لم يتوقع أفراد أسرته أنه سيظل على قيد الحياة، فالحالة الصحية التي ولد بها أوهمت أقرباءه أن حياته لن تستمر طويلًا لذا أسموه “شامل” أي كثير المرض وفق اللهجة القوقازية، لكن العناية الإلهية كان لها رأي آخر، فقد أصبح ذلك الطفل المريض واحدًا من أشرس المقاومين ضد الاستعمار الروسي وظل كابوسًا يهدد الإمبراطورية السوفيتية لأكثر من 25 عامًا.
الإمام محمد شامل علي بن دينغو، المولود في قرية غيمري في داغستان عام 1797، الملقب بين قومه بـ”أسد القوقاز” و”صقر الجبال”، كان قائدًا سياسيًا وعسكريًا محنكًا، قاد، خلال حروب القوقاز، المقاومة الداغستانية والشيشانية ضد المستعمر الروسي منذ عام 1834 وحتى 1859.
رصد الروس أكثر من 40 ألف روبل مقابل رأسه، وجيشوا له جيشًا قوامه 40 ألف مقاتل، لكن كان رده صاعقًا إذ قال إن رأس قيصر روسيا ذاته لا تساوي عنده كوبيكًا واحدًا (الروبل الروسي يساوي 100 كوبيك داغستاني)، فمن هذا المقاتل الذي ظل كابوسًا في رأس قياصرة روسيا وأباطرة جيشها؟
في حجر المقاومة
ولد شامل في أسرة متدينة بطبيعة الحال، كانت صوفية الهوى (الطريقة النقشبنديّة) وهو المذهب الذي كان سائدًا في المنطقة برمتها في ذلك الوقت، وكان لتلك النشأة تأثيرها الواضح عليه مستقبلًا، إذ استطاع الجمع بين العلم الشرعي والدنيوي بجانب تعمقه في الفلسفة والأدب حتى صار أحد الأعلام البارزة فيه.
فرضت الأقدار على الشاب الصغير أن يولد في منطقة دفعت ثمن موقعها الجيوسياسي غاليًا جدًا، إذ تقع بين بحرين إستراتيجيين: بحر قزوين بوابة العبور نحو آسيا الوسطى، والبحر الأسود الذي يعد الممر التجاري التاريخي الأبرز بين آسيا وأوروبا.
وفي منتصف القرن السادس عشر، كان للروس حصونهم القوية في شمال داغستان والشيشان، لتبدأ أولى خطوات الاستعمار المدجج بسلاح المزج الاجتماعي بين الشعب الروسي وشعوب القوقاز
أسال هذا الموقع المحوري لعاب القوى الاستعمارية الكبرى، فتحولت داغستان ومنطقة القوقاز برمتها إلى ساحة حرب كبرى للإمبراطوريات العالمية، وبنهاية القرن الخامس عشر الميلادي وضع قيصر روسيا إيفان الثالث، خطته لاحتلال داغستان والشيشان وبعض الأراضي الواقعة بين بحري قزوين والأسود.
في البداية فضل الروس تجنب المغامرة بالدخول مباشرة إلى تلك المنطقة، فاستقطبوا بعض القبائل القوقازية الموالية للقيصر للاستعانة بهم في غزو أراضي المسلمين داخل الشيشان، وبالفعل نجحت تلك القبائل في إسقاط بعض المدن من بينها مدينة غروزني التي كانت تسمى آنذاك مخفر نهر التيريك.
واستمر الروس في نهجهم المعهود، حيث استغلال خيانة بعض القبائل داخل المناطق المراد غزوها لتسهيل المهمة، وفي منتصف القرن السادس عشر وفي عهد إيفان الرابع، كان للروس حصونهم القوية في شمال داغستان والشيشان، لتبدأ أولى خطوات الاستعمار المدجج بسلاح المزج الاجتماعي بين الشعب الروسي وشعوب القوقاز حتى امتزجت الأنساب وتعززت مساعي الاندماج الذي يعتبره البعض الاستعمار الأسهل والأقل كلفة، لكن داخل هذا النفق المظلم المستسلم كان هناك شعلة يحملها رجال رفعوا راية الجهاد وأعلنوا المقاومة ضد المحتل الروسي.
