مداخيل الناس تتراجع. كما أن الأوليغارشية تؤثر على القرارات السياسية خلسة”.
لم يمض سوى وقت قصير حتى قام رومان أبراموفيتش برفع دعوى قضائية ضد بيلتون وهاربر كولينز في لندن، في الوقت الذي ظل فيه كتاب “رجال بوتين” على الرفوف لما يقارب سنة الأمر الذي دفع بيلتون إلى الشك في أن تأييد نافالني قد أدى إلى تحفيز الدعوى. وصف نافالني أبراموفيتش بأنه “أحد عوامل التمكين وأنه من المستفيدين الرئيسيين من حكم اللصوص الروسي”. وفي غضون أيام، رفع ثلاثة مليارديرات روس آخرين دعاوى قضائية ضد الكتاب، مثلما فعلت شركة النفط الوطنية روسنفت. أما بالنسبة لبيلتون فقد شعرت بأنه “هجوم منسق ومرعب”.
سميت دعوى أبراموفيتش بـ “بيلتون وهو ما يعني أن منزلها ومدخراتها ستكون على المحك. كان من المتوقع أن تكلف القضية عشرة ملايين جنيه إسترليني إذا ما رُفعت للمحاكمة، وبموجب القانون الإنجليزي يمكن أن يُطلب من الذين يخسرون الدعوى دفع التكاليف القانونية لخصمهم، وهو ما يُعد سببًا وراء رغبة الأثرياء في مقاضاة المنتقدين في لندن. في الخريف الماضي، قامت شركة التعدين الكازاخستانية “أوراسيا للموارد الطبيعية” برفع دعوى قضائية ضد توم بورغيس بسبب مزاعم وردت في كتاب “كليبتوبيا”، لكنها قُوبلت بالرفض في الثاني من آذار/ مارس. وتُعد قضايا التشهير مشكلة إنجليزية مزمنة أخرى يأسف عليها الجميع ولكن لا يفعلون أي شيء حيالها.
وفقا للنشرة التجارية البريطانية “ذا لوير”، فإن هذه القضايا مربحة بالنسبة لمحامي الأوليغارشية المرنين أخلاقيًا، حيث تتقاضى بعض مكاتب المحاماة “علاوة روسية” تصل إلى 1500 جنيه إسترليني في الساعة مقابل خدماتها. وقد نجح المحامون الذين يمثلون الأوليغارشية في الحفاظ على سلامتهم إلى حد كبير من أفعالهم البغيضة. ومن بينهم المحامية المتورطة في دعوى هاربر كولينز، جيرالدين برودلر، التي سبق أن رفعت دعوى قضائية ضد ناشط مكافحة الفساد بيل براودر بالنيابة عن مسؤول روسي اتُهم بالتورط في تعذيب وقتل المحامي سيرغي ماغنيتسكي في سنة 2009. (وقد ربح براودر الدعوى). ومن المفارقات أن هذه المحامية عملت في منظمة “إنجلش بن” التي تدعو إلى حرية التعبير وحقوق الإنسان).
عند تقييم هذا الوضع القانوني المزري، لا يكفي النظر في القضايا المرفوعة ضد الكتب والمقالات فحسب، بل أيضا الكتب والمقالات التي لم تُنشر مطلقًا في إنجلترا منذ البداية. في سنة 2014، قدّمت عالمة السياسة الأمريكية كارين دويشا كتابها “كليبتوقراطية بوتين: من يملك روسيا؟” لمطبعة جامعة كامبريدج من أجل نشره منذ فترة طويلة. ولكن بعد مراجعة العمل، كتب المحرر جون هاسلام إلى دويشا مادحا الكتاب أن كامبريدج لا تستطيع نشره وأوضح أن “الخطر الكبير يكمن في أولئك المتورطين في مقدمة الكتاب – وأن بوتين لديه دائرة قريبة من الأوليغارشية المجرمين تحت تصرفه التي قضى حياته المهنية في رعايتها – الذين سيكونون متحمسين لمقاضاتها”. وقال هاسلام، إنه حتى لو ربحت الصحافة في نهاية المطاف، فإن تكاليف الإجراءات قد تكون مدمرة.
