تتأثر خارطة الجالية المصرية في تركيا تاريخيًّا بترمومتر العلاقات السياسية بين البلدَين، والتي تعدّ واحدة من أكثر العلاقات الثنائية تموجًا، هذا التموج الذي عزاه البعض إلى صراع النفوذ بين القوتين على الساحة الإقليمية، فضلًا عن التنافس بينهما في كثير من الملفات التي تتقاطع فيها مصالح البلدَين.
وعلى مدار 4 قرون كاملة، حكم فيها العثمانيون مصر منذ دخول السلطان سليم الأول عام 1517 وحتى الاستقلال عام 1922، تأرجح الوجود المصري داخل الأراضي التركية صعودًا وهبوطًا، لكنه الوجود الذي فرض نفسه وبات رقمًا صعبًا في معادلة العلاقات بين البلدَين، رغم انخفاض أعداد المصريين مقارنة بالجنسيات العربية الأخرى وعلى رأسها سوريا والعراق.
اختيار الحياة في بلد أجنبي، يمتلك قائمة مطوّلة من التباينات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، أمر ليس سهلًا، بل يمثّل في بعض الأحيان تحديًا كبيرًا لا يقوى عليه إلا من يملكون مواصفات معيّنة، تعينهم على البقاء والاستمرار وسط أمواج متلاطمة من اختلاف اللغة وصعوبات الاندماج، فيما يضطر آخرون إلى المغادرة إلى بلدان أقل نسبيًّا في مستوى التباين وأكثر مرونة في التواصل.
ورغم القواسم الكثيرة المشتركة بين المصريين والأتراك، إلا أن التحديات أكبر، منها تلك التي فرضتها خصوصية الشعبَين، وتمسُّك كل طرف بأصوله وهويته، وهو ما يدفع إلى مضاعفة جهود الاندماج وتعزيزها حتى لا يدفع المصريون ثمن الغربة مرتين، غربة الوطن الأمّ وعزلة الاندماج داخل المجتمع الجديد.
لا يوجد إحصاء موثَّق لعدد المصريين في تركيا، والذي زاد بطبيعة الحال بعد عام 2013، وإن تراجعَ نسبيًّا في العامَين الأخيرَين على وجه التحديد، غير أن الكثير من التقديرات تشير إلى أن العدد يتجاوز 30 ألف مصري، معظمهم من الشباب، يتمركزون في المدن التركية الكبرى.
تاريخ طويل من المد والجزر
مرّت الفترة التي حكم العثمانيون فيها مصر بمحطات متباينة من الاندماج والنفور الشعبي، تتناسب طرديًّا مع قوة الإمبراطورية العثمانية نفسها وتأثيرها في الشارع المصري، فحين كانت الدولة فتية وتمتلك مشروعًا إسلاميًّا نهضويًّا كبيرًا كانت مثار ترحاب وتقدير وإعجاب من شعوب كافة الدول الخاضعة لها ومنها مصر.
وحين استشعر المصريون ضعف حكّام الدولة العثمانية في نهاية عهدها، وبداية الأفول لنجمها الذي بزغ في سماء عشرات الدول لعقود طويلة، تسلّل التوتر إلى العلاقات مع الشعب المصري الذي وجدَ في هذا الحكم استغلالًا لثرواته وإضعافًا لأركان البلاد بعد إخضاعها لإسطنبول.
ورغم ما ذهب إليه بعض المؤرخين من أن التبعية المصرية للدولة العثمانية لم تستمرَّ أكثر من قرن واحد فقط على أكثر تقدير، إذ خضعت القاهرة على مدار 3 قرون كاملة لحكم المماليك الذين أحكموا قبضتهم على البلاد والحكم العلوي الذي أسسه محمد علي باشا ثم الاحتلال الإنجليزي، إلا أن البعض -ولأجندات خاصة- حاول تشويه تلك العلاقة تاريخيًّا، ما انعكس على علاقات الشعبَين رغم القواسم الكثيرة المشتركة.
