ليس هناك من ينكر حقيقة أن روسيا دولة مترامية الأطراف، تبلغ مساحتها 6 ملايين ميل مربع، وتحتوي على 11 منطقة زمنية مختلفة، رغم ذلك، ما الذي يجعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يذهب إلى مخدعه كل ليلةٍ وهو يتلو صلواته سائلًا الرب: “لماذا لم تخلق بعض الجبال في أوكرانيا؟”، حينها لم يتمكن الغزاة من مهاجمة بلاده من هذه الجهة عبر التاريخ مرارًا وتكرارًا.
هذه العقيدة الأرثوذكسية للرئيس الروسي سمة أساسية في رؤيته للعالم، لكنه استخدمها لتبرير الغزو والعنف، فمنذ أيام قليلة، صدم العالم بقراره المتوقع والمتهور بغزو دولة ذات سيادة، لكن قبل وقت طويل من قيام روسيا بوضع القوات العسكرية على طول حدود أوكرانيا أو تهديد جارتها بهجمات إلكترونية وضغط اقتصادي، نشرت موسكو سلاحًا آخر لا يحظى بتقدير كبير تستخدمه بشكل متزايد القوى العالمية الصاعدة، وهو تحويل القوة الدينية الناعمة إلى ما هو معروف بين الباحثين في الدول السلطوية بـ”القوة الحادة”.
ومن المعتاد أن تكثر النظريات عندما يتم إطلاق مثل هذه الصدمات، فإحدى النظريات التي تدور حول الغزو الروسي لأوكرانيا هي أن بوتين يريد على الأقل إحياء عظمة الإمبراطورية الروسية العظمى أو الاتحاد السوفيتي، وهناك نظرية أخرى متجذرة، وتدور حول سعيه لإعادة تأسيس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، فكيف حوّل بوتين قوة الدين الحادة ضد أوكرانيا؟
منطق بوتين
تشترك أوكرانيا وروسيا في تراث ديني يعود تاريخه إلى أواخر القرن العاشر عندما تبنت مملكة كييف روس – التي كانت دولةً اتحاديةً تقطنها الأقوام السلافية – المسيحية كدين للدولة، واعتمد أميرها فلاديمير الأول (فولوديمير باللغة الأوكرانية) الأرثوذكسية كديانة رسمية، ومنذ ذلك الحين، انتشرت المسيحية في جميع أنحاء ذلك الجزء من أوروبا إلى أوراسيا.
ترتبط المسيحية الأرثوذكسية تاريخيًا بروسيا ارتباطًا وثيقًا، ويستغل فلاديمير بوتين ذلك على ما يبدو أسوأ استغلال، ففي خطاب يبرر “الأعمال العسكرية” في أوكرانيا، على سبيل المثال، أشار حتى إلى البعد الديني عندما تحدث زورًا عن تعرض أعضاء الكنيسة الأرثوذكسية الروسية للاضطهاد من الحكومة الأوكرانية، تلك الرواية التي رفضتها كل الكنائس الأرثوذكسية.
وفق منطق بوتين الحربي، تلتزم الكنيسة الأرثوذكسية الروسية – التي ترشده إلى إعادة ترسيخ العقيدة المسيحية – بإعادة الفرع الأوكراني المستقل تحت قيادة بطريرك واحد في موسكو
قبل عام 2014، استند بوتين إلى الديانة المسيحية الأرثوذكسية لكلا البلدين كعنصر واحد من عناصر سرديته عن ضرورة التوافق الجيوسياسي لأوكرانيا مع موسكو، وورد أنه قال في خطاب ألقاه عام 2013: “نرى العديد من الدول الأوروبية الأطلسية ترفض فعليًا جذورها، بما في ذلك القيم المسيحية التي تشكل أساس الحضارة الغربية. إنهم ينكرون المبادئ الأخلاقية وكل الهويات التقليدية: القومية والثقافية والدينية”.