الملا غازي.. رفيق الدرب
وقع أول صدام مباشر بين القوات الروسية والمقاومة الشيشانية عام 1722 إبان حكم بطرس الأكبر، لكن نظرًا للفروق الكبيرة بين القوات الروسية التي كانت تعد حينها واحدة من أقوى جيوش العالم وعناصر المقاومة بدائية التسليح، كانت الغلبة بطبيعة الحال للروس غير أن ذلك لم يزد المقاومين إلا إصرارًا على الاستمرار.
في ذلك الوقت بزغ نجم مقاوم كان له حضور وشخصية قوية داخل الطرق الصوفية، ويدعى الإمام منصور، فحاول جمع شيوخ القبائل القوقازية على كلمة واحدة وتحت راية الإسلام، واستطاع تكبيد الروس العديد من الخسائر في مختلف المعارك على مدار سنوات عدة، لكنه سقط بأيدي الروس وقتل وهو في عمر الـ63، كان ذلك عام 1794.
ظن قيصر روسيا حينها أن المقاومة انتهت وأن سكان القوقاز فقدوا الأمل بعد الهزائم التي تلقوها على أيدي القوات الروسية، لكن لم يمر إلا عقدين فقط حتى ظهر على الساحة الإمامان: غازي وشامل، ليكملا معًا مسيرة المقاومة، معتمدين على مريدي الطريقة النقشبندية ومجالس الصوفية.
كان غازي يكبر شامل بعام واحد فقط، لكنهما كانا على قلب رجل واحد، صداقة وأخوة في الجهاد، واستطاعا معًا إلحاق الهزائم بالقوات الروسية وأسقطوا منهم مئات القتلى، وكان غازي بالنسبة لصديقه القدوة والمثل والمعلم، لا سيما أنه كان من أشد الناس تدينًا وخلقا وعلمًا.
وفي عام 1832 وأمام جحافل الروس في إحدى المعارك (غيمري) سقط الملا غازي وجيشه، وتشير الروايات إلى أن تلك المعركة لم ينج منها أحد من صفوف المسلمين، إلا الإمام شامل الذي تعرض لجروح وإصابات بالغة (البعض يقول إن شخصًا آخر نجا معه من تلك المعركة)، وهنا لم يجد شامل إلا إكمال مسيرة النضال التي بدأها مع رفيق دربه.
الإمام شامل.. قائدًا
وقع اختيار المريدين وشيوخ القبائل على “حمزة بك” لخلافة الملا غازي، خاصة أن شامل كان مصابًا ويتداوى من جروح معركة “غميري”، وبالفعل نجح القائد الجديد في ترتيب الصفوف وإعداد المقاتلين على أكمل وجه لكنه لم يكمل في القيادة إلا عامين فقط حتى سقط وهو يؤم المصلين في أحد مساجد مدينة هونزا بداغستان وكانت معقل المقاومة في ذلك الوقت.
وفي عام 1834 اختير الإمام شامل لقيادة صفوف المقاومة، فبدأ في ترتيب البيت من الداخل من خلال إعادة هيكلة الدولة، فقسمها إلى 32 محافظة مكتملة الأركان الإدارية (محافظ ونائب عنه ومفتي وأربع قضاة) فضلًا عن ترتيب إدارات وكوادر وقطاعات الجيش.
قسم شامل الجيش على أساس النظام العشري، بدءًا من الضباط الأعلى رتبًا ثم النواب يليهم الحرس الخاص وبعدهم المريديون وهكذا، هذا بجانب تقسيمه إلى قطاعات وفرق ألفية ومئوية وعشرية، مع اعتماد سياسة المساواة ومنح الفرص أمام الجميع لإظهار الكفاءات وتقييمها على أسس موضوعية ما شجع الجميع على بذل ما لديهم من جهد وقدرات.