في حالة من الغضب العارم، كتبت دويشا أن المملكة المتحدة أصبحت على ما يبدو “منطقة حظر طيران” عندما يتعلق الأمر بنشر أعمال تكشف “حقيقة هذه المجموعة الأوليغارشية التي لا تتردد في شراء بلجرافيا وقتل المنشقين في بيكاديللي باستخدام البولونيوم 210، ومحاربة أفرادها لبعضهم البعض في المحكمة العليا، وإخفاء أطفالهم في المدارس الداخلية البريطانية. ونتيجة لمعرفتهم المتزايدة وتأثيرهم في المملكة المتحدة وفي أهم مؤسساتها، فقد انخرطوا في عمليات استباقية لحرق الكتب”. (ولكن الكتاب نُشر في النهاية من قبل دار سايمون وشوستر للنشر في الولايات المتحدة).
عشية الغزو الروسي إلى أوكرانيا، انتقل يخت “غريسفول”، الذي تبلغ قيمته 100 مليون دولار ويعتقد أنه يعود إلى فلاديمير بوتين، على عجل من ميناء ألماني إلى المياه الروسية في كالينينغراد
تتمثل إحدى أهم الصعوبات التي يواجهها المؤرخون الذين ينتقدون الفاسدين المحتملين في إنجلترا في أن الشخص الذي يرفع دعوى تشهير لا يتعين عليه إثبات مدى صحة دعوته طالما أن هناك دليلًا على حدوث “ضرر جسيم”. وبدلا من ذلك، يجب على المؤلف إثبات صحة ذلك. إنه معيار مرهق للغاية عندما يتعلق الأمر، على سبيل المثال، بإثبات الملكية الحقيقية ليخت فاخر أو الديناميكيات الدقيقة لحملة التأثير المدبرة التي نظمها جواسيس الاستخبارات الروسية.
في كتابه “كليبتوبيا” يشير توم بورغيس إلى أن القدرة على إخفاء أصول الأموال المسروقة كانت “المهارة الأعلى تقديرا مقارنة بالمهارات الأخرى” في الاتحاد السوفيتي السابق. على الورق، تتألف محفظة عقارات بوتين بشكل أساسي من شقة واحدة متواضعة بشكل واضح وقد نفى أن يكون القصر المطل على البحر الأسود ملكًا له. في هذه الحالة، يكون الوسطاء المحترفون في لندن في متناول اليد. كما أن هناك صناعة مزدهرة في التمويه تبرز من خلال إنشاء شركات وهمية، وملاذات ضريبية، وصناديق استثمارية خارجية.
في رسالته إلى دويشا، اعترض هاسلام على أن “بوتين لم يتم إدانته” بالجرائم الموصوفة في الكتاب، ونشر الادعاءات سيكون محفوفًا بالمخاطر مهما كانت موثقة جيدًا طالما أنها لم تُسفر بعد عن إدانة جنائية، ويمكن للنظام القانوني أن يمنح مرتكبي الجرائم الذين يمتلكون تمويلا جيدا مرورًا مجانيًا خاليًا من التدقيق.
وفقا لتحقيق أجرته شبكة “بزفيد”، تعتقد المخابرات الأمريكية أن ما لا يقل عن 14 شخصًا قد اغتيلوا على الأراضي البريطانية من قبل مجموعات المافيا الروسية أو الأجهزة السرية التي تتعاون مع بعضها البعض أحيانا، لكن السلطات البريطانية تميل إلى عدم تسمية المشتبه بهم أو توجيه التهم إليهم. وبدلا من ذلك، استنتجوا بتردد مقلق أن مثل هذه الوفيات هي نتيجة لحالات انتحار. وفي مقابلة مع الإذاعة الوطنية العامة في أواخر شباط/ فبراير، قال بيل براودر عندما سُئل عما إذا كان سيعلن عن أسماء الأوليغارشية الروس الذين لم يُعاقبوا بعد: “أنا أعيش في لندن. لذلك من غير الحكمة تسميتهم”.
ومع أن كاثرين بيلتون نشرت أسماءهم إلا أنها تعاني أيضًا من التحدي المتمثل في تقديم برهان مطلق في عالم يتسم بالإنكار الغامض. هناك السجل الرسمي – صكوك الملكية، والإدانات القانونية – وهناك ما يعرفه الجميع. وقد سبق أن قال لها أحد مساعدي أبراموفيتش ذات مرة: “إنها ليست أمواله فحسب، إنه ممثل بوتين”.
