ترجمة حفصة جودة
كانت القذيفة المغطاة بالسخام هي كل ما تبقى من منزل عواطف فضل الذي دُمر قبل عام عندما اقتحم مسلحون يركبون الجمال والأحصنة والدراجات النارية مخيم كريندينغ في دارفور غرب السودان، حيث شرعوا أسلحتهم وأحرقوا كل منزلهم أمامهم.
قُتل عشرات الأشخاص من بينهم 9 أفراد من عائلة فضل، وفرّ الآلاف عبر الحدود إلى تشاد، تقول فضل: “لم يأت أحد لإنقاذنا”.
والآن، عادت فضل إلى المخيم حيث بنت عائلتها ملجأ على أنقاض منزلهم القديم، لكنهم لا يشعرون بأنهم أقل عرضة للخطر، فتقول: “إذا عاد المسلحون، فلن ينقذنا أحد كذلك”.
لم يكن من المفترض أن يحدث ذلك في دارفور التي عانت من عقدين من عنف الإبادة الجماعية التي بدأت عام 2003 وأدت إلى مقتل نحو 300 ألف شخص، وفي 2019 انطلقت الثورة ضد حاكم السودان عمر حسن البشير وانضم إليها العديد من سكان دارفور أملًا في جلب السلام إلى منطقتهم أخيرًا.
بدلًا من ذلك، تدهور الوضع، واشتعلت الهجمات العرقية العنيفة ضد المجتمعات العرقية الإفريقية في العام الماضي واضطر أكثر من 420 ألف شخص للفرار من منازلهم عام 2021 مقارنة بفرار 54 ألف شخص العام الذي قبله، وذلك وفقًا لمكتب الشؤون الإنسانية التابع للأم المتحدة في السودان.
جذبت الأعمال الوحشية في دارفور انتباه المجتمع الدولي من قبل، فنظم المشاهير المسيرات وجمعوا التبرعات وأضربوا حتى عن الطعام، ونددت الأمم المتحدم مرارًا وتكرارًا بالعنف وأرسلت قوات لحفظ السلام وفتحت المحكمة الجنائية الدولية تحقيقات في الاتهامات بمذابح جماعية وجرائم حرب، لكن هذه المرة؛ لم يهتم إلا القليل من الناس.
تقول ريبيكا هاملتون؛ أستاذ مساعد للقانون في الجامعة الأمريكية بواشنطن ومؤلفة كتاب “Fighting for Darfur” (القتال من أجل دارفور) “لقد نسى العالم أمر دارفور مرة أخرى”.
تعاني منظمات الإغاثة لجمع التبرعات من أجل دارفور حيث تحول انتباه العالم لمناطق أخرى مثلما يقول دنكان ريديل؛ مدير منطقة دارفور في مجلس اللاجئين النرويجي، في العام الماضي حازت أزمات إثيوبيا وأفغانستان على اهتمام المتبرعين في الغرب واللتين تراجعتا الآن بسبب أوكرانيا.
من بين الأسباب التي أدت إلى تصاعد العنف في دارفور: انسحاب قوات حفظ السلام المدعومة من الأمم المتحدة من المنطقة قبل 15 شهرًا.
تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى مقتل 700 شخص أو جرحهم على الأقل في هجمات مسلحة على دارفور العام الماضي، رغم أن المنظمات الأخرى تقول إن هذا الرقم أقل بكثير من الرقم الحقيقي.
ترجع الاضطرابات جزئيًا إلى الفوضى في العاصمة السودانية الخرطوم حيث انهار اقتسام السلطة بين القادة المدنيين والعسكريين في الخريف الماضي عندما استولى الجيش على السلطة في انقلاب قام به، ومنذ ذلك الحين خرج المتظاهرون في احتجاجات بالخرطوم ومدن أخرى واشتبكوا مع قوات الأمن في بعض الأحيان، ما تسبب في مقتل 87 شخصًا وفقًا لمجموعة من الأطباء.