منذ ذلك الحين، سمعنا الكثير من ادعاءات بوتين عن التهديد الذي تتعرض له روسيا من حصار حلف شمال الأطلسي “الناتو” ومبررات الغزو لتشويه صورة أوكرانيا ووقف الإبادة الجماعية للروس، لكن هذا كله يبدو في نظر الأوكرانيين “دعاية وهراء”، فعدوان روسيا على جارتها ليس مجرد سياسة قوة وإستراتيجية جغرافية، إنه يتعلق بقضايا جوهرية في الإيمان والهوية.
مثلما استشهد بوتين بالتاريخ الديني المشترك في تبرير استيلائه على شبه جزيرة القرم، وهي الأرض التي وصفها بالـ”مقدسة” بالنسبة لروسيا، حاول الاستفادة من هذه القضية مرة أخرى، ففي خطابه المنمَّق، يوم 21 فبراير/شباط، الذي سعى من خلاله إلى تبرير الغزو الوشيك لأوكرانيا بسرد تاريخي مشوَّه، أشار بوتين إلى المخاوف الدينية، مدَّعيًا – دون دليل – أن كييف كانت تستعد لـ”تدمير” الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لبطريركية موسكو، وشدَّد بشكل عام على الروابط الروحية، إلى جانب القضايا الأخرى التي لاقت نصيبًا وافرًا من التحليل.
قال بوتين في خطابه: “أود أن أؤكد مرة أخرى أن أوكرانيا ليست مجرد دولة مجاورة لنا. إنها جزء لا يتجزأ من تاريخنا وثقافتنا ومجالنا الروحي”، وأضاف متجاهلًا الهوية الوطنية لأوكرانيا المتميزة عن روسيا وتمتد لقرون: “الأشخاص الذين يعيشون فيما كان تاريخيًا أرضًا روسيةً يطلقون على أنفسهم اسم الروس والمسيحيين الأرثوذكس”.
هذا المجال الروحي دليل مهم غالبًا ما يتم تجاهله، فوفق منطق بوتين الحربي، تلتزم الكنيسة الأرثوذكسية الروسية – التي ترشده إلى إعادة ترسيخ العقيدة المسيحية – بإعادة الفرع الأوكراني المستقل تحت قيادة بطريرك واحد في موسكو، من أجل السماح لها بالسيطرة على أقدس مواقع الأرثوذكسية في العالم السلافي.
تتداخل هذه الأهداف المشتركة مع مصالح بوتين، إذ تلعب الكنيسة الأرثوذكسية الروسية دورًا مهمًّا يعكس مدى توظيف البعد الديني المقدس للمسيحية لأسباب سياسية واستخباراتية كعامل أساسي في تحديد الصراع الحاليّ بين روسيا وأوكرانيا، ويتمثل هذا الدور في جزء منه في وجود الكنائس العسكرية الروسية المتنقلة في أثناء النزاع، وهي كنائس ترافق الوحدات العسكرية الروسية في أثناء قيامها بالعمليات العسكرية في أوكرانيا.
تُعد هذه المشاهد من أبرز المشاهد التحليلية والتفسيرية التي أهملها العالم لصالح تحليل العمليات العسكرية نفسها، التي تتمثل في صور القساوسة وهم يباركون الأسلحة الروسية في ساحات القتال والمعركة ضد أوكرانيا، ويحرصون على مرافقة جنود وضباط الجيش الروسي وإقامة الصلاة مع الجنود ونشر الحماس في صفوفهم عن طريق إلقاء الخطب الدينية، بحسب ما ذكرته الباحثة المصرية نادية حلمي في تحليلها لـ”سعي روسيا لعسكرة الكنائس”.
