يرسخ القمح نفسه عامًا تلو الآخر كأحد السلع الإستراتيجية القادرة على إعادة تشكيل خريطة الأمن الغذائي العالمي، وأحد الأسلحة الفتاكة بأيدي القوى الكبرى لتمديد نفوذها وتوسيع حضورها الدولي وترجمة أجندتها التوسعية، لا سيما إزاء دول العالم الثالث وشعوبها النامية التي في الغالب تمثل السوق الأكبر لمصالح الكبار.
وأعادت الحرب الروسية الأوكرانية الراهنة هذا الملف للأضواء مرة أخرى بعد التحذيرات الواردة عن المنظمات والهيئات الأممية بمخاطر تعثر إمدادات القمح في ظل امتلاك طرفي الحرب لقرابة ثلث حجم التصدير العالمي من الحبوب عامة، والحديث عن اتساع رقعة الجوع الذي يهدد مئات الملايين من الدول التي تعتمد على القمح كسلعة أساسية.
الهزة التي أحدثها القمح على المستوى العالمي وسُمع دويها من أقصى يمين الأرض ليسارها ومن أبعد نقطة في الشمال إلى أدناها جنوبًا، تثبت بشكل دقيق علاقة الترابط القوية بين تلك السلعة والحسابات السياسية للقوى الكبرى، إذ تحول السلاح الأخضر (كما يطلقون عليه) إلى أداة هيمنة ونفوذ أكثر منها مكونًا داخل منظومة الأمن الغذائي.
احتكار الأباطرة الكبار
تهمين 10 دول فقط على السواد الأعظم من إنتاج القمح عالميًا البالغ خلال 2020 قرابة 760 مليون طن، والمزروع على مساحة زراعية تبلغ نحو 2.25 مليون كيلومتر مربع، فيما تتصدر منطقة شرق آسيا قائمة المناطق الأبرز إنتاجًا بنصيب 253 مليون طن، يليها الاتحاد الأوروبي بحصة تبلغ 140 مليون طن، فيما تأتي منطقة البحر الأسود ثالثًا بـ124 مليون طن وأمريكا الشمالية في المرتبة الرابعة بمعدل إنتاج 85 مليون طن.
تأتي الصين في مقدمة العشرة الكبار إنتاجًا، بمعدل يبلغ 125.6 مليون طن رغم أنها لا تملك إلا 15% فحسب من الأراضي الصالحة للزراعة، فتنتج غذاءً لنحو 20% من سكان العالم، تليها الجارة الهندية بإجمالي يبلغ 94.3 مليون طن، كما أنها تحتل المركز السابع كأكبر مُصدر زراعي في العالم.
فيما تحتل الولايات المتحدة المرتبة الثالثة بـ61.6 مليون طن، ويتميز القمح الأمريكي بتعدد أصنافه التي تبلغ 8 أصناف رئيسية هي: القمح القاسي والقمح الربيعي الأحمر الصلب والقمح الشتوي الأحمر اللين والصلب والقمح الأبيض الصلب واللين والقمح المختلط، ويتم تصدير قرابة نصف إنتاج البلاد للخارج.
ورابعًا تأتي روسيا بحصة إنتاجية قدرها 37.8 مليون طن، وقد شهدت البلاد طفرة هائلة في إنتاج المحصول منذ 1990 بعد إدخال التكنولوجيا الحديثة، ثم فرنسا خامسًا بـ40.4 مليون طن متصدرة ترتيب القارة الأوروبية، تليها أستراليا بحصة تبلغ 30 مليون طن، فيما تمثل المساحة المزروعة نصف مساحة البلاد وتعد من أوائل الدول في نسبة الأراضي الزراعية إلى المساحة الإجمالية.
أما المركز السابع فجاء من نصيب كندا بـ27.1 مليون طن من الإنتاج، ثم باكستان التي تمثل الزراعة نحو 21% من مساحتها، بحصة تبلغ 23.6 مليون طن، فيما حافظت ألمانيا على المرتبة التاسعة بإجمالي إنتاج بلغ 22.5 مليون طن، رغم تزايد حجم الإنتاج الزراعي بصفة عامة في الآونة الأخيرة، بينما تأتي تركيا في المرتبة العاشرة بحصة إنتاجية تتراوح بين 20.3 و22 مليون طن سنويًا.
