ترجمة وتحرير نون بوست
لقد حان الوقت لإعادة النظر في مسار التظاهرات العربية، فعلى مدار الأسابيع الماضية شاركت قرابة الخمسين من الباحثين في ثلاث ورش عمل ضخمة، وكان من الواضح لي تمامًا أسباب تلك الرغبة الشديدة في إعادة التفكير من جديد، خصوصًا مع الحالة المؤسفة للمنطقة والنتائج الكارثية لكل من ثورات العام 2011، فبينما لم نتمكن حتى الآن من نقد مجال دراسة سياسات الشرق الأوسط لفشله في توقع هذه الثورات من الأساس؛ يصبح التساؤل عن أدائه أثناء الأحداث نفسها أكثر أهمية، فقد كتب الأكاديمون كميات غير مسبوقة من الدراسات والتحليلات المباشرة على مدار السنوات الثلاث الماضية، ولكن ما الذي نسيناه تحديدًا وأثر على أحكامنا لنفشل تمامًا في توقع ما حدث بهذا الشكل.
ركزت أول هذه الورش على السؤال السابق، فقد طلبت من عدد من الكتاب ممن شاركوا في كتاب “شرح الثورات العربية: سياسات النزاع الجديدة في الشرق الأوسط” الذي قمت بتحريره أن يكتبوا تعليقات قصيرة على مساهماتهم بعد أن مر عام عليها، وكان نقدهم الذاتي مليئًا بالنقاط الجديرة بالتأمل، فقد ركزنا على النشطاء ونسينا السلطويين، وقللنا من أهمية سياسات الهوية، وافترضنا بسرعة وسذاجة أن التظاهرات الشعبية ستدفع نحو انتقال ديموقراطي، وقللنا من أهمية الدور الخطير للقوى الإقليمية والدولية في تشكيل الأوضاع الداخلية، وافترضنا أن موجة جديدة من التظاهرات ستندلع بشكل أكيد (وهو ما يبدو بعيد المنال تمامًا حاليًا)، وقللنا من احتمالية الفشل بينما بالغنا في احتمالية التوافق الديموقراطي.
وكانت إحدى النقاط التي بزغت في الورشة هي مدى تعلقنا العاطفي بلاعبين وسياسات في حد ذاتها، ففي خضم الأحداث يؤثر علينا بشكل كبير معارفنا وزملائنا من المشاركين فيها، فغالبًا قد سمحنا للأمل أو التعاطف أن يؤثر على رؤيتنا للأحداث؛ ومثل هذا الفعل وإن كان صفة جيدة للناشط إلا أنه يمثل مشكلة كبيرة للنزاهية الأكاديمية، ولكن من الملفت للنظر أيضًا في نتائج الورشة أن ذات الأمر ينطبق على نزعة التشاؤم والاكتئاب التي تخيم على المجال الأكاديمية نتيجة لعودة السلطوية العربية وأقوى مما كانت، فهل يعني سوء الأوضاع الشديد حاليًا أن هذا الحال سيستمر؟ فبنفس القدر الذي أسرعنا فيه إلى الجزم بنجاح ثورات 2011 يبدو أننا نسارع بتقبل نجاح الديكتاتور في المنطقة، فهل فعلاً من المستحيل تخيل فشل مصر السيسي وسط التمردات المسلحة المتزايدة وقمع المجتمع المدني بكافة أشكاله والأزمة الاقتصادية المتفاقمة؟ هل ستبقى ملكيات الخليج على ارتياحها بينما ينزلق سعر النفط تحت الـ 80 دولارًا للبرميل؛ وبينما تنمو النزعات الإسلامية المتطرفة وأجهزة منشغلة بالسجن المستمر للمعارضين رغبة في إسكات تويتر؟
ربما من الواجب أن نتفادى تكرار خطأ التفاؤل المبالغ فيه في 2011 بتفادي المبالغة في التشاؤم اليوم.