القديس بوتين
في حين أنه يبدو من الصعب فهم منطق بوتين للغزو، فإن قراءة تاريخه الشخصي قد توفر رؤى جديدة، وُلد بوتين في عائلة خدمت الديكتاتور الروسي السابق جوزيف ستالين، كان والده ملحدًا، تم تجنيده في الجيش حيث خدم في أسطول غواصات، ويقال إن والدته كانت مسيحية متدينة عملت في مصنع خلال الحرب العالمية الثانية.
كتب الكاهن والكاتب المسيحي المقيم في لندن جيل فريزر أن والدة بوتين عمدته سرًا، ويقول بوتين إنه لجأ إلى الكنيسة بعد حادثين كبيرين في التسعينيات: حادث سيارة لزوجته وحريق بالمنزل، ويعتبر نفسه الآن عضوًا متدينًا في الكنيسة الأرثوذكسية الروسية.
ارتبط بوتين ارتباطًا وثيقًا بإيمان والدته وكذلك مسقط رأسه، التي كانت تُعرف باسم مدينة لينينغراد، لكن مع انهيار الهيكل السوفيتي، أعيدت المدينة مرة أخرى إلى اسمها الحاليّ سانت بطرسبرغ عام 1991، ووُصف تغيير الاسم بـ”التخلي عن إرث الزعيم الثوري الروسي” الذي عارضه الشيوعيون بشدة لكن الكنيسة الأرثوذكسية أيدته.
يمكن القول إن الغزو الروسي لأوكرانيا يعود جزء منه في الواقع إلى الرمزية الكبيرة لمدينة كييف كعاصمة لأوكرانيا في تاريخ المسيحية الأرثوذكسية
يكتب الخبراء، بمن فيهم الكهنة المسيحيون، أعمدة يكشفون فيها عن السبب الجذري والدافع الحقيقي لمحاولة بوتين الاستيلاء على أوكرانيا، بقوة الدبابات والطائرات المقاتلة والصواريخ، ويشير هؤلاء إلى يوم معموديته في الكنيسة عند ولادته في أوائل الخمسينيات كمرجع تحليلي لاستخدام البُعد الديني في تربيته وربطه بالوضع الحاليّ الذي قاده إلى الهجوم على جارته أوكرانيا، في محاولة لاستعادة أمجاد الدولة السوفيتية القديمة ودورها في إحياء القضية الدينية المسيحية الأرثوذكسية، وعدم قبول مبدأ فصل الكنيسة الأوكرانية عن امتدادها داخل روسيا.
وجد آخرون صلة بين رئيس اليوم فلاديمير بوتين وفلاديمير الأول الذي يحمل نفس الاسم، الذي كان يُطلق عليه اسم “فلاديمير العظيم”، وهو أمير كييف الذي أسس أول إمبراطورية روسية، وكذلك الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وتم إعلانه قديسًا لتحويل الأمة الروسية الوثنية (روسيا وأوكرانيا) إلى المسيحية، وكان يحكم من كييف عاصمة أوكرانيا.
استدعى فلاديمير الأول المدينة بأكملها إلى ضفاف نهر دنيبر في كييف لإجراء تعميد جماعي عام 988، وكان هذا تاريخ ولادة المسيحية الأرثوذكسية الروسية، التي أفسحت المجال لمفاهيم دينية عاطفية عن “الوطن الأم لروسيا المقدسة” و”الإمبراطورية الرومانية الثالثة” بعد سقوط الإمبراطورية البيزنطية في منتصف القرن الخامس عشر، وهو وضع اعتمد عليه بوتين في بناء دولته الحديثة.
استمرت المسيحية الأرثوذكسية الروسية في كونها مكونًا رئيسيًا للإمبراطورية الروسية حتى أطلق الشيوعيون بقيادة فلاديمير آخر، المعروف باسم لينين، العنان للثورة البلشفية والحكومة في روسيا عام 1917. عاشت روسيا في عهد لينين محاولات مؤسسها بشدة لسحق كل معتقدات المسيحية الأرثوذكسية الروسية، وعندما انهارت روسيا الشيوعية أو الاتحاد السوفيتي، عام 1991، انطلقت سلسلة من الأحداث في سياسات البلاد أدت إلى صعود فلاديمير آخر، إنه بوتين، الذي وصف كييف بأنها أرض مقدسة بالنسبة لبلاده.