زادت أعداد المصريين الفارّين إلى تركيا بعد أحداث رابعة العدوية والنهضة في 14 أغسطس/ آب 2013، خاصة بعد الاستهداف الممنهَج للسلطات المصرية للمعارضة وأبناء التيارات الثورية
وفي حقبة الحرب الباردة، وخلال التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وجدت مصر وتركيا نفسيهما في أماكن التضاد على الخارطة العالمية الجديدة، بحكم موقعهما الجيوسياسي وثقلهما الإقليمي والتاريخي، إذ مالت أنقرة نحو المعسكر الغربي بقيادة أمريكا فيما كان للقاهرة رأي آخر، إذ انحازت إلى السوفيت ومعسكرهم.
بدأت العلاقات الدبلوماسية بين البلدَين رسميًّا عام 1925، كانت حينها على مستوى القائم بالأعمال، إذ تأثرت كثيرًا بالإرث التاريخي المثقل، لكن سرعان ما ارتقت إلى مستوى السفراء عام 1948، فيما وقّع البَلدان اتفاقية التجارة الحرة عام 2005، تمَّ تعزيزها بصفقة الغاز التي قدِّرت بـ 4 مليارات دولار، بجانب مذكرة التفاهم الأخرى لتوثيق التعاون العسكري عام 2008، فضلًا عن أنهما عضوان في منظمة الاتحاد من أجل المتوسط.
وتعدّ الحقبة الناصرية أبرز محطات التوتر بين البلدَين، لتعود الأمور إلى طبيعتها مرحليًّا خلال فترتي حكم أنور السادات وحسني مبارك، لتدخل أبرز أنفاقها التناغمية بعد ثورة يناير/ كانون الثاني 2011، حين انتصرت أنقرة لإرادة المصريين، وبعد الإطاحة بنظام محمد مرسي عام 2013 تحولت تركيا إلى قبلة المصريين الأولى هربًا من بطش وتنكيل وسجون نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، لتدخل العلاقات بين البلدَين نفقها المظلم.
زادت أعداد المصريين الفارّين إلى تركيا بعد أحداث رابعة العدوية والنهضة في 14 أغسطس/ آب 2013، خاصة بعد الاستهداف الممنهج للسلطات المصرية للمعارضة وأبناء التيارات الثورية التي وجدت في أنقرة الملاذ الآمن، في ظل الدعم المطلق الذي كانت تقدمه للثورة المصرية ورفضها القاطع للمجازر التي حدثت ضد المعارضين والثوار وأنصار الرئيس مرسي.
الجالية المصرية في تركيا
يتمركز المصريون في تركيا في 4 مدن رئيسية (إسطنبول – أنقرة – أزمير – أنطاليا)، ويعود اختيار تلك المدن كونها الأكبر والأكثر نشاطًا على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، وهي البيئة التي يحتاجها المصريون لتعزيز تواجدهم من خلال الانخراط سريعًا في منظومة العمل لتوفير نفقات الحياة.
“شرين إيفلار.. عاصمة المصريين في تركيا”، تلك كانت إجابة محمد عيد، الشاب المصري المقيم في تركيا منذ 6 سنوات عن سؤال حول أبرز أماكن تمركز المصريين في الدولة التركية، لافتًا إلى أن ذلك الحي الذي ينتمي إداريًّا إلى منطقة باهشلي ايفلار في إسطنبول، يشبه في كثير من أجوائه المدن المصرية، خاصة طقوس الحياة والطعام والشراب والاحتفالات.
وأشار في حديثه لـ”نون بوست” إلى أن تلك منطقة “شرين إيفلار” رغم صغر حجمها تعدّ تجمعًا مصريًّا خالصًا، إذ يمكنك خلال العبور في أي شارع سماع اللهجات المصرية بشتى أنواعها، فتسمع هنا اللهجة الصعيدية وهناك لهجات الوجه البحري، بل ربما تجد مطاعم وبقالات مكتوبة بأسماء عربية ومصرية خالصة.