تهديد للأمن القومي
القراءة الأولية لخريطة الإنتاج والتصدير لهذا السلاح الأخضر، تذهب إلى أن خمس دول فقط تنتج أكثر من نصف القمح العالمي وهي: (الهند والصين وروسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) وفي حال إضافة أربع دول أخرى مصدرة (كندا وأستراليا وأوكرانيا وتركيا) فإن هذه النخبة التي تنتج قرابة 85% من الإنتاج العالمي مسؤولة عن إمدادات سوق عالمي يستهلك 160 مليون بقيمة 50 مليار دولار سنويًا.
احتكار التسعة الكبار لإنتاج وتصدير تلك السلعة الإستراتيجية التي تعد القوام الأبرز لسلة الغذاء في العالم، يهدد ضمنيًا منظومة الأمن الغذائي العالمي، ويضعها معظم الوقت في مرمى التهديد وغياب الاستقرار، لا سيما في ظل صراعات النفوذ المتأججة بين أعضاء هذا النادي الذي يتحكم في “خبز” مليارات البشر في مختلف أنحاء المعمورة.
الحرب الروسية الأوكرانية الأخيرة كشفت النقاب عن حجم التهديد الحقيقي الذي يمثله محصول القمح بالنسبة للاستقرار الغذائي والحيلولة دون اتساع رقعة الجوع عالميًا، فالطرفان المتنازعان، موسكو وكييف، يتحكمان وحدهما في 30% من إجمالي صادرات الحبوب في العالم (روسيا تصدر سنويًا 37 مليون طن قمح وأوكرانيا 18 مليون طن هذا بخلاف الشعير والذرة).
المؤشر الأول لتداعيات هذه الأزمة وثقه مؤشر أسعار الغذاء للأمم المتحدة الذي سجل في فبراير/شباط الماضي أي بعد أقل من أسبوع على بداية الحرب التي اندلعت في 24 من الشهر ذاته، أعلى مستوى له على الإطلاق منذ عقود، هذا بخلاف الأرقام الرسمية الخاصة بمعدلات الجوع في العالم، فنصف آسيا (418 مليونًا) وثلث إفريقيا (282 مليونًا) و8% من سكان أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي (60 مليونًا) يعانون من الجوع في 2020 بحسب تقرير الأمن الغذائي الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة “الفاو”.
التقرير حذر من أنه لو استمرت الاتجاهات السائدة حاليًّا خلال السنوات القادمة، فمن المتوقع أن تتضاعف تلك النسبة خلال عام 2030، لافتًا إلى أنه رغم التقدم الذي تم إحرازه نسبيًا في مسار القضاء على الجوع، فإن معظم المؤشرات تؤكد أن العالم ليس على الطريق الصحيح، وهو ما يتطلب إعادة النظر في الإستراتيجيات المتبعة لئلا تتفاقم الأزمة.
برنامج الغذاء العالمي يشير إلى أن النزاعات الدولية التي تنشب بين الحين والآخر ستتسبب في موجة جوع مدمرة في مختلف أنحاء العالم، إذ كشف منسق الطوارئ المعني بالأزمة الأوكرانية ببرنامج الأغذية العالمي، جاكوب كيرن، في مؤتمر صحفي له أن أسعار الغذاء قفزت بصورة جنونية منذ الأيام الأولى للصراع.
أما مديرة صندوق النقد الدولي كريستالينا غورغييفا، فربطت بين تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على القمح ومؤشر الجوع العالمي، قائلة: “الحرب في أوكرانيا تعني الجوع في إفريقيا”، وهو التحذير ذاته الذي أطلقه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش حين أشار إلى أن “إعصار من المجاعات” ربما يضرب البلدان الضعيفة التي لا تملك غذائها وتعتمد على الاستيراد.
في 2008 خلال أزمة الغذاء العالمية الناجمة عن الأزمة المالية والاقتصادية، شهدت المناطق التي تعاني من فقدان توازن في أمنها الغذائي لا سيما الحبوب وعلى رأسها القمح، موجات من العنف قادت إلى تغيير حكومات وتهديد أخرى، خاصة في إفريقيا وأجزاء من آسيا ومنطقة جزر الكاريبي، يقول مدير مركز بون للأبحاث التنموية في ألمانيا، يوآخيم فون براون، إن المسوح التي أجراها مركزه في تلك المناطق توصلت إلى أن عام 2008 “شهد 50 حالةً من الاضطرابات والاحتجاجات، قاد بعضها إلى تغييرات في الأنظمة الحاكمة”، لافتًا إلى أن تلك الهزة “دفعت بموضوع الغذاء إلى أعلم سلم الأولويات التي تناقشها محافل الأمم المتحدة وقمة الدول الصناعية العشرين”.