هنا يمكن القول إن الغزو الروسي لأوكرانيا يعود جزء منه في الواقع إلى الرمزية الكبيرة لمدينة كييف كعاصمة لأوكرانيا في تاريخ المسيحية الأرثوذكسية، حيث لعبت دورًا مؤسسيًّا في تاريخ الحقبة السوفيتية، بالنظر إلى أن كييف تعتبر أول موطئ قدم للعقيدة المسيحية الأرثوذكسية، والوعي الجماعي الروسي وحتى الدولي، ولعل هذا هو السبب المباشر وراء العلاقة بين الأهمية الدينية المقدسة لمدينة كييف وغزو بوتين.
الآن، يقترح منظرو إحياء المسيحية أن طموح فلاديمير بوتين أكبر من مجرد الاستيلاء على أوكرانيا، إنه يريد أن يصبح القديس فلاديمير الثاني، فهو يرى أن جميع “المؤمنين الأرثوذكس الروس الذين يعيشون في أوكرانيا (أو في أي مكان آخر) هم من الروس، حتى لو كانوا مواطنين قانونيين في أوكرانيا”.
وفقًا لذلك، نجد أن بوتين – بغض النظر عن معتقداته الدينية الشخصية – ربما أراد خلال الأزمة الأوكرانية توظيف القيم المسيحية الأرثوذكسية التقليدية للتأثير السياسي وإحياء المبادئ القومية بين المواطنين الروس، لكن – من ناحية أخرى – ربما لم يكن ذلك أكثر من استغلال البعد الديني لربطه بالبعد القومي كأداة لتحقيق أهدافه ضد أوكرانيا، لا سيما أنه كان شديد السرية بشأن تربيته وحياته الخاصة.
في المقابل، تهاجم الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية وتحاول إضعاف روسيا من خلال استدراج ما تسميهم “المؤمنين” إلى مسار آخر، وبالمثل، فإن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يهاجم روسيا بإقناع هؤلاء الروس روحيًا بأنهم أوكرانيون حقًا، والأسوأ من ذلك، يبدو أن جهودهم تؤتي ثمارها، فيبدو أن الشعب الأوكراني مهتم أكثر بأن يكون جزءًا من الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو أكثر من اهتمامه بإعادة الاندماج في دولة روسية عظمى أكبر.
في هذه العقلية الملتوية، يعتبر زيلينسكي شخصية شبيهة بـ”الشيطان” بالنسبة “للقديس بويتن”، فهو يغري الروس الطيبين ويجذبهم إلى الطرق المؤدية إلى الغرب، وهذه هي الطريقة التي يمكن أن يقنع بها بوتين نفسه أنه تم الهجوم عليه وعلى بلده أولًا، وأن زيلينسكي والحكومة الأوكرانية هما المعادل الأخلاقي لما يسميهم “النازيين” الذين غزوا روسيا.
بوتين يرى نفسه كشخصية قديس، بطولي، يضرب الأعداء الأشرار ويحافظ على كل ما هو جيد ومقدس، ويعتقد أنه مع وجود تهديد وشيك لروح “سفياتايا روس” أو “روسيا المقدسة”، فإن جميع الأساليب والتكتيكات لها ما يبررها: القنابل العنقودية والأسلحة الحرارية وإطلاق القذائف على محطات الطاقة النووية، ففي ذهن بوتين، إنه يخوص أقدس الحملات الصليبية، ولا يمكنه التوقف حتى يحقق هدفه.
