تتجه العلاقات المغربية الإسبانية إلى منعرج جديد بعد نحو سنة من نشوب أزمة دبلوماسية بين البلدين، أشعل شرارتها زعيم جبهة البوليساريو إبراهيم غالي الذي استقبلته مدريد قصد العلاج، الأمر الذي رفضته الرباط مطالبةً باعتقاله كمجرم حرب.
يأتي هذا، في ظل اتخاذ مدريد قرارًا بخصوص الصحراء الغربية قالت إنه سيدخل علاقاتها مع المغرب مرحلة تاريخية جديدة يُنهي التوتر الذي ميز العلاقات الثنائية بين البلدين في الفترة الأخيرة، فما هذا القرار؟ وما دوافعه؟
انتصار للرؤية المغربية
قالت الحكومة الإسبانية في بيان لها أمس الجمعة: “ندخل اليوم مرحلةً جديدةً في علاقتنا مع المغرب تقوم على الاحترام المتبادل واحترام الاتفاقات وغياب الإجراءات الأحادية والشفافية والتواصل الدائم”، وأكدت مدريد أن “هذه المرحلة ستتم في إطار خريطة طريق واضحة وطموح كما هو مبين في بيانات الحكومة المغربية”.
هذا الأمر يؤكد ما أشار إليه المغرب من اعتراف إسباني بالموقف المغربي بخصوص الصحراء الغربية، وقبل صدور البيان الإسباني، صدر بيان عن الديوان الملكي المغربي أشار فيه إلى رسالة وصلت من رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز اعتبر فيها الأخير أن مبادرة “الحكم الذاتي” المغربية المتعلقة بالصحراء الغربية المتنازع عليه “بمثابة الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية من أجل تسوية الخلاف”.
إقرار مدريد بأن مبادرة الحكم الذاتي هي الأكثر واقعية وجدية لحل النزاع، يعتبر انتصارًا كبيرًا للمغرب
من المنتظر أن يجري رئيس الوزراء الإسباني زيارة إلى الرباط في موعد لاحق لم يتم تحديده بعد، فيما سيزور وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس المغرب “قبل نهاية الشهر الحاليّ” في إطار تطبيع العلاقات بين البلدين، وفق ما أعلنته مدريد.
من جهته، ثمّنت الخارجية المغربية، ما وصفته بـ”المواقف الإيجابية والالتزامات البناءة لإسبانيا”، بخصوص النزاع في إقليم الصحراء، وأضاف أن العبارات الواردة في رسالة سانشيز “تتيح وضع تصور لخريطة طريق واضحة وطموح بهدف الانخراط بشكل مستدام، في شراكة ثنائية في إطار الأسس والمحددات الجديدة التي تمت الإشارة إليها في الخطاب الملكي في 20 أغسطس/آب الماضي”.
اختراق مغربي
يعتبر الموقف الإسباني الجديد اختراقًا ونجاحًا مغربيًا مهمًا في الترويج لرؤيته الخاصة بقضية الصحراء الغربية، إذ يقترح المغرب منح الصحراء الغربية (مستعمرة إسبانية سابقة تصنفها الأمم المتحدة بين الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي) التي يسيطر على نحو 80% من مساحتها، حكمًا ذاتيًا تحت سيادته لحل النزاع، بينما تطالب جبهة البوليساريو بإجراء استفتاء لتقرير مصير المنطقة.
صحيح أنه توجد ملفات عديدة عالقة بين الطرفين، منها ملف الهجرة ورواسب تاريخية تعود لفترة الاستعمار وكذلك وضع مدينتي سبتة ومليلية، واعتذار إسبانيا عن استخدام أسلحة كيماوية خلال حرب الريف، إلا أن موضوع الصحراء هو الأهم على أجندة المغرب الآن.
لذلك فإن إقرار مدريد بأن مبادرة الحكم الذاتي هي الأكثر واقعية وجدية لحل النزاع، يعتبر انتصارًا كبيرًا للمغرب، بعد التباين الكبير بين البلدين إزاء هذا الملف، فالمغرب لم ترق له النظرة الإسبانية للنزاع القائم في الصحراء، إذ دائمًا ما عبر الإسبان عن دعمهم لجبهة البوليساريو بطرق ملتوية يسودها الغموض.
اسبانيا تؤكد اليوم علىٰ احترام وحدة المغرب الترابية، وعلىٰ سيادة المغرب علىٰ #الصحراء_المغربية بعد الاعترافات الدولية العديدة في العام الأخير. المغرب هو المغرب من #طنجة حتىٰ #الكويرة تحت القيادة الملكية الشريفة ?? pic.twitter.com/K0E1pt3GPD
— محمد العراده (@malaradah) March 18, 2022
يظهر هذا التباين مثلًا من خلال استضافة إسبانيا إبراهيم غالي زعيم جبهة البوليساريو التي تنازع المملكة على إقليم الصحراء الغربية، أواخر أبريل/نيسان الماضي، بـ”هوية مزيفة” للعلاج إثر تدهور وضعه الصحي جراء إصابته بفيروس كورونا، ما ساهم في توتير العلاقات بين مدريد والرباط.