قمت بإعادة التفكير مرة أخرى في عدد من الأشياء على مدار العامين الماضيين؛ فقد رأيت بعض التطورات السلبية التي كنت أتوقعها بالرغم من أملي ألا تحدث، كقرار الإخوان المسلمين الكارثي بالدفع بمرشح إلى السباق الرئاسي في مصر كان من الممكن رؤية نتائجه المرعبة من قبل أن يحدث، وما سببته التدخلات الخارجية من مصائب في سوريا من معاناة إنسانية يرقى لنفس الوضع من التوقع المسبق.
ولكن في الآتي سأذكر عددًا من المجالات التي كتبت عنها كثيرًا في الأعوام الماضية ولكني أظن أن الوقت قد حان لإعادة تقييم آرائي بها.
ليبيا: كان التدخل العسكري في ليبيا أحد التدخلات القليلة للغاية التي أعربت عن دعمي لها في المنطقة، وتوضح النتائج التي ترتبت عليه الآن لأي مدى كنت مخطئًا في هذا الدعم، فعلى الرغم من عدم ندمي على هذا الدعم لما تسبب به من إنقاذ حيوات الكثير من البشر من بطش النظام السابق، إلا أن غض النظر عما جلبه من حالة اقتتال داخلي وفشل للدولة الليبية له أثر ضخم على عدم استقرار المنطقة ككل غير ممكن، فسقوط القذافي متزامنًا مع بزوغ شمس المليشيات المسلحة ترك ليبيا بلا دولة فاعلة وبلا أرض تسمح ببناء نظام سياسي جديد؛ وبالتالي تصبح نتائج التدخل السلبية أكبر بكثير من فوائده في وجهة نظري.
وأسباب إعادة تقييم التدخل العسكري تتخطى ليبيا في حد ذاتها، فقد عولت كثيرًا على القيمة الرمزية للتدخل، فكنت آمل أنه سيلجم أي ديكتاتور آخر في المنطقة بالخوف قبل أن يستخدم القوة القاتلة ضد شعبه والمتظاهرين، ولكن مع الأسف فإن هذا الأمل تحديدًا قد جلب نتائج سلبية غير مقصودة؛ فقد أدى تحالف الولايات المتحدة مع دول الخليج في الهجوم الليبي أن تغض الإدارة الأمريكية بصرها عن سحق التظاهرات في ليبيا الذي كان يحدث في نفس الوقت.
وكان أسوء هذه النتائج في سوريا، فقد فرض التدخل العسكري في ليبيا قدرًا من الحذر على الرئيس السوري بشار الأسد؛ مما جعله يتمكن من ضبط جرعة العنف المناسبة لقمع معارضيه وفي نفس الوقت لتلافي خطر التدخل العسكري الغربي، إلا أن هذا في حد ذاته لم يستمر وبدأ العنف في التصاعد السريع، بينما شجع التدخل في ليبيا النشطاء السوريين وحلفاءهم في الخليج وتركيا، وبث فيهم الأمل في تدخل مماثل في سوريا؛ وأدت هذه النتيجة غير المقصودة إلى تفاقم الحرب الأهلية في سوريا، ويبقى أيضًا أن نتائج التدخل العسكري في ليبيا كانت كفيلة بالتأثير على أي قرار بالتدخل في أي مكان آخر مستقبلاً، ففشل حملة ليبيا قد شارك بشكل فعال في تباطؤ واشنطن (الحكيم جدًا في رأيي الشخصي) في اتخاذ قرار التدخل في سوريا، خصوصًا بعد الفشل المهين في بنغازي في سبتمبر 2012.
فيتبقى السؤال عن أي الدروس يجب أن نتعلم من فشل التدخل في بناء دولة ليبية مستقرة؟
الجماهير العربية الجديدة: لوقت طويل آمنت أن الجمهور والرأي العام العربي قد تحرر لن يسمح لنفسه أن يعود إلى تلاعب وتحكم القوى الديكتاتورية به مرة أخرى، فمهما تعددت الصعوبات التكتيكية وتعقدت المرحلة الانتقالية فإني كنت أعتقد أن دخول الأجيال الجديدة إلى الحياة السياسية كان كفيلاً بضمان التحول إلى سياسة أكثر انفتاحًا، فكان الجمهور العربي الجديد هو ورقة ضماني الأخيرة لعدم تكرار أخطاء الماضي.