يساعد هذا في تفسير استخدام بوتين لسلاح الدين المسيحي والتدين في منطقة الشرق الأوسط، لا سيما في الحرب السورية إلى جانب بشار الأسد، فبينما ارتكب نظام الأسد ذو الميول الشيعية فظائع ضد أي من عارضه (وخاصة المسلمين السنة)، وجدت عدد من المجتمعات المسيحية الأصلية القديمة في سوريا الحماية تحت أجنحة النظام، وبينما وقف العالم الغربي في مواجهة الأسد، انحازت روسيا بدلًا من ذلك إلى الديكتاتور الذي أعطى مزايا وحماية خاصة للمسيحيين داخل نطاق النظام.
أما في حالة أوكرانيا، فقد يكون استخدام بوتين للدين سلاحًا استخباراتيًّا، لا سيما أنه تم توظيفه واستخدامه بعناية خلال فترة قصيرة لتأكيد فكرته، ويظهر ذلك في حرصه على إظهار صورته في جانب ديني من خلال ارتدائه الدائم لسلسلة أو قلادة على شكل صليب، وقد أظهرها عمدًا في أوقات أخرى قبل غزوه لأوكرانيا، وانتشرت بعض صوره دون قميص، خاصة تلك التي التقطت من رحلة صيده إلى سيبيريا، قبل بضع سنوات.
كان تعزيز الكنيسة الأرثوذكسية الروسية التي قمعها سلفه بشكل مروّع خلال الحقبة السوفيتية، جزءًا من جهوده لإعادة بناء الهوية الروسية
انتشرت شائعات أن هذه القلادة لها دوافع استخباراتية، فكانت هدية من والدته المسيحية وعائلته المسيحية الأرثوذكسية، وأشار إليها بوتين ذات مرة بأنها مباركة حصل عليها في أثناء زيارته لضريح السيد المسيح خلال زيارة له لـ”إسرائيل” عندما كان ضابطًا في المخابرات الروسية في التسعينيات.
وكان بوتين حريصًا أيضًا على تعزيز تدينه بشكل دائم في خطاباته بالأماكن الدينية ويحيط به غالبية السكان من الجماهير المسيحية الأرثوذكسية الدينية في روسيا والحدود المجاورة، وذلك من خلال الترويج لهذه القلادة “المباركة”، التي كانت من العناصر القليلة التي نجت من حريق دمر منزل عائلته بالكامل، لكن على الرغم من الحريق، يزعم بأن الرب أنقذه من خلال بركتها.
يبدو الأمر كما لو أن فلاديمير بوتين عاشق مهووس بحب السيطرة، ومصمم على تدمير ما لا يستطيع امتلاكه، فقد انتهى الهجوم الروسي المتهور بشكل غير عادي على محطة الطاقة النووية في زابوريزهزهيا بأوكرانيا دون أي تسرب إشعاعي، لكن ليس قبل أن تشعل القذائف الروسية حريقًا في منشأة تدريب مجاورة لمفاعلات المحطة الست، الأزمة إذن ليست مجرد غزو روسيا لأوكرانيا، إنها فعل ذلك بطرق متهورة ومدمرة وكارثية بشكل خاص.
تسييس الدين
يعرف بوتين كيف يلعب السياسة بالدين، فقد كان تعزيز الكنيسة الأرثوذكسية الروسية التي قمعها سلفه بشكل مروّع خلال الحقبة السوفيتية، جزءًا من جهوده لإعادة بناء الهوية الروسية، ومع ذلك، في مقابل دعم الدولة، تفتقر الكنيسة الأرثوذكسية الروسية إلى الاستقلال الحقيقي عن الكرملين، كما أبلغت الجماعات الأرثوذكسية عن حملات تضليل روسية تحاول خلق صراع بين الكنائس في أوكرانيا.