أداة هيمنة ونفوذ
تحول القمح إلى أداة هيمنة وبسط النفوذ من الدول المنتجة والمصدرة على حد سواء، لا سيما إزاء الدول المستهدف إخضاعها التي في الغالب تعاني من أزمات غذائية وسياسية طاحنة، تجعلها مادة سهلة الهضم والابتلاع من أباطرة السلاح الأخضر في العالم.
وتمتلك القوى العظمى الكبرى النصيب الأكبر من خريطة القمح عالميًا، حيث توظفه لتحقيق أجندات خارجية عبر إخضاع الدول النامية إلى إملاءتها وشروطها التوسعية، بما يهدد سيادة واستقلالية تلك البلدان التي تجد نفسها في مأزق خطير، بين مطرقة تلبية احتياجات شعوبها من القمح وسندان الرضوخ لسياسات الدول المصدرة.
وتمارس الشركات الكبرى التي تحكم قبضتها على تجارة القمح العالمية سلطتها الكاملة في فرض شروط مجحفة لخدمة المصالح السياسية للكيانات العظمى وعلى رأسها الولايات المتحدة وروسيا تحديدًا، حتى باتت الكثير من الدول التي تعتمد عليهما في إمدادات هذه السلعة الإستراتيجية تحت رحمتهما.
وتعد منطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط أبرز ضحايا سلاح القمح، فرغم أنهما لا يشكلان إلا 6% من سكان العالم، لكنهما يستقطبان ثلث مشتريات القمح، بحسب الباحث الفرنسي في مؤسسة العلاقات الدولية والإستراتيجية وكاتب “الجغرافية السياسية للقمح” سباستيان أبيس.
أبيس في تصريحات لـ”الجزيرة” في 2015 تعليقًا على شراء مصر صفقة طائرات الرافال من فرنسا قال: “يسعدنا بيع مصر طائرات رافال لكن لا أحد يتنبه إلى أننا نبيعها القمح بشكل منتظم، غير أن القمح يشكل أفضل مساهمة في صنع السلام”.
ويرى الباحث الفرنسي أن بلاده التي تحتل المركز الأول أوروبيًا والخامسة عالميًا في إنتاج القمح والثالثة في تصديره، بجانب القوى الكبرى ذات الريادة الإنتاجية لتلك السلعة، تمارس ما وصفها “دبلوماسية الحبوب” لتعزيز سيطرتها على جيرانها، مستشهدًا بتجربة الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي الذي كان يوزع حصةً كبيرةً من وارادت القمح التي يحصل عليها من الخارج على منطقة الساحل الإفريقي لبسط نفوذه على حكومات وشعوب تلك المنطقة.
الهزة التي شهدها سوق القمح العالمي جراء الحرب ربما تعزز من نفوذ الروس لدى الدول الأكثر تضررًا من تلك الهزة وفي المقدمة منها ليبيا التي تستورد ثلثي قمحها من موسكو، وإندونيسيا متصدرة قائمة الدول الأكثر استيرادًا بجانب إثيوبيا التي يشكل القمح الروسي ثلث وارادتها، هذا بجانب دول أوراسيا (كازاخستان وبيلاروسيا وأرمينيا وقرغيزستان) التي تعتمد على غذائها في المقام الأول من الواردات الروسية والأوكرانية.
سلاح حرب
منذ ثمانينات القرن الماضي تحاول الولايات المتحدة قدر الإمكان توظيف القمح – بعدما بات السلعة الأكثر خطورة وتهديدًا للأمن الغذائي العالمي – كسلاح حرب يمكن استخدامه وقت الأزمات بما يحقق الأجندة الأمريكية ويحافظ على مصالحها لا سيما في منطقة الشرق، المتوسط والأدنى، بجانب مصالحها في القارة الإفريقية.
الكاتب الصحفي حبشي رشدي، في مقال له بصحيفة “الوطن” القطرية كشف أن أمريكا في السابق كانت تلقي بفائض القمح لديها في البحر لترتفع قيمته السعرية في السوق بما يصب في النهاية في صالح مخططاتها التوسعية، ففي بعض الأحيان كانت تقايضه بسلع إستراتيجية أخرى كالنفط والغاز والفوسفات.