ولكن ما حدث في مصر كان كفيلاً تمامًا بتدمير هذا الإيمان؛ ففي مصر تحديدًا أبدت أعداد مرعبة من الشباب والشخصيات العامة ممن شاركوا في تشكيل الثورة استعدادًا بل وحماسة استعادة الحكم العسكري وقمع الإخوان المسلمين، لم يكن نجاح القوات المسلحة في انقلابها هو المفاجأة الحقيقية (فطالما كان للانقلاب العسكري إمكانية في الحالة المصرية)، إلا أن المفاجأة كانت في تأييده من قبل الكثير من القوى الشعبية التي علقت عليها آمال التغيير للأفضل، وأثبت كل من الإعلام التقليدي والوسائط الاجتماعية قدرته على نقل الأفكار السلبية والمدمرة كما كان قادرًا على نقل الأفكار الثورية تمامًا، فقد انتشرت عدوى الدعوات الانقلابية في مصر بسرعة موازية لانتقال الأفكار الثورية، وسرعان ما تحولت الوحدة الثورية العروبية لشعوب الربيع في عام 2011 إلى نزعات طائفية، واستقطاب بين الإسلاميين وخصومهم، وصور الموت والعذاب المرعبة في سوريا وليبيا والعراق.
لعب الإعلام دورًا شديد التدميرية في بيئة ما بعد الثورات، فللحظة خاطفة وغير مفهومة بدا وكأن قنوات التلفاز والصحف المستقلة في مصر قد بدأت في تكوين مجال عام حقيقي، ولكن سرعان وما انهار هذا المجال، فقد واظب الإعلام الحكومي الذي لم يعاد تشكيله على تقديم سيل جارف من البروباجندا، وسقطت وسائل الإعلام المستقلة في يد الدولة أو المصالح المضادة وامتلأت الموجات بالتحريض والتعبئة الشعبوية القذرة، وعلى الصعيد الخارجي سقطت المحطات الدولية في فخ التلاعب بها لصالح السياسات الخارجية لبعض الدول، وكان أكثر من تأثر بهذا وبشكل سلبي هو شبكة الجزيرة، وبينما وفرت شبكات التواصل الاجتماعي وشبكة الإنترنت شكل مكثف من حركة وانتقال الآراء والأصوات المختلفة، إلا أنها فشلت تمامًا في استبدال الإعلام التقليدي كمصدر للأخبار يناسب الجماهير الضخمة.
فهل يبقى من الحقيقي أن الجماهير العربية الجديدة ستمنع أي عودة للأنظمة القديمة أم أنها ستتأقلم مع شكل جديد من أشكال السلطوية الشعبوية في سبيل معاداة القوى الإسلامية والاستقرار؟
انعدام القواعد والتوافق: لطالما زعمت أن المرحلة الانتقالية قد افتقدت لأي نوع من أنواع التوافق على القواعد السياسية المبدأية، وكان هذا كفيلاً بخلق حالة من الخوف الواضح من المستقبل والفشل في وضع الاستراتيجيات المستقبلية المناسبة عند كل الأطراف، فسلاسل الأخطاء الشنيعة التي تغلغلت في قرارات كل الأطراف في بلاد مثل مصر وليبيا كان من الممكن تفسيرها في وجهة نظري بالخوف والشك عوضًا عن كونها نابعة من صفات في الأشخاص والمؤسسات القائمة بها.
وقد أثبتت هذه النظرية صحتها وانتقلت لمرحلة جديدة، فقد فشلت الانتخابات في حل أي من المشاكل السياسية في غياب دستور يوضح حدود سلطة وقوة الكيانات المنتخبة، فقد تكالبت الأحزاب على التخطيط للفوز بانتخابات مناصب ليس لسلطتها تعريف واضح من الأساس، وقد أشعل غياب الدستور والتوافق المخاوف بخصوص هوية الدولة ذاتها، خصوصًا في الدول التي عانت من الاستقطاب كمصر وليبيا وتونس.، وأخيرًا كانت القرارات الضالة للقضاء المسيس ذات تأثير مدمر وخصوصًا في مصر، فقد ترك تسييس القضاء الدولة بلا حكم عادل موثوق به للبت في الخلافات القانونية والدستورية.