وبسبب هذا، شكَّل الأرثوذكس الأوكرانيون المستقلون، على مدى القرن الماضي، كنائس منفصلة تفتقر إلى الاعتراف الرسمي، وسعت الكنائس الأرثوذكسية في أوكرانيا إلى الاستقلال الروحي المسمى “Autcephaly” عن الكنيسة الأرثوذكسية التي تتخذ من موسكو مقرًا لها.
بناءً على ذلك، تقدموا بطلب للحصول على وضع الاستقلال الذاتي في سبتمبر/أيلول 2018 من البطريرك المسكوني للقسطنطينية (خصم أرثوذكسي ذو توجه غربي ومقره إسطنبول)، وفي العام التالي، وقَّع البطريرك المسكوني بارثولوميو، الذي يعتبر “الزعيم الروحي” لما يقرب من 300 مليون مسيحي أرثوذكسي في جميع أنحاء العالم، على الطلب الذي وفَّر لبطريركية كييف الحرية الدينية الكاملة دون قيود من بطريرك موسكو الذي احتج بشدة على هذه الخطوة واعتبرها “غير شرعية”.
بمجرد انفصال بطريركية كييف عن القيادة الدينية في موسكو – وهي العملية التي دافع عنها الرئيس الأوكراني السابق بيترو بوروشنكو – زادت حدة الصراع الديني إلى أبعد من ذلك، وقادت روسيا إلى قطع علاقاتها مع بطريركية القسطنطينية الأرثوذكسية المسكونية في إسطنبول عندما تحركت للاعتراف بكنيسة مستقلة في أوكرانيا، وهو ما نتج عنه تصعيد الأمر إلى الأحداث الجارية.
رغم تبرير بوتين وكيريل غزو أوكرانيا على أنه دفاع عن الكنيسة الأرثوذكسية ذات التوجهات الروسية، فإن زعماء الفصيلين الأرثوذكس الأوكرانيين أشاروا إلى “الحرب” بالاسم وأدانوها بشدة
هدَّد ذلك بحدوث انقسام داخل الأرثوذكسية العالمية، فقد امتدت الخلافات إلى الكنائس الأرثوذكسية الشرقية في إفريقيا، حيث اعترف الأرثوذكس الروس بمجموعة منفصلة من الكنائس بعد أن اعترف بطريرك إفريقيا باستقلال الكنيسة الأوكرانية، لكن العديد من الكنائس الأخرى سعت إلى تجنب الخلاف، ففي الولايات المتحدة، مع وجود سلطات أرثوذكسية متعددة، لا تزال معظم المجموعات تتعاون وتتعبد مع بعضها البعض.
كان الوضع في أوكرانيا أكثر ضبابية على الأرض، قال جون بيرجس، مؤلف كتاب “روس المقدسة: إعادة ميلاد الأرثوذكسية في روسيا الجديدة”، إن العديد من الأديرة والأبرشيات لا تزال تحت سلطة بطريرك موسكو، على الرغم من صعوبة العثور على إحصائيات دقيقة”.
يعكس هذا النظام الديني الانقسام السياسي بين البلدين، فقد رسم الرئيس الأوكراني السابق، بيترو بوروشينكو، رابطًا مباشرًا بين الاستقلال الديني والسياسي: “استقلال كنيستنا جزء من سياساتنا المؤيدة لأوروبا والموالية لأوكرانيا”، كما قال في عام 2018، لكن الرئيس الحاليّ فلاديمير زيلينسكي، وهو يهودي الأصل، لم يضع نفس التركيز على القومية الدينية، وقال إنه تحدث إلى كل من الزعماء الأرثوذكس وكبار ممثلي الكاثوليك والمسلمين واليهود.
لا يتوقف الأمر عند حد الصراع بين المسيحيين الأرثوذكس أنفسهم، فالكاثوليك الأوكرانيون الذين يعيشون بشكل رئيسي في غرب أوكرانيا لديهم تاريخ قوي بشكل خاص في مقاومة الاضطهاد تحت قيادة القياصرة والشيوعيين، فقد تعرضوا لقمع شديد من السوفييت، وقتل العديد من القادة، وفي كل مرة تستولي روسيا على أوكرانيا، يتم تدمير الكنيسة الكاثوليكية الأوكرانية، وواصل العديد من الكاثوليك الأوكرانيين العبادة تحت الأرض، وانتعشت الكنيسة بقوة منذ نهاية الشيوعية.