غير أن تلك المعادلة التي كانت تحسم التفوق لصالح الأمريكان لم ترق للقوى المنافسة الأخرى، فكان التفكير في إعادة تشكيل خريطة القمح العالمية مرة أخرى، ومن هنا قررت روسيا “خوض حرب قمح صامتة مع الأمريكيين” على حسب تعبير الكاتب، ليتفوق الروس بعد ذلك على الأمريكان عبر سلاح القمح الذين استطاعوا غزو العالم به ومناطحة النفوذ الأمريكي في مناطق الهيمنة والصراعات.
وفي سوريا 2019 كشفت الأمم المتحدة في تقارير عدة عن حرق قوات نظام بشار الأسد المدعومة من القوات الروسية لعشرات الآلاف من أفدنة القمح والحبوب في حملة حولت الغذاء في البلد العربي إلى “سلاح حرب” وكان له تأثيره الكبير في إجبار مئات آلاف السوريين على الفرار هربًا من الجوع.
وأفاد برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، على لسان المتحدث باسمه هيرفيه فيرهوسيل أن العنف في إدلب وشمال حماة الذي تسبب في بسقوط عشرات الضحايا أسفر عن “إحراق آلاف الفدادين من المحاصيل الضرورية والأراضي الزراعية وأجبر ما لا يقل عن 300 ألف شخص على الفرار من ديارهم”.
صور ناقلات القمح الراسية في الموانئ الروسية والممنوعة من الإبحار بأوامر الرئيس فلاديمير بوتين، بينما العالم يتضور جوعًا، تعكس نفوذ هذا السلاح وتوظيفه في خدمة الحرب، وهو الموقف ذاته الذي يمكن قراءته بشكل واضح في المستعمرات الغربية القديمة في إفريقيا، حيث يتم التلاعب بالغذاء عمومًا لإخضاع حكومات القارة وفرض إملاءات سياسية واقتصادية وعسكرية قهرًا على الأنظمة والشعوب معًا.
دبلوماسية القمح
في أعقاب تفجير مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب 2020 وقبل ساعات قليلة من الزيارة الخاطفة التي قام بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وجه أحد المزارعين الفرنسيين دعوةً عامةً على تويتر لمزارعي بلاده بأن يقدم كل منهم “طنًا من القمح من أجل لبنان”.
الدعوة تم تعزيزها بشحنات هائلة من القمح الفرنسي المقدم من الحكومة لنظيرتها اللبنانية دعمًا لها بعد انهيار المرفأ الذي كان بمثابة المخزن الكبير الذي تعتمد عليه بيروت في أكثر من 80% من وارداتها من الغذاء، وهو التحرك الذي أثار الكثير من التساؤلات حينها عن دوافعه الحقيقية بعيدًا عن الشعارات السياسية التي رفعها ماكرون وأعضاء حكومته.
حملة التضامن الكبيرة التي شارك فيها كبار مزارعي ومنتجي القمح في فرنسا، فُسرت حينها على أنها توظيف جيد لـ”دبلوماسية القمح” لاستعادة النفوذ الفرنسي المفقود داخل الأراضي اللبنانية مرة أخرى، فالبلاد تحيا أزمة خانقة طيلة الآونة الأخيرة ولم يتحرك أحد.
التوجه الفرنسي ذاته تكرر في العديد من الدول الإفريقية التي تعاني فيها الدولة الأوروبية من تراجع في حجم ومستوى النفوذ لصالح قوى عالمية أخرى، كروسيا وتركيا والولايات المتحدة، الأمر الذي دفع باريس إلى اللعب على وتر الغذاء بصفته أسرع الأدوات الدبلوماسية وأكثرها تأثيرًا.
وعلى المسار الروسي، يبدو أن النجاحات التي حققتها دول الغرب من خلال دبلوماسية القمح أغرت الروس على حذو المسار ذاته (روسيا تمد لبنان بنصف احتياجاته من الحبوب)، وبالفعل بدأت موسكو في شق هذا الطريق من خلال محورين اثنين: الأول كسب دعم دول الجوار التي تعتمد على القمح الروسي بصورة أساسية، والثاني التحرك ببطء عبر أوراسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
المحور الأول حققت فيه روسيا العديد من النجاحات وبات القمح سلاحها الأقوى لكسب دعم وتأييد تلك القوى في آسيا والمحيط الهادئ والشرق الأقصى، لتقود ريادة تلك البقعة الإستراتيجية من الخريطة الدولية، أما المحور الثاني فحول موسكو إلى قوة تصدير زراعية هي الأولى عالميًا ما كان له أثره في خريطة تحالفاتها، وهو ما يمكن القياس عليه عبر الحالة المصرية والخليجية عمومًا.