الفائز الرئيسي من تلك الفوضى هو الفريق محمد حمدان، في بداية الألفية كان حمدان شخصية سيئة السمعة في دافور ككقائد للميليشيا العربية المعروفة باسم “الجنجويد” التي ارتكبت أسوأ الهجمات ضد المجتمعات العرقية الإفريقية، ذلك العنف الذي ذهب بالبشير إلى المحكمة الجنائية الدولية.
الآن أصبح الفريق حمدان ثاني أقوى قائد في السودان، تلك المكانة التي اكتسبها كقائد لقوات الدعم السريع وهي مجموعة شبه عسكرية تابعة للقوات الحكومية، وقد ظهر مؤخرًا في موسكو في أيام الحرب الأولى على أوكرانيا ليطلب الدعم من الحكومة الروسية.
منذ وصوله إلى السلطة، بذل حمدان بعض الجهود لإحلال السلام في موطنه دارفور، وذلك من خلال اتفاقية السلام في أكتوبر/تشرين الأول 2020 التي أدت إلى إلقاء تحالف الفصائل المعارضة لسلاحهم، لكن مع تعمق الاضطراب السياسي في الخرطوم، عاد العنف في دارفور وفي بعض الأحيان بقيادة رجال الفريق حمدان وفقًا لشهادة عشرات الشهود وكذلك موظفي الأمم المتحدة.
لم يرد مكتب الفريق حمدان على طلب التعليق على الأمر.
اشتد العنف في غرب دارفور – إحدى 5 ولايات تشكل دارفور – في مناطق مثل كرينيك وجبل مون حيث قُتل عشرات الناس منذ شهر نوفمبر/تشرين الثاني من بينهم 17 شخصًا قُتلوا في يوم واحد هذا الشهر، منع انعدام الأمن وصول وكالات الإغاثة والصحفيين، ما جعل من الصعب الحصول على شهادات مباشرة للأزمة أو جذب انتباه العالم إليها.
أكثر الأماكن عرضة للخطر هي المخيمات مثل كريندينغ حيث يعيش الأفارقة مثل عائلة فضل التي نزحت إلى المخيم في أول موجة عنف من الإبادة الجماعية التي دعمتها الدولة في أول الألفية.
قالت عشرات العائلات في مخيم كريندينغ في أثناء لقائهم إن المخيمات تعرضت لهجوم العام الماضي من مئات العرب المسلحين المدعومين من ضباط شبه عسكريين بمبلابس مدنية من قوات الدعم السريع الخاصة بالجنرال حمدان، حسب تأكيد الشهود.
وقال آخرون إن الجيش والشرطة شاهدا ما يحدث ولم يفعلا شيئًا بينما نشر المسلحون الخراب، بعد الهجوم أغلق أفراد المجتمع العربي الشوارع في المنطقة وطالبوا بتفكيك المخيمات، ازدادت التوترات منذ اتفاقية أكتوبر/تشرين الأول 2020 التي قالت إن اللاجئين لهم الحق في الأراضي التي فقدوها في أثناء الصراع في بداية الألفية.
قال بعض الذين التقينا بهم إنهم استمروا في استقبال مكالمات تحذرهم من العودة، أرسل إليهم كذلك المسلحون العرب تهديدات من خلال الشباب الذين يجلبون الماء أو الحطب، وقال آخرون إن الأجانب من النيجر وتشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى انتقلوا إلى أراضيهم.
قال أحمد سليمان – 45 عامًا – الذي قُتل 20 من أقاربه في الهجمات خلال العقدين الماضيين: “إنهم يريدون القضاء علينا”.
طُرد الناس من المخيمات لإفساح المجال أمام منطقة التجارة الحرة التي ستخدم دارفور والدول المجاورة التي يقودها الجنرال حمدان وموظفو الدولة بدعم مادي من الإمارات وفقًا لمسؤول كبير في الإغاثة رفض ذكر اسمه لحساسية الموقف.