كما يظهر التباين أيضًا في ردة فعل إسبانيا تجاه الإعلان الرئاسي للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي اعترفت واشنطن بمقتضاه بسيادة المغرب على الصحراء، فقد أظهرت مدريد حينها انحيازها للبوليساريو، واعتبرت على لسان وزارة خارجيتها أن القرار الأمريكي لا يخدم نزاع الصحراء، بل يزيده تعقيدًا، لأنه يقوم على ما وصفته “القطبية الأحادية”.
الهجرة والتنسيق الأمني وراء الموقف الإسباني
هذا التحول في الموقف الإسباني تجاه قضية الصحراء الغربية يخضع لعدة أسباب وفق الباحث المغربي عبد الوهاب السحيمي، الذي يرى أن إسبانيا تاريخيًا تلعب على الحبلين فيما يخص موقفها من الصحراء، تارة يكون موقفها قريبًا من المغرب ومرة قريبًا من الجزائر، ذلك أنها لا تريد خسارة الطرفين، كما أنها لا تريد أن يتم حل القضية لاستغلال الأمر في ابتزاز المغرب والجزائر.
يقول السحيمي في حديث لنون بوست: “إسبانيا لم تكن تتوقع الرد المغربي القوي تجاه الموقف الذي اتخذته من اعتراف ترامب بمغربية الصحراء في ديسمبر/كانون الأول 2020 واستقبالها زعيم جبهة البوليساريو إبراهيم غالي للعلاج بهوية مزيفة، ما جعلها تغير موقفها من القضية الأبرز للمغاربة”.
إلى جانب ذلك، يرى محدثنا أن أحد أبرز الأسباب التي دفعت إسبانيا لاتخاذ هذا الموقف بخصوص الصحراء، خشيتها من تواصل استغلال المغرب لورقة الهجرة للضغط عليها، فالأوروبيون ومنهم الإسبان يؤرقهم كثيرًا موضوع الهجرة غير النظامية ويراهنون بشكل كبير على المغرب باعتباره أقرب دولة لأوروبا للتصدي لهذه الظاهرة.
يعتبر الموقف الإسباني الجديد الخاص بقضية الصحراء الغربية انتصارًا مهمًا للرؤية المغربية في هذه القضية
يؤكد الباحث المغربي أن بلاده أحسنت استغلال ورقة الهجرة غير النظامية عندما سحبت قواتها من الحدود وسمحت بتدفق المهاجرين غير النظاميين المغاربة والقادمين من الشرق الأوسط وإفريقيا جنوب الصحراء نحو الأراضي الإسبانية، ما أربك الإسبان.
وغالبًا ما يهدد المغرب برفع يده عن وقف تدفق المهاجرين غير النظاميين نحو السواحل الإسبانية، فقد سبق أن تساءل مسؤولون في المملكة عن جدوى مواصلة تخصيص عدد كبير من رجال الشرطة لحماية الحدود ومنع المهاجرين من الدخول لإسبانيا وتوفير مواطن الشغل للمهاجرين الإفريقيين المستقرين في المغرب في الوقت الذي لم تلتزم فيه إسبانيا بمبدأ حسن الجوار.
يبدو هنا أن الرباط تجاوزت مرحلة “كلب الحراسة” و”التلميذ النجيب” الذي يحسن الإصغاء للإملاءات الأوروبية، إذ عرفت كيف تستغل قضية الهجرة غير النظامية لصالحها حتى تفرض شروطها ورؤيتها لمجريات الأحداث والقضايا على الأوروبيين.
من المسائل الأخرى التي جعلت الإسبان يغيرون موقفهم من قضية الصحراء الغربية، المسألة الأمنية، فمدريد تعلم أهمية المغرب في هذا الشأن، خاصة أن الرباط ساهمت بدور كبير في إحباط العديد من العمليات الإرهابية وفي تفكيك الخلايا الإرهابية في أوروبا خلال السنوات الأخيرة، وفق السحيمي.
ويعد المغرب شريكًا مهمًا للإسبان على المستوى الأمني، لذلك لا تريد مدريد خسارته، ما دفعها سابقًا لتقديم دعم كبير للمغرب من ذلك توفير مبالغ مالية ومعدات للتعامل بفاعلية مع الهجرة غير النظامية ومكافحة الإرهاب.
أسباب أخرى
لا تتوقف أسباب تغيير مدريد موقفها من قضية الصحراء على الجانب الأمني والهجرة غير النظامية، فالأمر يتعدى ذلك إلى مسائل أخرى على غرار الوضع في مدينتي سبتة ومليلة الواقعتين أقصى شمال المغرب، ويصف المغرب المدينتين بالمحتلتين، في حين يعرفهما أغلب سكان العالم كجيبين إسبانيين في شمال إفريقيا، فهما تحت الإدارة الإسبانية.
في الأشهر الأخيرة، حاصر المغرب مليلة وسبتة بغلق المعابر ووقف التجارة، ردًا على تصرفات إسبانيا “المُعادية”، ما خنق المدينتين وسبب لهما ركودًا اقتصاديًا كبيرًا، فهما يتعاملان بصورة شبه كلية مع المغاربة، ما دفع حكام المدينتين للضغط على سلطات مدريد لتسوية العلاقات مع المغرب.