لم تكن شرين إيفلار هي البقعة الوحيدة المغلَّفة بالصبغة المصرية، إذ تحتضن منطقة اسنيورت الإسطنبولية الواقعة في الجانب الأوروبي من المدينة العديد من التجمعات المصرية الخالصة، مثل جمهوريات مهلسي وهراميدري وبيلك دوزو، وباتت تلك المناطق قبلة المصريين الجدد القادمين إلى تركيا.
لا يمكن اعتبار المصريين المقيمين في تركيا كـ”لاجئين”، إذ إن إقامتهم في الغالب يحصلون عليها من خلال عملهم وطبقًا لمصادر دخولهم، ولا تقدِّم لهم الحكومة التركية المساعدات التي تقدمها لبعض الجاليات الأخرى، لا سيما تلك القادمة من مناطق النزاع والحروب، والتي يكون للأمم المتحدة دور في حثّ السلطات التركية على تقديم الدعم لها.
ومن ثم، ومنذ أول يوم يطأ فيه المصري بأقدامه ثرى إسطنبول، عليه البحث عن فرصة عمل في أقرب وقت، حتى يستطيع الحياة والإنفاق على مصاريف الإقامة السياحية وغيرها من الإقامات الأخرى التي قد يحصل عليها نتيجة الدخول في أي نشاط استثماري، وتتمركز مجالات العمل بالنسبة إلى الجالية المصرية هناك في 5 تخصصات رئيسية: الإعلام – الاستثمار العقاري – الترجمة – السياحة – التجارة.
المؤسسات الفاعلة والنشاطات
تزايُد الأعداد منذ عام 2013 واتساع رقعة الانتشار والمصالح وما تلاها من الحاجة نحو تنسيق مشترك وتبادل الخبرات بين المصريين، دفعهم إلى تدشين كيانات اجتماعية فاعلة تكون نواة للتواصل ومنصة رسمية ومجتمعية للدفاع عن المصريين، وتلبية احتياجاتهم وخدمتهم قدر الإمكان.
البداية كانت بجمعية “رابعة”، والتي أنشئت في أكتوبر/ تشرين الأول 2013، وذلك بعد أقل من شهرَين فقط على مجزرة رابعة التي اتخذت منها اسمًا لها، وتعدّ أول جمعية مصرية للجالية في تركيا، وتهدف إلى تنسيق الجهود ودعم علاقات التضامن المصري التركي، ومحاولة خلق أجواء وقواسم مشتركة مع الأتراك لتسهيل عملية الاندماج.
وفي عام 2017 تأسست “الجالية المصرية” ككيان جامع -من خلال مسماه- للمصريين على الأراضي التركية، وتمحور نشاطه في الجانب الاجتماعي كالرحلات والأنشطة الثقافية والدورات التخصصية التأهيلية والتدريبية ومعارض السلع والاحتياجات الأساسية، وتقديم الدعم لأبناء الجالية والابتعاد نسبيًّا عن أي نشاط سياسي.
وعلى المستوى الإعلامي، وهو المجال الذي يحتوي الجزء الأكبر من النشطاء المصريين الفارّين إلى تركيا بعد عام 2013، فقد جرت الموافقة على تدشين “رابطة الإعلاميين المصريين في الخارج” في فبراير/ شباط 2018، وتضمّ في عضويتها أكثر من 600 إعلامي مصري خارج وطنهم، في مختلف التخصصات الإعلامية من إعداد وتصوير وإنتاج وتحرير وتقديم ومونتاج وتسويق تجاري وتسويق اجتماعي والأقسام المساعدة.