مع هذا النوع من التاريخ، قد يكون لدى الكاثوليك الأوكرانيين – برئاسة رئيس الأساقفة سفياتوسلاف شيفتشوك، الذي كان منتقدًا شرسًا للغزو الروسي – سبب قوي لمقاومة استيلاء موسكو على كييف مرة أخرى، لكنهم ليسوا المجموعة الوحيدة التي اضطهدها السوفييت، الكثير من الجماعات لديها سبب للمقاومة.
كيف تقسِّم حرب أوكرانيا الأرثوذكس؟
بوتين ليس المسؤول الوحيد عن تسييس الدين في أوكرانيا، فبمجرد أن أصبح واضحًا أن أوكرانيا كانت تتجه بلا هوادة نحو أوروبا الغربية، فإن فرع الكنيسة الأرثوذكسية في أوكرانيا المتحالف بشكل مباشر مع الكرملين بدأ في التأكيد على فكرة أن روسيا يجب أن يُنظر إليها على أنها وصي للحضارة المسيحية والقيم العائلية التقليدية في مواجهة التوجه العلماني نسبيًا للعديد من دول الاتحاد الأوروبي.
كذلك سعت بطريركية موسكو التي كانت صامتة بشأن الحرب لفترة طويلة إلى ثني الجنود الأوكرانيين عن الدفاع عن أنفسهم ضد الانفصاليين المدعومين من روسيا باسم الأخوة الأرثوذكسية، وفي بعض الحالات رفضوا أداء طقوس دينية للمسيحيين الأرثوذكس الأوكرانيين المعمَّدين خارج بطريركية موسكو.
يرى مراقبون أنه في حالة استولت روسيا على أوكرانيا فإن الحرية الدينية ستكون واحدة من العديد من الضحايا في هذا الصراع الذي لا داعي له
كرر بطريرك موسكو كيريل قبل أيام منطق بوتين الحربي، وقدم حرب بوتين كمقاومة مشروعة للقيم الغربية في خطبه بموسكو، وتحدث عن الأرض الأوكرانية باعتبارها جزءًا من روسيا، وقال: “عسى الرب أن يحافظ على الأرض الروسية؛ الأرض التي تشمل الآن روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا والقبائل والشعوب الأخرى”، بل إنه ألمح إلى أن القوات الأوكرانية التي تدافع عن منازلها كانت “شريرة”.
تماشيًا مع خط بوتين، ووفقًا لحظر الرئيس تغطية الحرب أو حتى تسميتها على هذا النحو، لم يستخدم البطريرك أيضًا كلمة “حرب” لغزو أوكرانيا، لكنه تحدث عن “الأحداث” و”الأعمال العسكرية”، وأدى فشله في التحدث علنًا عن السلام إلى قيام العديد من أساقفة الكنيسة الأرثوذكسية في أوكرانيا بإعطاء تعليمات بالتوقف عن ذكر اسمه في الصلاة، كما هو معتاد، حتى في شمال شرق أوكرانيا، على الحدود الروسية، كان هذا هو الحال.
في 3 مارس/آذار، وصف تيم كيلير، وهو شماس في الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية، على موقع “National Review” صمت كيريل بـ”الفضيحة”، فرغم أن دوره في الهندسة العدوانية لبوتين يمثل أمرًا بالغ الأهمية، حافظ رئيس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، في أحسن الأحوال، على حياد غير مقبول في حرب روسيا المستمرة على أوكرانيا.