هناك عوامل مؤثرة أخرى، فالأحقاد القديمة بين المزارعين الأفارقة ورعاة الأغنام العرب تتركز على الموارد الطبيعية والأرض، حيث يقول الرعاة إن الطرق التي كانوا يستخدمونها عادة في أثناء الهجرة الموسمية للحيوانات تحولت إلى أراض زراعية، ما تسبب في خلافات بخصوص الوصول إلى الماء وتناقص مساحة الأرض بسبب المراعي المعرضة للجفاف.
يقول حامد النادر – قائد عربي في غرب دارفور -: “ليس كل العرب من الجنجويد”، مضيفًا أن الاشتباكات تسبب في قتل الآلاف من جمالهم ومعيزهم.
قال مسؤولون بالأمم المتحدة إن العنف يرجع كذلك إلى تدفق المقاتلين مؤخرًا والتمويل من ليبيا حيث قاتل عدد من الدارفوريين كمرتزقة في السنوات الأخيرة، بدأت المجتمعات غير العربية في تشكيل ميليشيات للدفاع عن النفس لصد الهجمات، ويبدو أن الحكومة الفيدرالية تعجز عن وقف العنف، مع تحول الشجارات الصغيرة في الأسواق إلى هجمات ضخمة.
يقول مجدي الجزولي – زميل بمعهد “Rift Valley Institute” (معهد الأخدود العظيم) -: “أي جزء بسيط من الخلافات أو المشاكل يُحل الآن بجولة من القتال”.
في ولاية غرب دارفور يلجأ الفارون من القتال غالبًا إلى مدينة الجنينة عاصمة الولاية، ويخيمون في أي مساحة مفتوحة يجدونها في المدارس أو المستشفيات أو المباني الحكومية.
كانت عائلة إبراهيم محمد – 55 عامًا – من ضمن عشرات العائلات التي خيّمت في مقر وزارة التربية والتعليم الإقليمية، كانت الظروف صعبة مع قلة الطعام والمياه النظيفة والمراحيض القذرة وفقًا لما قاله محمد، لكنه كان قلقًا بشكل أساسي من وقوع هجموم آخر على مدينة الجنينة.
أشار محمد إلى مجموعة من الأطفال يلعبون في الزاوية وقال إنهم نادرًا ما يغادرون المجمع لأنهم مصدومون بسبب الهجمات المسلحة السابقة التي تركت ندوبًا نفسية وجسدية، وقال: “إنهم لا يثقون بأحد، وبينما يسترخي ويتمتع حكام السودان في الخرطوم بحياتهم، لا نملك نحن أي شيء”.
تسبب رحيل القوات المشتركة للأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي لحفظ السلاح في فجوة أمنية كذلك، حذر القادة المحليون ومنظمات حقوق الإنسان من انسحاب القوات وقالوا إن المدنيين ما زالوا في خطر، لكن مجلس الأمن أكد أن الحكومة الانتقالية في السودان قادرة على القيام بواجباتها الأمنية في المنطقة.
تقول هاملتون من الجامعة الأمريكية إن القادة المحليين كانوا على حق، فالآن رحلت قوات الأمم المتحدة بينما دعت المسؤولين السودانيين لوقف القتال، لكن هذه الدعوة متأخرة، فقد استمرت أعمال النهب والعنف في الأسابيع والأشهر الأخيرة، حتى في أثناء زيارة قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان والجنرال حمدان لدارفور.
تجلس فضل في مسكنها المهجور بعد ظهر أحد الأيام بينما تشرح قرارها بالعودة رغم المخاطر، فقد تعبت فضل من الهرب والذل الذي يسببه النزوح مثل الانتظار في الصف من أجل المياه للوضوء قبل الصلوات.
والآن رغم أن عائلتها تكافح للعيش – حيث يفتقرون إلى الملابس الدافئة لمواجهة الليالي الباردة – فإنهم يشعرون بوجود غاية، تقول فضل: “إنهم يواصلون قتلنا، لكننا شعب واحد ويمكننا العيش معًا”.
المصدر: نيويورك تايمز