قررت الجالية المصرية تدشين اتحاد شامل يضم كل الكيانات، فكان تأسيس “اتحاد الجمعيات المصرية بتركيا”، والذي يسعى إلى حل مشاكل المصريين في مختلف المدن التركية
وفي مايو/ أيار 2021 وضعت الرابطة -التي تُتهم بهيمنة عناصر جماعة الإخوان المسلمين عليها- لها ميثاق شرف إعلامي يهدف بحسب أحد معدّي الميثاق، قطب العربي، الأمين العام المساعد السابق للمجلس الأعلى للصحافة، “لتغطية نقص كان قائمًا في منظومة الإعلام المصري في الخارج، كما أنه جاء مزيجًا من عدة مواثيق شرف دولية مختلفة”.
وفي العام ذاته وعلى المسار الشبابي تأسست “مؤسسة رواق إسطنبول” لرعاية المواهب الشابة المصرية من سن 18 إلى 35 عامًا، حيث تقدم المنح والمساعدات والدورات التدريبية في مجال الإعلام والفن والسياسة والعلوم الشرعية وإدارة الأعمال بهدف تنمية قدرات المصريين، وإعدادهم لسوق العمل التركي بمتطلباته التي تختلف كثيرًا عنها في مصر.
تدعم المؤسسة المبادرات الشبابية التطوعية، وتحاول قدر الإمكان تأهيل صغار السن نفسيًّا للحياة داخل مجتمعات مختلفة ثقافيًّا ومجتمعيًّا عن بيئتهم الأصلية، وذلك من خلال المشاركة في بعض الأنشطة والفعاليات الاجتماعية التركية، منها المخيم السنوي لاتحاد طلاب الأناضول التابع لمؤسسة منبر الأناضول.
وأمام هذا التوسع في إنشاء الجمعيات والكيانات والمبادرات بشتى أنواعها، والتي بلغت أكثر من 20 مؤسسة، قررت الجالية المصرية تدشين اتحاد شامل يضمّ كل تلك الكيانات، فكان تأسيس “اتحاد الجمعيات المصرية بتركيا”، والذي يسعى إلى حل مشاكل المصريين في مختلف المدن التركية، وأبرزها توفيق الأوضاع القانونية، والتي تسفر عن الكثير من المشاكل التي يضطر معها الشباب المصري لمغادرة البلاد بسبب الجهل القانوني بإجراءات الإقامة.
عدم وجود كيان موحَّد
يعاني المصريون في تركيا من التشتُّت وغياب الوحدة والتحرك الفردي وفق المصالح والأهواء الخاصة بعيدًا عن إرادة الجميع، ورغم الدوافع التي تجبر الجميع على الوقوف على أرض مشتركة واحدة والتحدث بلسان واحد والدفاع عن المصالح الجمعية، التي في الغالب تنحصر في تعزيز معدلات الأمان وتوفير فرص عمل وحياة كريمة، إلا أن الواقع يتنافى مع ذلك جملة وتفصيلًا.. هكذا كان رأي الداعية الإسلامي الشيخ عصام تليمة.
كشف تليمة في مقال نشره في فبراير/ شباط 2019 النقاب عن كواليس إفطار رمضاني دعا إليه رئيس الشؤون الدينية التركية الأسبق، ورئيس معهد التفكر الإسلامي في أنقرة، الدكتور محمد قورماز، قبيل انقلاب يوليو/ تموز في تركيا مباشرة، بحضور عدد من الشخصيات المصرية وكان من بينهم الداعية المصرية والسياسي أيمن نور.
وبعد الانتهاء من الإفطار والاستماع إلى آراء المصريين الحاضرين في شتى المسائل، فوجئ الجميع بما قاله قورماز بحسب تليمة: “عيبكم أن ليس لكم كيان يمثلكم كمصريين، ويعبّر عنكم، يوجد فقط أفراد مشتّتون ومتفرقون، عليكم أن تنشئوا كيانًا قانونيًّا يمثلكم، يخاطب الدولة وتعتمده”.
