أدت الهجمات الصاروخية التي قامت بها القوات الجوفضائية التابعة للحرس الثوري، عبر إطلاق 12 صاروخًا باليستيًا من طراز فاتح 110 قصيرة المدى نحو مدينة أربيل العراقية الأسبوع الماضي، إلى إحداث تغيير كبير في قواعد الاشتباك على مستوى الدور الإيراني في العراق من جهة، وعلى مستوى العلاقات مع الولايات المتحدة من جهة أخرى.
وعلى الرغم من عدم إحداث هذه الهجمات إصابات دقيقة، فإنها أشارت إلى بدء عهد جديد لسياسة التصعيد الإيرانية في العراق، وهو ما أشار إليه قائد فيلق القدس إسماعيل قآني، قائلًا إن هذه الهجمات تمثل تحولًا جديدًا في إستراتيجية “محور المقاومة”، إذ كانت إيران فيما سبق تعول على حلفائها العراقيين، وتحديدًا الفصائل الموالية لها، في إرسال رسائل غير مباشرة للمجتمع الدولي، إلا أن الهجمات الأخيرة مثلت رسائل مباشرة من إيران.
تمثل نظرية الخطوط الحمراء جزءًا مهمًا في الخطاب الإيراني الذي اعتاد تكرارها في أكثر من مناسبة
ومما لا شك فيه أن الهجمات الأخيرة ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالمحادثات النووية الجارية في فيينا، وعلى الرغم من توصل إيران والأطراف الأخرى، وتحديدًا الولايات المتحدة، إلى مستويات متقدمة في المحادثات، فإن عقبة النفوذ الإقليمي والصواريخ الباليستية ما زالت حاضرة بقوة، وهو ما أكده المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، خلال لقائه أعضاء مجلس خبراء القيادة في طهران الأسبوع الماضي، من أن “طهران لن تنحني أمام الضغوط الرامية لجعلها تقلص قوتها الدفاعية ووجودها في المنطقة والتقدم في التكنولوجيا النووية”، هذه المخاوف الإيرانية عادت لتتأكد من جديد بعد تردد الإدارة الأمريكية في مسألة رفع الحرس الثوري من قائمة المنظمات الإرهابية.
نظرية الخطوط الحمراء
تمثل نظرية الخطوط الحمراء جزءًا مهمًا في الخطاب الإيراني الذي اعتاد تكرارها في أكثر من مناسبة، تحديدًا مع بدء العودة التدريجية للمحادثات النووية، إذ عادةً ما أشارت إلى أن قدراتها الدفاعية وصواريخها الباليستية ونفوذها الإقليمي خطوط حمراء لا يمكن النقاش عنها، واليوم تُعيد الحديث عن هذه النظرية وتربطها بأمنها القومي، ما يشير إلى أن هناك واقعًا سياسيًا جديدًا تحاول إيران تأسيسه في العراق والمنطقة، قبل التوصل لأي اتفاق نووي مع المجتمع الدولي، يجعل مسألة الأمن القومي الإيراني مدخلًا مشروعًا للتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، خصوصًا عندما تكون التحولات السياسية والأمنية في هذه الدول، لا تسير وفق الرؤى والمصالح الإيرانية.
وفي هذا السياق، قال المتحدث باسم الحرس الثوري العميد رمضان شريف، في بيان له يوم الخميس: “تدمير أي مقر ينطلق منه أي اعتداء يستهدف أمن البلاد حق طبيعي وهذا خط أحمر”، وحذر شريف أنه “في حال لم يتحرك المسؤولون العراقيون لإزالة بقية المقرات وتم استهداف أمننا من تلك المنطقة سنرد دون تردد”.
إن الخطاب الإيراني الأخير عبر تأكيده المستمر على فكرة الخطوط الحمراء يؤشر على ما يبدو إلى محاولة إيرانية لجعل العراق جبهة متقدمة للحوار مع المجتمع الدولي بلغة الصواريخ، خصوصًا عبر الإشارة إلى المهددات العامة التي تستهدف إيران انطلاقًا من العراق، وهو ما لم يتأكد حتى اللحظة، فعلى الرغم من تأكيد إيران وجود مقرات تابعة للموساد الإسرائيلي في أربيل، فإنها عجزت عن تقديم دليل يثبت ذلك.