⛔️ إسبانيا أكثر دولة أوروبية ظلت تنافق المغرب على مر السنين رغم أنها غارقة حتى الأذنين في مخططات الانفصال
إسبانيا ظلت تناور و تلعب على الحبلين و رفضت الاعتراف بسيادة المغرب على صحرائه حتى لا يغلق هذا الملف و يطالبها بمدينتيه اللتين تحتلهما سبتة و مليلية و الجزر المجاورة ??
— محمد واموسي (@ouamoussi) March 18, 2022
كما يبدو أن للجزائر دخلًا في القرار الإسباني الأخير، فالقرارات المتسرعة وغير المحسوبة التي اتخذها حكام الجزائر منها غلق أنبوب الغاز الذي يمر عبر المغرب نحو إسبانيا، جعلت الإسبان يتوجهون نحو المغرب بعد أن فقدوا كل آمالهم في أن تعود علاقاتهم مع النظام الجزائر كالسابق، وفق عبد الوهاب السحيمي.
يضيف السحيمي في هذا الشأن “الجزائر لم تعد لها أهمية كبيرة لإسبانيا، فمصالح هذه الأخيرة تميل الآن نحو المغرب بشكل كبير، خاصة بعد أن أصبح للرباط حلفاء إقليميون مهمون بعد تطبيع العلاقات مع الكيان الإسرائيلي وتطور علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا”.
واقعية مغربية
بدروه يرى الباحث والمحلل السياسي المغربي عمر مروك أن القضايا الخلافية والنزاعات اليوم لا تحكمها فقط الشرعية الدولية وإنما تخضع كذلك للواقعية السياسية ومنطق التوازنات والمصالح ويمكن الجمع بين المسارين لتحقيق مكاسب معينة وهو ما انتهجته السياسة الخارجية المغربية وانبثق عنه الموقف الإسباني الجديد.
وأوضح مروك في حديثه لنون بوست أن الخطاب الملكي كان خطاب الواقعية بامتياز، إذ أكد لكل الفاعلين الدوليين أن لا مجال لأي اعتماد متبادل مع أي جهة كانت تعاكس الوحدة الترابية للمغرب وتنتهج ضبابية الموقف من سيادة المغرب على صحرائه.
واجه المغرب تعنت الإسبان والألمان وبعث رسائل واضحة عبر تنويع شركائه وتقوية طرحه التفاوضي من خلال سياسة الندية والمصالح المشتركة وهو الشيء الذي اقتنع به جل الفاعلين والمؤثرين في ملف الصحراء وجعل مواقفهم تتغير تباعًا لتأييد مسار الحكم الذاتي بدءًا من أمريكا وانتهاءً بإسبانيا.
لم تمنع الواقعية السياسية والاقتصادية المغرب من الاستمرار في الدفاع عن جدية مقترحه في إطار الشرعية الدولية للأمم المتحدة، ليكون لهذا الطرح شبه إجماع حوله، وفق عمر مروك، بالمقابل يقول مروك إن أصحاب طرح تقرير المصير قد خسروا الملف من كل النواحي، خصوصًا أن إلغاء جبهة البوليساريو لوقف إطلاق النار هو ضمنيًا تشطيب على مسار تقرير المصير والاستفتاء.
المغرب ليس بأقل من إسبانيا. اعتراف اسبانيا بمصداقية المبادرة المغربية للحكم الذاتي مهم لكنه لن يزيد من قوة الموقف المغربي شيئا.
الصحراء مغربية بالرغم من سانشيز واللي خلفوه! pic.twitter.com/UbI8dqKNiW
— رضوان الشريف (@RedouaneBenabb3) March 19, 2022
يرى محدثنا أن الموقف الإسباني الأخير والاعتراف بالطرح المغربي هو تحصيل حاصل بعد الاعتراف الأمريكي والتثمين الأوروبي ونتيجة للواقع الجيوسياسي الذي سببه التدخل الروسي بأوكرانيا وما أعقبه من أزمة طاقية على أوروبا والعالم.
وتابع “لعب المغرب أوراقه بذكاء وأعلن بدء إنتاج الغاز واستغلال احتياطي تندرارة وأنبوب الغاز على الأراضي المغربية لتوفير احتياجات إسبانيا وأوروبا إضافة للاشتغال على أنبوب الغاز المغربي النيجيري بعد أن أفصحت الجزائر عن عدم جدية التزاماتها مع الاتحاد الأوروبي ومعه أعلنت إسبانيا عن تخليها عن غاز الجزائر”.
يعتبر الموقف الإسباني الجديد الخاص بقضية الصحراء الغربية انتصارًا مهمًا للرؤية المغربية في هذه القضية، إلا أنه لا يعني اعترافًا إسبانيًا بمغربية الصحراء، ما يعني أن المغرب ما زال يطمح لمواقف أكثر وضوحًا من شركائه حتى تبين طبيعة علاقاته معهم، ذلك أن السياسة الخارجية المغربية ترتكز على قضية الصحراء.