ويعلق الداعية المصري على تصريحات رئيس معهد التفكر الإسلامي في أنقرة، قائلًا: “خرجنا من اللقاء وكلنا حرج من أن حالنا مكشوف جدًّا عند الأتراك بهذا الشكل، ولكل المستويات، سواء الحكومية أو الشعبية، فقط لدينا رصيد عندهم من الحب يكنّونه لأهل مصر، وأهل رابعة، أما القيادات فالحديث عنها مخز ومؤلم، وذو شجون”.
اللافت للنظر أنه بعد الاجتماع مباشرة بدأ الحديث عن تدشين كيان يمثّل الجالية المصرية ويعكس كافة ألوان الطيف السياسي والمجتمعي للمصريين في تركيا، ويضع نصب عينَيه مصالح المصريين بصرف النظر عن انتماءاتهم الحزبية والسياسية، لكن “رأت بعض القيادات أن الكيان لم يخرج من تحت إبطها، فتمّت محاربته”، وفق تليمة.
حسن ص، رجل أعمال مصري مقيم في أزمير (غربًا)، يشير في حديثه لـ”نون بوست” إلى أن آفة المصريين في تركيا أن كل كيان سياسي أو جماعة أيديولوجية لا يهمّها سوى مشروعها الشخصي فقط، دون اعتبار لمشاريع الآخرين، ولا للمشاكل التي يواجهها أبناء الجالية، ومن ثم تكون التحركات وفق الأيديولوجيات وليس المصالح ومعاناة الجميع، وهو ما يعزز الانقسام بين المصريين، رغم تزايد أعدادهم يومًا تلو الآخر.
هذا الانقسام كان له صداه في المقام الأول على الشباب المصري في تركيا، والذي وقع ضحية الاستقطاب غير المبرر في ظل الظرفية السياسية المعقدة، والتي كانت تتطلب تموضعات أخرى بعيدًا عن الانحياز للأيديولوجيا الذاتية، كما أشار الصحفي المصري المقيم في تركيا والمتخصص في شؤون الحركات الإسلامية، محمود العناني.
أشار العناني في مقال له إلى أن الشباب المصري في تركيا انقسم -بسبب تلك الوضعية- خلال السنوات الماضية إلى 3 أقسام رئيسية، الأول آثر الابتعاد عن الدوائر الإسلامية المتديّنة والانخراط في المجتمع التركي، الثاني اتجه يمينًا حيث اعتناق الأفكار التي تجاوزت الإسلام السياسي السلمي إلى العنف المسلح، فيما اختار القسم الثالث الابتعاد عن أي ميول سياسية والحياة على الهامش دون أي هدف سوى البقاء حيًّا.
مشاكل الاندماج.. تبايُن الثقافات العقبة الأبرز
تعدّ مسألة الاندماج المعضلة الأبرز والأخطر التي تواجه المهاجرين في كل دولة دون استثناء، حتى تلك التي تتقاسم سمات مشتركة بين بلد الوطن والمهجر، وقد تصدّرت تلك المشكلة قائمة المعوقات التي عانى منها ولا يزال المهاجرون العرب في أوروبا منذ عام 2011 وحتى اليوم، وهو ما توثّقه التقارير الاجتماعية الصادرة عن مراكز التفكير في تلك الدول.
فطنت الحكومة التركية هي الأخرى إلى تلك الأزمة، وعليه حاولت قدر الإمكان تخفيف درجة حدّتها من خلال تقديم دورات سُميت بـ”دورات الاندماج الاجتماعي” لعموم المقيمين في تركيا، وهي دورات ليست إلزامية تعقدها الحكومة ممثلة في دائرة الهجرة وبالتعاون مع وزارة التربية التركية، بهدف تعريف الملتحقين بحقوقهم وواجباتهم وعادات وتقاليد الشعب التركي وكيفية تجنُّب الصدام مع الأتراك.
وتعدّ اللغة هي العقبة الأولى أمام المصريين للاندماج داخل المجتمع التركي، حيث يقول إسلام (35 عامًا) إنه منذ وطأت قدماه ثرى مطار إسطنبول بدأ يستشعر خطر عدم معرفة اللغة التركية، إذ وجد صعوبة بالغة في التعامل مع الشعب التركي سواء داخل المصالح الرسمية الحكومية أو التعامل المجتمعي العادي.