أوضح أحد الأوليغارشية الروس الذي يُدعى أوليغ ديريباسكا: “إذا قالت الدولة إنه علينا أن نستسلم حينها سنستسلم، فأنا لست منفصلاً عن دولتي وليست لدي أي مصالح أخرى” (لكنه ادعى لاحقاً بأنه كان يمزح). ومرَّة أخرى ومن “جماعة بوتين”، تروي بيلتون الرواية الرسميّة للقصة وتنقل ما فهمت على أنه القصة الحقيقيّة. وقد أشارت إلى “رأسماليّة المخابرات السوفيتيّة الناشئة التي لا يبدو فيها أي شيء على حقيقته”. هذه الصورة التي تظهر عندما يُصمم الجواسيس السابقون الاقتصاد الوطني.
في كتاب “رجال بوتين” شهادة لأحد المقربين من أبراموفيتش الذي قال إنه “لم يكن تحت توجيه الكرملين” حين اشترى نادي تشيلسي. وقد استخدمت بيلتون في كتابها عبارة “مهما كانت حقيقة الأمر” لتقر فيها بمحدودية عملها. لكن ذلك لم يكن كافيًا بالنسبة لأبراموفيتش الذي قال ممثلون عنه إن سيرغي بوغاتشيف مصدر غير موثوق. كما أكّد محاموه أنه “لم يتم إعلام القارئ في أي مرحلة من المراحل بأن أبراموفيتش في الواقع شخص بعيدٌ عن بوتين ولم يشارك في العديد من المخططات الفاسدة التي تناولها الكتاب”. كما عقّب محاموه في وقت لاحق قائلين: “من السخف الإشارة إلى أن موكلنا يتحمل أي مسؤولية عن سلوك الدولة الروسية أو أن له تأثيرًا عليها”.
من الممكن عزل بوتين من خلال قطع وصوله إلى الموارد أو حتى من خلال تشجيع رجاله للضغط عليه ليُغير سلوكه أو أن يتركوه وشأنه.
في كانون الأول/ ديسمبر، تمت تسوية القضية ووافقت كل من بيلتون وهاربر كولينز على إجراء بعض التغييرات والتوضيحات في الطبعات المستقبلية من الكتاب، ليحتوي على تفنيد أقوى للادعاءات المتعلقة بنادي تشيلسي وتأكيد على أن الادعاءات المتعلقة بالفريق لا يمكن وصفها على أنها مُسلَّمات. كما تم الإتفاق على إزالة السطر الذي يشير إلى أبراموفيتش على أنّه “ممثل بوتين”، وإضافة تعليقات للمتحدث باسمه.
من جهته، أصدر نادي تشيلسي بيانًا متعجرفًا أعرب فيه عن ارتياحه لأن بيلتون “اعتذرت للسيد أبراموفيتش”؛ بينما تعهّد هاربر كولينز بدفع مبلغ من المال إلى المؤسسة الخيرية التي يختارها. وقد رحّبت بيلتون بهذه التسوية باعتبارها نصرًا – حيث لن تضطر إلى الذهاب إلى المحاكم أو إجراء تعديلات على كتابها. ولكن الإرهاق والإحباط كان واضحًا عليها: “كأن العام الماضي كان حرب استنزاف”. غامر الصحفي كوهن، كاتب العمود في صحيفة “الأوبزرفر”، بقول إن “الأوليغارشية يمكنهم التلاعب بالحقيقة هنا كما يتلاعب بها بوتين في روسيا”.