في غضون ذلك، فعل البابا فرانسيس الأسبوع الماضي ما يبدو أنه لا ينوي البطريرك كيريل القيام به على الإطلاق، خلافًا لما هو متعارف عليه، ذهب البابا إلى السفارة الروسية، وطرق بابها، وبروح الأنبياء، دعا إلى السلام، وعرض مكتبه للمساعدة في الوساطة، لكن كيريل، لأسباب مفهومة، غير قادر على طرق الباب الذي يسكن على الجانب الآخر منه.
مع تطور الأحداث على الأرض، بدا أن الحرب العدوانية الروسية ضد أوكرانيا تدق إسفينًا في الكنيسة الأرثوذكسية، فرغم تبرير بوتين وكيريل غزو أوكرانيا على أنه دفاع عن الكنيسة الأرثوذكسية ذات التوجهات الروسية، فإن زعماء الفصيلين الأرثوذكس الأوكرانيين أشاروا إلى “الحرب” بالاسم وأدانوها بشدة، وكذلك بعض القساوسة في روسيا والأقلية الكاثوليكية المهمة في أوكرانيا.
في أوائل مارس/آذار، وقَّع رجال الدين الأرثوذكس والكهنة الروس رسالة مفتوحة يدينون فيها الحرب في تحد نادر للحكومة الروسية، مضيفين أن شعب أوكرانيا “يجب أن يتخذ قراراته بنفسه دون ضغط من الغرب أو الشرق”، واعتبارًا من يوم 8 مارس/آذار 2022، وصل عدد الموقَّعين على الرسالة إلى 286 من الكهنة والشمامسة.
من النادر جدًا أن يتحدى هذا العدد الكبير من رجال الدين في الكنيسة الأرثوذكسية وزعيمها البطريرك كيريل، الذي لم يوقع على الرسالة، سياسات بوتين علنًا، ففي السنوات الأخيرة، دعمت الكنيسة الأرثوذكسية بشكل كامل الحكومة الروسية، ولم يصدر أي تعليق أو رد فعل من كيريل أو من المسؤولين الروس.
وبالتالي، وخلافًا لأهداف بوتين الحربية، قد يؤدي العدوان الروسي إلى تقريب الكنيستين الأوكرانيتين من بعضهما البعض، فقد أصدر المتروبوليت أونوفري، رئيس الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية المرتبطة بموسكو، بيانًا يدين غزو بوتين، ويطالب فيه رئيس روسيا وقف “حرب الأشقاء” على الفور.
بعد يوم من نشر رسالة إبيفاني، بدأ موقع كنيسته على الإنترنت في نشر تقارير تزعم تعرض كنائسها وأفرادها للهجوم، وألقى باللوم في هجوم واحد على ممثلي الكنيسة المنافسة، فقد أصدر مجلس الكنائس الأوكراني في 1 مارس/آذار تحذيرًا من غارة جوية روسية محتملة على كاتدرائية القديسة صوفيا في كييف.
وعلى عكس كيريل الذي دعا إلى السلام لكنه لم يوجه اللوم إلى الغزو، يشير رد فعل أونوفري، الذي يمثل في النهاية جزءًا من الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، الذي قارن الحرب بـ”خطيئة قابيل” إلى أنه حتى الكنيسة ذات التوجهات لموسكو لديها إحساس قوي بالهوية الوطنية الأوكرانية.
لكن ماذ لو انتصر الروس في هذه الحرب؟ يرى مراقبون أنه في حالة استولت روسيا على أوكرانيا فإن الحرية الدينية ستكون واحدة من العديد من الضحايا في هذا الصراع الذي لا داعي له، وربما سيعني ذلك نهاية الكنائس الأرثوذكسية الأوكرانية المستقلة، ومن غير الواضح ما الذي سيحدث للمذاهب الدينية المختلفة الموجودة في أوكرانيا، لكن من الواضح في الوقت الحاليّ أنهم جميعًا سيصلون من أجل السلام.