وأضاف إسلام، الذي يعمل في إحدى مكاتب الترجمة، أن هناك تشبّثًا غير طبيعي من قبل الأتراك بالتحدث بلغتهم الأم، دون أي اعتبار لعدم معرفة الأجانب والوافدين بها، وهو ما دفعه لأن يتعلمها رغم كلفتها التي تفوق قدراته بداية الأمر، مؤكدًا في حديثه لـ”نون بوست” أنه فقدَ العديد من الفرص الوظيفية بسبب عدم إجادته للغة التركية.
ويشير الشاب المصري إلى أن أزمة معظم المصريين مع اللغة التركية أنهم يتجمّعون في مناطق خاصة بهم (غيتوهات) على حدود إسطنبول وبعض ضواحي أنقرة وأزمير، حيث يميل المصريون في الغالب هناك إلى الدفء المجتمعي بين أبناء الوطن الواحد، دون الاحتكاك بالأتراك، وهو ما يفقدهم فرصة تعلم اللغة والاندماج مع الثقافات التركية التي تختلف في كثير منها عن نظيرتها المصرية.
غياب التنسيق الجمعي وسيطرة الأيديولوجيا على المصلحة العامة بجانب عقبات الاندماج وفي المقدمة منها اللغة هي المعضلة والتحدي الأبرز أمام الجالية المصرية ومستقبلها داخل الأراضي التركية
ومن أبرز مشاكل الاندماج في المجتمع التركي الصعوبات والتحديات التي تواجه تعليم المصريين هناك، إذ باتوا بين خيارَين لا ثالث لهما، إما الالتحاق بالمدارس التركية المجانية، وهنا معضلة تعلم اللغة التركية في ظل ارتفاع أسعار الدروس الخصوصية، إذ تتجاوز الحصة الواحدة 10 دولارات، وإما الالتحاق بالمدارس العربية ذات الكلفة العالية والمصاريف التي تفوق قدرات معظم الجالية المصرية.
أفرزت الأعوام الثلاثة الأخيرة تحديدًا أزمة جديدة تواجه المصريين في تركيا، تتعلق بفقدان الاستقرار وعدم الشعور بالأمان بعد الموقف المتّخذ من الجالية السورية والذي أثار خوف المصريين، فضلًا عن التغيير المستمر لقانون الإقامات السياحية، إذ كانت 3 سنوات في البداية تمَّ تقليصها لعام ثم زادت لـ 3 وهكذا بصورة أربكت حسابات الكثير من الجالية.
يخيّم قلق آخر على المصريين يتعلّق بالخوف من التعامل معهم كورقة سياسية في صراع النفوذ بين القاهرة وأنقرة، وهو ما دفع كثيرًا من الشباب إلى مغادرة تركيا إلى بلدان أوروبية، كما هو حال أسامة ع. ذلك الشاب الذي قرّر الرحيل عن إسطنبول والسفر إلى بلجيكا -رغم تطمينات السلطات التركية-، والاستقرار هناك خشية تعرضه لأي مضايقات أو تسليمه للسلطات المصرية بصفته معارضًا، كما حدث مع أصدقاء له، لا سيما أنه كثير السفر بحكم عمله.
وفي الأخير ربما تكون البيئة التركية من أكثر البيئات الملائمة لطبيعة حياة المصريين وإمكاناتهم المادية ومؤهّلاتهم الشخصية القادرة على اكتشاف نفسها في تلك الأجواء، غير أن غياب التنسيق الجمعي وسيطرة الأيديولوجيا على المصلحة العامة، بجانب عقبات الاندماج وفي المقدمة منها اللغة، هي المعضلة والتحدي الأكثر بروزًا أمام الجالية المصرية ومستقبلها داخل الأراضي التركية.