وفي الأيام التي تلت غزو بوتين لأوكرانيا، بدأت كوميديا بطيئة الحركة تتكشف في مختلف المرافئ المذهلة للسياح التي ترسو فيها يخوت أصحاب المليارات. بدأت بعض هذه اليخوت العملاقة بالانتقال إلى المياه الدولية بناء على تعليمات مالكيها القلقين الذين لديهم صلات بالكرملين. وحسب ما تمّ تداوله، اتجه بعضها إلى جزر المالديف التي لم تعقد اتفاقية لتسليم المجرمين مع الولايات المتحدة. وعشية الغزو الروسي إلى أوكرانيا، انتقل يخت “غريسفول”، الذي تبلغ قيمته 100 مليون دولار ويعتقد أنه يعود إلى فلاديمير بوتين، على عجل من ميناء ألماني إلى المياه الروسية في كالينينغراد؛ بينما استولى المسؤولون في فرنسا على قارب يُقال إنه يعود إلى إيغور سيتشين، الرئيس التنفيذي لشركة “روسنفت”.
أعلن بوريس جونسون في هذه الأثناء أنَّ “الأوليغارشية في لندن” لن يجدوا “مكاناً ليختبئوا فيه” وقال إنه سيشكل خليّة للتعامل مع الأموال المنهوبة في وكالة الجرائم القوميّة وسيستهدف عمل الخلية “الأصول الروسيّة الفاسدة المخبأة في المملكة المتحدة”. ويبقى الاختبار الحقيقي طريقة عمل السلطات القانونيّة وليس تشكيلها فحسب. وفي سنة 2018، أقرّت بريطانيا قانونًا جديدًا واعدًا يتعلق “بالثروات مجهولة المصدر”، وهذا يعني أن على الشخصيات ذات النفوذ أن تُبيّن مصدر أموالها التي تستخدمها لشراء أصل محدد أو أن تخسرها برمتّها. لكن هذا القانون لم يُستخدم إلا في أربع حالات فقط ولم يكن الأوليغارشية الروس هدفًا في أي منها.
في إحدى المرافعات القانونيّة ضد عائلة الرئيس الكازاخستاني السابق، جمّدت السلطات ثلاث عقارات. وبعد الطعن بقرار المحكمة تمَّ إلغاء القرار. وإن كنا سنلقي باللوم على الإرادة السياسيّة لقلة هذه الحالات فعلينا أن نلوم شُح الموارد أيضًا. فالوكالة القوميّة لمكافحة الجرائم لم يتم تمويلها كما يجب، حيث قال مدير الوكالة ردًا على التساؤلات حول سبب عدم وجود “قوانين إضافيّة لبيان أصول الثروات”: “نحن قلقون حول التأثير على ميزانيتنا لأن الأغنياء لديهم أفضل المحامين”.
من المفارقات التي يبرر بها مقدمو الخدمات البريطانيون أفعالهم أنه إن لم يستطع الأجانب الأثرياء إدارة أعمالهم التجارية هنا، فسينقلونها إلى مكان آخر
بالنظر إلى غزو أوكرانيا وقرار المجتمع الدولي المثير للدهشة بعزل الكرملين اقتصاديًا، ألم يكن من الممكن أن تكون الأمور مختلفة هذه المرة؟ من بين أكبر المفارقات في هذه القصة أنَّ بولوغ يروي في كتابه “خدم العالم” أنه بعد عقود من خدمة النخبة المجرمة العالميّة، أمام بريطانيا الآن فرصة واحدة لقلب الموازين. بعد أن أغوتهم التأشيرات من الدرجة الأولى والعقارات الفارهة والأسواق الجذابة والراحة الناتجة عن الحصانة الدائمة، عهد الأوليغارشية بثرواتهم إلى خدم من بريطانيا. وإذا ما أرادت الحكومة البريطانية تغييراً جوهريًا والمطالبة بالشفافيّة وتجميد الأصول، فإن الملجأ قد يكون في الواقع فخًا. ما الذي يمتلكه بوتين حسب الوثائق؟ لقد ترك الكثير من الأصول بعهدة مجموعة من الرجال الذين أسسوا لحياتهم في لندن، ما يعني أن كلمة الفصل بيد لندن. من الممكن عزل بوتين من خلال قطع وصوله إلى الموارد أو حتى من خلال تشجيع رجاله للضغط عليه ليُغير سلوكه أو أن يتركوه وشأنه.