إن هذه النظرية من شأنها أن تجعل العراق وأي مدينة فيه ساحة محتملة للاستهداف الإيراني مستقبلًا تحت ذريعة حماية الأمن القومي، كما أنها تمثل ضوءًا أخضر للفصائل المسلحة الموالية لها، في اختيار الأهداف التي تتوافق مع المصالح الإيرانية، ولعل الهجمات الصاروخية التي استهدفت قاعدة بلد الجوية ليلة الخميس، تشير إلى هذا التحول المهم في الرؤية الإيرانية، وهي رؤية حاول مسؤول ملف العراق في الخارجية الإيرانية حسن دنائي فر وقائد فيلق القدس إسماعيل قآني شرحها لقيادات الفصائل المسلحة في زيارتهم السرية الأخيرة إلى بغداد بعد الهجوم.
توظيف الهجوم لأهداف متعددة
حاولت إيران توظيف فكرة الرد على مقتل جنودها في دمشق بهجوم صاروخي استهدف مقرهم بداية الشهر الحاليّ، من أجل خلق واقع جديد يخدم طموحها في العراق، فقد حاول إقليم كردستان خلال الفترة الماضية تبني خيارات سياسية عبر دعم جهود السيد مقتدى الصدر في تشكيل حكومة أغلبية وطنية، وخيارات اقتصادية عبر توقيع اتفاقيات عديدة مع تركيا لتصدير الغاز إليها عبر شركة كار، التي استهدف منزل رئيسها في الهجوم الصاروخي الإيراني الأخير.
ومن ثم فإن هذا الواقع يشير إلى أن نظرية الخطوط الحمراء لن تقتصر على المهددات الأمنية فحسب، وإنما تشمل المهددات السياسية والاقتصادية القادمة من العراق، وهو ما يجعل الواقع العراقي من جهة أخرى، خاضعًا لحسابات المزاجية السياسية الإيرانية في طريق تعريف عنصر التهديد والتعامل معه، دون مراعاة للسيادة العراقية التي أصبحت معرضة للانتهاك في أكثر من مناسبة من الجانب الإيراني.
تقول طهران إنها لن تقبل المساس بها، ويصرّ الغرب على إحداث “اختراقٍ” بشأنها، ويتعلق الحديث تحديدًا بأنشطة إيران في المنطقة
ويمكن القول إن نظرية الخطوط الحمراء قد تمثل تهديدًا خطيرًا يتمثل في إمكانية أن يكون العراق أحد أهم مجالات الصراع المشتعلة في المرحلة المقبلة، خصوصًا مع إعلان الخارجية الإيرانية توقف الجولة الخامسة من المحادثات مع السعودية، كما أن موقف الولايات المتحدة من الهجوم على أربيل، يوضح أن الإدارة الأمريكية ليست بوارد الانجرار وراء التصعيد الإيراني، وهذا ما أشار إليه المتحدث باسم الخارجية الأمريكية نيد برايس عندما قال: “ليس لدينا مؤشرات على أن الهجوم كان موجهًا إلى الولايات المتحدة”، ومن ثم فإن هذا ما يجعل البيئة العراقية مرشحة لمزيد من التصعيد، في ضوء غياب الجهد الحكومي والأمني على تقليل مخاطر هذا التهديد.
إجمالًا يبدو أن إيران والغرب يربطان العودة إلى الاتفاق النووي بـ”خطوط حمراء”، تقول طهران إنها لن تقبل المساس بها، ويصرّ الغرب على إحداث “اختراقٍ” بشأنها، ويتعلق الحديث تحديدًا بأنشطة إيران في المنطقة، وفقًا لأحدث التسريبات، تربط الإدارة الأمريكية رفع الحرس الثوري عن قائمة الإرهاب، بالتزام إيراني بخفض التصعيد في المنطقة فقط، حتى إن التطرق إلى برنامج الصواريخ الباليستية تراجع.
لكن الرفض الإيراني لتقديم هذا التعهد يعني أن طهران تريد أن تحصل على كل شيء، عودة واشنطن إلى الاتفاق، رفع العقوبات، تدفق الأموال، حل المشكلات مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، طمس التحقيقات في ملف الأنشطة النووية غير المعلنة، لكنها، في المقابل، لا تريد تقديم أي تنازلات، والأهم تصر على أنها الضحية، ولا تتحمل أي مسؤولية في تعطيل إحياء الاتفاق.