ولكنني قد فشلت في توقع نتائج هذه المشاكل، فقد ظننت أن التوافق على دستور (أي دستور كان) في المرحلة الانتقالية المصرية العنيفة كان كفيلاً بتهدئة الأمور، ولكن أثبتت الأيام خطئي، ففي غياب منظومة شرعية تعهد بالتوصل إلى التوافق الكافي؛ تسبب الدستور في تعميق الخلافات السياسية والانشقاق السياسي، ولكن تونس (مثل الكثير من الأمثلة الأخرى) قد نجحت بشكل أكبر بكثير بخصوص هذه المشكلة، فكما أخبرني “راشد الغنوشي” قائد تنظيم النهضة أن الدستور قد نجح في حل أزمة الهوية والأيديولوجيا في تونس بما يسمح ببدء حياة سياسية طبيعية، وشخصيًا فإني أصبحت أؤمن تمامًا أن تخطي مرحلة انعدام القواعد والتوافق محوري لنجاح أي مرحلة انتقالية، لكن ما يسمح بتشكيل دستور ناجح في مرحلة انتقالية هو ما يجب التركيز عليه حاليًا في ظني.
فما هي الضمانات التي من الممكن تقديمها في المراحل الانتفالية لتخطي مرحلة انعدام التوافق؟
الإسلاميون والتحولات: كنت أؤمن بأن الثورات العربية قد هيأت فرصة فريدة للإسلاميين للمشاركة في العملية الديموقراطية، وكان هذا كفيلاً بضبط التوافق على السياسة وعزل وتهميش الجهاديين، فلفترة ليست بالقليلة اندمجت أحزاب الإخوان المسلمين والجماعات السلفية بحماس في المشاركة في الانتخابات، ولم يشارك حزب النهضة التونسي ويكسب الانتخابات الأولى فحسب، بل قام بتسليم السلطة في الانتخابات التالية منهيًا بذلك أسطورة أن الإسلاميين لن يسمحوا سوى بـ “رجل واحد، صوت واحد، مرة واحدة” إذا شاركوا في العملية الديموقراطية، ولكن المشاركة الإسلامية في الحياة الديموقراطية في المراحل الديموقراطية أثبتت فشلها الذريع وانتهت بالجهاديين كالمستفيد الوحيد.
لم تكمن المشكلة في تصوراتنا عن القوى الإسلامية التي لم تخيب أيًا من توقعاتنا، بل كانت تكمن في عدم تمكنهم من التأقلم مع بيئة سياسية جديدة تمتاز بالغموض أصبح النصر فيها ممكنًا ولم تعد استراتيجيات كبح الذات والتغيير الاجتماعي الهادئ والصبور ضرورية، وكانت تكمن أيضًا في المخاوف التي سببها نجاحهم السياسي عند القوى الأخرى، وعدم قدرة الأنظمة السياسية على تقبل صعودهم ولأي مدى ستذهب القوى المحلية والدولية لمنعهم من الحكم، ليثبت الإسلاميون عدم مناسبتهم للحكم كما كانوا في دور المعارضة، ودفع التحول الديموقراطي الثمن.
ربما يمكن تفسير الغضب الشعبي الشديد تجاه الإخوان المسلمين والنهضة بما سبق ذكره من التحريض الإعلامي، إلا أن هذا لا يقلل من حقيقة كيف أفسدت الجماعة سمعة طيبة تم تشكيلها على مدار عقود في شهور معدودة بأي شكل، ويبزغ هنا سؤال مهم عن كيف سيؤثر الانقلاب في مصر على آراء الإسلاميين في المشاركة الديموقراطية على المدى البعيد؛ فهل من المعقول أن يؤمن أي منهم بالديموقراطية كنظام للتحاكم؟ وهذا بالضرورة في مصلحة القوى الجهادية كالقاعدة حيث يرسخ لرفضها الأيديولوجي للديموقراطية وبحثها عن أشكال جديدة للتحاكم كالدولة الإسلامية.
فكيف يمكن لنا أن نفهم عالم السياسات الإسلامية الجديد حيث أصبح مشروع الإخوان المسلمين مجرد أنقاض بينما تتصاعد الحركات الجهادية الجديدة؟
المصدر: واشنطن بوست