بعض المحللين وصفوا القمح الروسي بأنه “نفط الكرملين” في إشارة إلى إمكانية استخدامه كسلعة إستراتيجية تعيد تشكيل خريطة التحالفات السياسية والاقتصادية في المنطقة، وقد نقلت “فاينانشيال تايمز” عن عضو مجلس إدارة شركة “روسياغروترانس” الروسية، أوليغ روغاتشيف، تأكيده أن الموقع الجيوسياسي لبلاده هو السبب الرئيسي في أرباحها نتيجة التصدير، مضيفًا “معظم زبائننا الذين يعانون من نقص في الغذاء، موجودون عمليًا بجوارنا، إنهم قريبون جدًا، كلهم من إفريقيا والشرق الأوسط ودول آسيا والمحيط الهادئ والشرق الأقصى، أقصر وأسهل طريقة لتلبية احتياجاتهم هي من خلال الإمدادات من روسيا”.
الدبلوماسية السلطوية هنا لا تنحصر فقط على الدول الخارجية، فهناك نوع آخر من دبلوماسية القمح الداخلية، وهي التي تلجأ إليها النظم مع النخبة وسكان المدن استمالةً لهم وكسبًا لدعمهم وتأييدهم، في مقابل التجاهل والتهميش لسكان القرى والمناطق النائية، كما ذهب الخبير الزراعي الألماني فولفغانغ هاينريش حين أشار إلى أن “الحكومات تميل إلى إرضاء سكان المدن فيها أطول فترة ممكنة، عن طريق تخفيض الأسعار بشكل كبير ودعم المنتجات الغذائية واستيراد القمح وغيرها، وهذا يمتص الكثير من موارد الدولة، لكنها تلجأ في المناطق الزراعية إلى قمع الاضطرابات هناك بالوسائل القمعية”.
هل من بدائل؟
“من مصلحة القوى المنتجة للقمح الإبقاء عليه كسلعة إستراتيجية عالمية وحيدة رغم الأزمات التي من الممكن أن تحدث بسبب النقص والعجز المتوقع بين الحين والآخر”، بهذه الكلمات استهلت مديرة المركز الدولي لتقديم الاستشارات الاقتصادية، هدى الملاح، حديثها عن الموقف العالمي حال التفكير في بدائل سلعية للقمح.
وأشارت الملاح في تصريحاتها لـ”نون بوست” إلى أن القوى الكبرى هي التي فرضت القمح كـ”سلعة إستراتيجية” لا يمكن الاستغناء عنها، وليست الحاجة الغذائية، فهناك بدائل يمكن الاستعانة بها لتعويض هذا المحصول، لا سيما أنها تمتلك تقريبًا نفس الخصائص الغذائية، حتى إن كانت زراعتها ذات كلفة مرتفعة نسبيًا لكن هناك بذور أخرى أقل كلفة من زراعة القمح.
ولفتت إلى أن خبراء الزراعة في شتى دول العالم أجمعوا على وجود العديد من المحاصيل الصالحة لأن تكون البديل المناسب للقمح، غذائيًا واقتصاديًا، منها الشوفان والبطاطا والقرنبيط ودقيق الأرز والحمص، وجميعها تحتوي على العناصر الغذائية الجيدة كالألياف والكربوهيدرات المعقدة والبروتين والعناصر الغذائية الأساسية الأخرى.
يتفق هذا الرأي ما مع ذهب إليه آخرون بأن القوى العالمية تتعامل مع القمح كـ”سلاح نووي” رادع في حروبها وتوجهاتها وسياساتها الخارجية، ومن ثم فإن أي دولة تفكر في الحصول عليه أو على بدائله فلن يسمح لها بذلك للحفاظ على خريطة النفوذ الحاليّة وحتى لا تفقد الكيانات الكبرى واحدًا من أبرز أسلحتها في إرضاخ الدول النامية التي تتشابك معها بمصالحها التوسعية.