وعلى المستوى السياسي وسع الإمام نفوذه ليمتد من بحر قزوين شرقًا إلى البحر الأسود غربًا بما يؤهله لإحكام السيطرة على الساحة تجنبًا لأي خيانات محتملة من القبائل كما حدث قبل ذلك، كما حاول قدر الإمكان تقليل الاحتقان بين القوميات من خلال المساواة بينها بصرف النظر عن الهوية الثقافية أو الدينية.
كما فتح قنوات اتصال قوية مع بعض الدول الإسلامية وعلى رأسها مصر وتركيا بجانب خصوم الروس في الغرب، بريطانيا وفرنسا، ونجح بدبلوماسيته الكبيرة في الحصول على الدعم من تلك الدول، عسكري واستخباراتي ومادي، وهو ما كان له أثره على قوة الدولة الداغستانية الشيشانية في مواجهة المحتل.
عسكريًا.. حاول قائد المريدين الاستعانة بتجربة النبي عليه السلام وخلفائه الراشدين في الاستفادة من الأسرى، فاستفاد من خبرات الضباط الروس الذين وقعوا أسرى في أيدي الجيش المسلم، وبدأ في تطوير قدرات الجيش على أحدث الأطر والقواعد.
القائد الذي جلد أمه حفاظًا على المقاومة
كانت المعضلة الأبرز التي واجهت القائد الجديد في ولاية حكمه خيانة بعض القبائل وخنوعهم وتواطئهم مع الروس، فهم أصحاب الصوت الذي يميل إلى التصالح مع القيصر وتجنب الدخول في صدام معه حفاظًا على حياة المسلمين في داغستان.
كان من الصعب لشيوخ تلك القبائل توجيه نصائح الاستسلام للإمام وجهًا لوجه، خشية على حياتهم من ردة فعله، فلجأوا إلى والدته للتوسط لديه، وكانت هي الأخرى تميل إلى هذا الرأي حفاظًا على حياة ولدها، فأراد شامل أن يلقنهم درسًا قاسيًا يقضي به على تلك الفتنة ويعزز روح المقاومة بين المسلمين.
رغم صعوبة الحكم وشذوذه أحيانًا اختار الإمام شامل أن يبدأ بعقاب والدته، كونها الوسيط المباشر الذي نقل إليه هذا المقترح، متجنبًا عقاب القبائل كلها خوفًا من تمردها وتفتيت وحدة الصف المسلم، فأمر بجلدها 100 جلدة، لكن بعد الجلدة الخامسة طلب التوقف، ودخل هو بنفسه لإكمال العقاب، حيث جُلد 95 جلدةً، وبذلك حافظ على استقرار القبائل ووأد الفتنة التي كانت من الممكن أن تقضي على الجيش المسلم.
ربع قرن من الصمود
أدخل الإمام المجاهد أساليب قتال متنوعة ضد الروس، أبرزها ما عرف بـ”حرب العصابات والشوارع”، مستغلًا البيئة الجبلية المناسبة لذلك التي تحولت إلى فخاخ لإسقاط آلاف الروس الذين ما كان يمكن مواجهتهم بالطرق العسكرية التقليدية في ظل الفارق الكبير في الإمكانات.
تبنى الجيش المسلم في معاركه إستراتيجية الانسحاب التكتيكي بداية أي مواجهة، فكان يلجأ الإمام إلى الجبال للاحتماء بها تاركًا ساحات الحرب للروس الذين يظنون أن المعركة حسمت لصالحهم، لكن سرعان ما يفاجأوا حين عودتهم بجحافل المقاومة تقصفهم من كل جانب فيتساقطون كما أوراق الشجر.