قد يبدو للرائي أن أبراموفيتش ازداد قلقًا إزاء الاستضافة البريطانيّة له على المدى الطويل. ففي شباط/ فبراير الماضي، ذكر أنه اتجه إلى بيلاروسيا ليُساعد المتفاوضين الروس والأوكرانيين على تحقيق “قرار سلمي” يحلُّ النزاع. (لم يتكرّم محامو أبراموفيتش بتوضيح سبب جلوس أبراموفيتش على طاولة المفاوضات، على الرغم من أنهم قد ادعوا سابقًا أنه من “السخف” أن نظن أن هناك علاقة بين أبراموفيتش والكرملين”. قال أبراموفيتش إنه عرض نادي تشيلسي للبيع. هناك وفرة من المشترين المحتملين، حيث اشترت مجموعة من المستثمرين الذين يمثلون صندوق الاستثمارات السعودية العامّة الذي يرأسه محمد بن سلمان – الذي أمر بقتل وتقطيع أوصال الصحفي جمال خاشقجي – نادي نيوكاسل يونايتد السنة الماضية. وتعهد أبراموفيتش بتخصيص صافي العائدات من عمليّة البيع لتمويل “جميع ضحايا الحرب في أوكرانيا”، وقد بدا وكأن أبراموفيتش يسعى لاستعادة أصوله بينما لا يزال يمتلك الفرصة. كما جرى حديث عن رغبة أبراموفيتش بييع منزله في كنسينغتون. وحسب ما تمَّ تناقله فإن هناك مستمثرًا صينيًا يرغب بشرائه.
في العاشر من آذار/ مارس، أصدرت الحكومة البريطانيّة عقوبات في حق أبراموفيتش إلى جانب ستة آخرين من الأوليغارشية الروس. وعلى الرغم من أنه لا يمكن لنادي تشيلسي بيع التذاكر أو توقيع عقود مع لاعبين جدد إلا أن بإمكانه مواصلة اللعب ودفع أجور اللاعبين وبقية الطاقم، وبذلك لن يستفيد أبراموفيتش من الفريق. كم ستحقق هذه العقوبات؟ يقترح بولوغ أنه بالنظر إلى حجم الخدع المتاحة للتعتيم على الصفقات، لن تحقق العقوبات الكثير. وقد كتب قائلاً إن هذا النظام “يستمد قوته ومرونته من كونه لا يتوقف على مكان محدد. فإن شددت إحدى السلطات القضائيّة القيود في مجال ما ستنتقل الأموال دون عناء إلى مجال آخر أكثر تساهلا”.
من المفارقات التي يبرر بها مقدمو الخدمات البريطانيون أفعالهم أنه إن لم يستطع الأجانب الأثرياء إدارة أعمالهم التجارية هنا، فسينقلونها إلى مكان آخر. وفي الأسابيع الأخيرة أبدى البعض قلقهم من تداخل الأموال القذرة بنسيج الحياة البريطانيّة، وذلك ما أكده أحد التقارير البرلمانيّة لسنة 2020. لكن العديد من سكان لندن يُعبّرون عن خوفهم من انتقال الأموال لتصبح تحت سلطات قضائيّة أكثر تساهلاً، مثل دبي التي تبدو متلهفة لاقتناص الفرصة. إذًا، ما الذي سيحصل لبريطانيّا إن حصل ذلك، خاصة أنَّ المستقبل الاقتصادي بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي قاتم للغاية. هل ستجد بريطانيا نفسها ثانية دون دور أساسي؟
في الخامس من آذار/مارس، واجه تشيلسي نظيره بيرنلي. وقبل انطلاق صافرة الحكم على أرض تورف مور في استاد بيرنلي في لانكشاير، وقف كلا الفريقين وكذلك المشجعون في المدرجات تضامنًا مع شعب أوكرانيا. صفق الجميع لمدة دقيقة متواصلة بينما صدح مشجعو تشيلسي بأغنية خاصّة بهم. لقد غنوا باسم مالك النادي الذي أعلن لتوّه عن رغبته ببيع النادي. لقد أثبت سخاءه من خلال تحويل نادي تشيلسي من نادي يلفظ أنفاسه الأخيرة إلى نادي خارق يكسب البطولات. وكأن مشجعي النادي لم يأبهوا بالاتهامات الموجهة إلى مالكه، بل كانوا ممتنين لجوده وحزينين لوداعه. صاحت الجماهير “أبراموفيتش، أبراموفيتش!”.
المصدر: صحيفة نيويوركر