الحرب الروسية الأوكرانية ليست مجرد صراع بين دولتَين إحداهما نووية وعضو دائم في مجلس الأمن، لكنها فرصة لتصفية الحسابات السياسية على الصعيد الإقليمي والخارجي وحتى الداخلي، إذ تحاول كل الدول الاستفادة بطريقة أو بأخرى من الأزمة، وتركيا هي الأقرب لهذه المعادلة.
اتفاقية مونترو
في الأول من مارس/ آذار الحالي، قررت تركيا إغلاق ممراتها البحرية في الدردنيل والبسفور أمام سفن الأطراف المتحاربة وفقًا لاتفاقية مونترو لعام 1936، مع رجاء للأطراف المتحاربة باحترام هذه الاتفاقية.
لم يكن الموضوع ليقف عند هذا الحد، مع أزمة تحاول فيها كل الأطراف المتحاربة وغير المتحاربة استخدامها لمصلحتها الخاصة، فقد يكون هناك الكثير ممّا يمكن لتركيا لعبه في هذا الشأن.
كانت المضائق البحرية تحت سيطرة الدولة العثمانية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، حين نزعت منها اتفاقية سيفر، وبعدها معاهدة لوزان عام 1923، سلاح الدردنيل وفتحت المضائق أمام حركة مرور مدنية وعسكرية غير مقيَّدة، تحت إشراف لجنة المضائق الدولية التابعة لعصبة الأمم.
لكن بحلول أواخر الثلاثينيات تغيّر الوضع الاستراتيجي في البحر الأبيض المتوسط، مع صعود إيطاليا الفاشية التي سيطرت على جزر دوديكانيسيا التي يقطنها اليونانيون قبالة الساحل الغربي لتركيا، وشيّدت تحصينات في رودس وليروس وكوس.
خشي الأتراك من أن تسعى إيطاليا إلى استغلال الوصول إلى المضيق لتوسيع قوتها في الأناضول ومنطقة البحر الأسود، كما كانت هناك مخاوف من إعادة التسلح البلغاري، ورغم أنه لم يُسمح لتركيا بتحصين المضائق إلا أنها فعلت ذلك سرًّا.
في أبريل/ نيسان 1935 أرسلت الحكومة التركية مذكرة دبلوماسية مطوّلة إلى الموقّعين على معاهدة لوزان، تقترح عقد مؤتمر حول اتفاقية نظام جديد للمضيق، وطلبت من عصبة الأمم السماح بإعادة بناء حصون الدردنيل، حيث في ذلك الوقت كانت أوروبا تتّجه نحو نزع السلاح وضمان دولي للدفاع عن المضيق.
كان الرد على المذكرة إيجابيًّا بشكل عام، حيث وافقت أستراليا وبلغاريا وفرنسا وألمانيا واليونان واليابان ورومانيا والاتحاد السوفيتي وتركيا والمملكة المتحدة ويوغوسلافيا على حضور المفاوضات في مونترو بسويسرا، والتي بدأت في 22 يونيو/ حزيران 1936، بغياب تمثيل قوتَين رئيسيتَين: إيطاليا التي دفعت سياساتها التوسعية العدوانية إلى المؤتمر في المقام الأول، والولايات المتحدة.
في النهاية، تمَّ التصديق على الاتفاقية من قبل جميع الحاضرين في المؤتمر باستثناء ألمانيا، التي لم تكن من الدول الموقّعة على معاهدة لوزان، وبتحفُّظات من اليابان، ودخلت حيّز التنفيذ في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني 1936.
بموجب المادة 12 يُسمح لدول البحر الأسود بإرسال غواصاتها عبر المضيق مع إشعار مسبق، طالما سفنها في طور البناء أو الشراء أو أُرسلت للصيانة خارج البحر الأسود
ألغت الاتفاقية الفقرات المتعلقة بالمضائق في معاهدة لوزان، والتي نصّت على نزع السلاح من جزيرتَي ليمنوس وسمدرك اليونانيتَين، إلى جانب نزع سلاح الدردنيل وبحر مرمرة والبوسفور والجزر التركية أمروز وبزجادة وتافشان.
تتكون الاتفاقية من 29 مادة و4 ملاحق وبروتوكول واحد، تتناول المواد 2-7 مرور السفن التجارية، بينما تتناول المواد 8-22 مرور السفن الحربية، والمبدأ الأساسي لحرية المرور والملاحة منصوص عليه في المادتَين 1 و2.
فالمادة 1 تنصّ على “إقرار وتأكيد الأطراف الدولية المتعاقدة على مبدأ حرية المرور والملاحة في المضائق”، بينما نصت المادة 2 على “تمتُّع السفن التجارية بالحرية الكاملة للمرور والملاحة في المضائق في وقت السلم، ليلًا ونهارًا، وتحت أي علم وأي نوع من البضائع”.
وتمَّ إلغاء لجنة المضائق الدولية، وفُوِّضت العسكرية التركية بالسيطرة الكاملة على المضائق وإعادة تحصين مضيق الدردنيل، كما سُمح لتركيا بإغلاق المضيق أمام جميع السفن الحربية الأجنبية في زمن الحرب أو عندما تكون مهدَّدة بالعدوان، كما تمَّ التصريح برفض عبور السفن التجارية التابعة للدول التي هي في حالة حرب مع تركيا.