ونجح شامل على مدار ربع قرن تقريبًا من حرب العصابات في تكبيد القوات الروسية خسائر قدرت بمئات آلاف القتلى فضلًا عن الاستيلاء على مئات المدافع والعتاد والأسلحة التي أحدثت شيئًا من التوازن النسبي في بعض المعارك التي سقط في إحداها نحو 30 ألف قتيل روسي.
الاستسلام مرفوع الرأس
أثارت انتصارات الإمام شامل وجيش المريدين قلق قيصر روسيا، إذ ساهمت في تهييج الشارع ضده في ظل الأنباء المتواردة من القوقاز عن تساقط الجنود الروس على أيدي المقاومة محدودة التسليح والإمكانات، فكان استهداف رأس قائد الجيش المسلم هو الحل الوحيد لمصالحة الشعب الروسي.
وبالفعل رصد القيصر مكافأة قدرها 45 ألف روبل روسي نظير رأس الإمام شامل، وحين وصل هذا الأمر للإمام رد بخطاب وجهه للجنرال قائد الجيش الروسي، أليكساندر إيفانوفيتش بارياتسكي، عبّر فيه عن سعادته بأن رأسه تساوي هذا المبلغ الكبير، لكنه علق قائلًا: “لكنك لن تكون سعيدًا حينما أُخبرك أنَّ رأسك بل رأس القيصر ذاته لا تُساوي لديَّ كوبيكًا واحدًا”.
بعد انتهاء الحرب العثمانية الروسية عام 1856 وجه الجيش الروسي معظم قواته للجبهة القوقازية، لدعم الجنرال بارياتنسكي، حيث انضم له قرابة 200 ألف جندي روسي، كانت المهمة الرئيسية إسقاط الإمام الشامل، انتقامًا للهزائم التي ألحقها بالقوات الروسية.
اكتسب الجنرال الروسي خلفية معلوماتية معقولة عن إستراتيجيات المسلمين العسكرية، وأبرزها الاحتماء بالغابات والجبال، وجرجرة الجيش الروسي لحرب العصابات، فعمد إلى تقطيع الأشجار وأحرقها يقينًا منه أنها كانت مخابئ للمقاتلين المسلمين.
لم يغيب الموت الإمام شامل عن عقول وقلوب الداغستانيين، إذ ظل محتفظًا بمكانته وقيمته في وجدان الأجيال المتلاحقة، فقلما يوجد بيت هناك لا يعلق صورته
نجحت القوات الروسية في تطويق جيش المريدين بأكثر من 40 ألف مقاتل مقابل 500 فقط من المجاهدين، حينها لم يجد الإمام شامل إلا الاستسلام، ليسقط رأس هرم المقاومة الإسلامية في قبضة قيصر روسيا الذي أراد توظيف هذا الحديث لخدمة أطماعه السياسية واستعادة شعبيته مرة أخرى، فأخذه في رحلة برية من داغستان إلى موسكو مفتخرًا في كل بلدة يمر عليها بهذا الانتصار العظيم بالنسبة له.
وقبل وفاته طلب الشيخ المجاهد من السلطات الروسية السماح له بأداء فريضة الحج، فوافقوا على طلبه، فسافر إلى إسطنبول ومنها إلى مكة حيث قضى الفريضة ثم انتقل إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة لكنه توفي ودفن هناك عام 1871.
لم يغيب الموت الإمام شامل عن عقول وقلوب الداغستانيين، إذ ظل محتفظًا بمكانته وقيمته في وجدان الأجيال المتلاحقة، فقلما يوجد بيت هناك لا يعلق صورته، ونادرًا ما يغيب اسمه عن أسرة بأكملها، إذ يعتبرونه بطلًا قوميًا خاض ربع قرن من حياته في مقاومة المستعمر الروسي، وكان له الفضل مع زملاء كفاحه في التخلص من ربقة الاستعمار والتحرر من عباءة الهيمنة الروسية.