كما فُرضت بعض القيود الدقيقة جدًّا على نوع السفن الحربية المسموح لها بالمرور، فيجب على الدول التي ليس لها شواطئ على البحر الأسود وترغب في إرسال سفينة إخطار تركيا قبل 8 أيام من موعد المرور.
كما لا يجوز لأكثر من 9 سفن حربية أجنبية مجموع حمولتها الإجمالية 15.000 طنّ أن تعبر في وقت واحد، وأيضًا لا يمكن لأي سفينة يزيد وزنها عن 10.000 طنّ المرور، ويجب ألا تزيد الحمولة الإجمالية لجميع السفن الحربية غير التابعة للبحر الأسود في البحر الأسود عن 30 ألف طن (أو 45 ألف طن في ظروف خاصة)، ويُسمح لها بالبقاء في البحر الأسود لمدة لا تزيد عن 21 يومًا، ويجوز فقط لدول البحر الأسود عبور سفنها الرئيسية بحمولة مفتوحة، وألّا يزيد مرافقوها عن مدمِّرتَين.
بموجب المادة 12 يُسمح لدول البحر الأسود إرسال غواصاتها عبر المضيق مع إشعار مسبق، طالما سفنها في طور البناء أو الشراء أو أُرسلت للصيانة خارج البحر الأسود.
واُتفق على أن القواعد الأقل تقييدًا المطبّقة على دول البحر الأسود هي امتياز فعلي للاتحاد السوفيتي، الدولة الوحيدة المطلّة على البحر الأسود -باستثناء تركيا- التي لديها عدد كبير من السفن والغواصات، وسُمح بعبور الطائرات المدنية بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود ولكن عبر طرق تسمح بها الحكومة التركية.
مناورة كبيرة
رغم إغلاق تركيا للمضائق، إلا أنها مدفوعة للمناورة بحكم الكثير من الحقائق الاقتصادية والسياسية على الأرض، حيث يقول كمال كريشي، الباحث في معهد بروكنجز، إن “تركيا تقف في الوسط بين شد التقرب من روسيا، وجذب الاصطفاف التقليدي مع المعسكر الغربي، في ظل حرب قد تنقلب لتكون أزمة استنزاف طويلة لروسيا، ربما تكون تركيا رأس الحربة فيها”.
لدى أنقرة بالفعل الكثير ممّا يجب مراعاته قبل اتخاذ موقف عدائي تجاه روسيا، فالعلاقات الروسية التركية أكبر من أن يتمَّ التضحية بها بسبب اتفاقية مونترو، ويمرُّ الاقتصاد التركي بأسوأ حالاته منذ فترة طويلة، ويتميّز بتضخم متسارع وعجز متزايد في الحسابات الجارية.
فكل من روسيا وأوكرانيا مهمة اقتصاديًّا لتركيا مع 78% من واردات الحبوب التي تأتي من البلدَين (64.6% من روسيا و13.4% من أوكرانيا)؛ وفي الوقت الذي يبقى فيه السائحون الغربيون بعيدًا، شكّل السائحون الروس والأوكرانيين مصدر دخل هام لقطاع يمثل حوالي 4% من الناتج المحلي الإجمالي التركي.
كما أن كلا البلدين أسواق مهمة للصادرات التركية وكذلك خدمات البناء، وأخيرًا لدى تركيا مشاريع دفاعية مهمة مع كليهما، حيث كانت الطائرات المسيّرة “بيرقدار بي تي 2” من الأصول القيّمة لأوكرانيا في الأيام الأولى من الحرب.
ومع ذلك، من حيث التبعية، فإن الميزان لصالح روسيا يأتي أولًا، لاعتماد تركيا بشكل كبير على روسيا في مجال الطاقة، وهي ثاني أكبر مستورد للغاز الطبيعي الروسي بعد ألمانيا، وتقوم روسيا أيضًا ببناء محطة للطاقة النووية من شأنها إمداد 30% من احتياجات تركيا من الطاقة بحلول عام 2030.
ثانيًا، تركيا لديها اعتماد على الإذعان الروسي في شمال سوريا لردع أنظمة الأسد عن شنّ هجوم يخاطر بتهجير أعداد كبيرة من النازحين السوريين إلى تركيا، في وقت بلغ فيه السخط العام ضد اللاجئين السوريين ذروته.
وإلى جانب الضغط الذي تفرضه الأزمة على أسعار الطاقة، فإن العقوبات الغربية -وخاصة قرار تقييد وصول البنوك الروسية إلى نظام SWIFT- ستؤثِّر سلبًا على الاقتصاد التركي، حيث العملة التركية الهشة فقدت 5% من قيمتها فقط بعد أنباء الغزو الروس، الذي أدّى بدوره إلى وابل من الإلغاءات السياحية قد تدمِّر توقعات طفرة ما بعد كوفيد-19.
تركيا إذًا، ورغم الضغوط الغربية، لا يمكنها إلا أن تناور ما بين علاقاتها مع روسيا والتوجه العام للنظام الدولي الحالي الرامي إلى كسر روسيا اقتصاديًّا وعسكريًّا عبر أوكرانيا، وربما تكون هذه الأزمة أيضًا مناسبة لمناورة أخرى في التحكم بالمضائق ككل، أو لتمرير مشروع قناة إسطنبول الجديدة، التي هي بدورها التفاف على اتفاقية مونترو التي حرمت تركيا من مضائقها لما يقارب الـ 9 عقود التي خلت.