إذا كانت النخب السياسية والفكرية هي عقول الأمة التركية التي تفكر، فإن الشباب هم سواعدها التي تبني، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يستقيم فكر دون بناء، وأن يسير عقل دون جسد يحمله ويذهب به إلى حيث يريد، ومن هنا جاءت أهمية الشباب بصفته قوة الدفع الأبرز والأكثر تأثيرًا لنهضة الشعوب وقيام الحضارات.
ومن يتعمّق في قراءة خارطة الشباب التركي، يجدُ أن هذه الفئة تتأرجح بين فكَّي متناقضات، فالغالبية العظمى منها تقع فريسة استقطاب حاد، بين اليمين واليسار، الإسلامي والعلماني، المؤيد والمعارض، تلك الضبابية التي كبّلت أيديهم عن الاندماج في مجالات الحياة، بعضهم أعلن صراحة كفره بكثير منها، ومن هناك كان التفكير في الهجرة.
وبينما عرفت تركيا طيلة العقد الماضي بأنها قبلة الشباب العربي، وموطنه الثاني المثالي هربًا من الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الكثير من البلدان العربية، وهو ما تترجمه أعداد اللاجئين الذين احتضنتهم خلال السنوات العشر الأخيرة؛ فإنها في الوقت ذاته إحدى البيئات الطاردة لأبنائها، لا سيما من هم في عمر الجامعة والشباب، وفق ما كشفت الكثير من استطلاعات الرأي الأخيرة، في ازدواجية تشير إلى كثير من الدلائل وتتطلّب الدراسة لبحث كواليسها حفاظًا على العقول التركية.
ويبلغ عدد الشباب التركي 13 مليونًا، بما نسبته 16.4% من إجمالي عدد الأتراك، فيما تشير الإحصاءات إلى أن المجتمع التركي في مجمله “عفي”، إذ يتربّع الشباب وصغار السن على الخارطة الديموغرافية للبلاد، حيث تشكّل الفئة المعمرة حتى 14 عامًا نسبة 26% من عدد السكان، فيما يتجاوز من تتراوح أعمارهم بين 15-64 عامًا حاجز الـ 67%، بينما يتذيل كبار السن من يزيد أعمارهم عن 65 عامًا الخارطة بنسبة 7% من الأتراك.
القبلة المفضّلة للمهاجرين العرب
ظلت تركيا الخيار الأول لكثير من الشباب العرب ممن يفكرون في هجرة بلدانهم، حتى تلك التي لا تعاني من أي اضطرابات سياسية أو أمنية، حيث يرون في تركيا النموذج الأمثل الذي يجمع بين التطور الأوروبي والتراث الشرقي، فضلًا عن البيئة الملائمة للاستثمار والسياحة والحياة الكريمة بكلفة ربما تكون أقل من غيرها.
مع انطلاق الربيع العربي زاد عدد المهاجرين لتركيا التي فتحت أبوابها للجميع دون شروط مسبقة، وهو ما جعلها واحدة من أكبر دول العالم استضافة لللاجئين، إذ تحتضن أكثر من 4 ملايين لاجئ، منهم 3.6 ملايين سوري، والباقي ما بين جنسيات أخرى أبرزها عربيًّا العراقية والمصرية.
تصدُّر تركيا قائمة خيارات الشباب العربي لم يتأثر كثيرًا مع مرور الوقت وعودة الهدوء النسبي لبعض البلدان ذات الأزمات والنزاعات، إذ تحولت لدى كثير من المهاجرين إلى مقرٍّ دائم وليس مجرد ترانزيت لحين استعادة الاستقرار في بلدانهم، وهو ما تكشفه الأرقام الصادرة عن هيئة الإحصاء التركية المتعلقة بالهجرة الدولية.
كشفت الهيئة في إحصاء لها عن زيادة عدد المهاجرين لتركيا خلال عام 2017 عمّا كان عليه عام 2016 بـ 466 ألفًا و333 شخصًا، بما نسبته أكثر من 22%، فيما جاء الشباب العراقي على رأس قائمة المهاجرين بنسبة 26.6%، تبعهم الأفغان ثم السوريون بنسبة 7.7%.
تتعدد الأسباب وراء زيادة معدلات هجرة الشباب العربي لتركيا رغم الأزمات التي تواجهها بين الحين والآخر، أبرزها سهولة دخول البلاد دون تعقيدات
أوضحَ الإحصاء أن نسبة كبيرة من القادمين إلى الدولة التركية يفكرون في الإقامة الدائمة، وهو ما تترجمه أرقام تملُّكهم للعقارات والمنازل بهدف الحصول على الجنسية التركية، ففي عام 2017 اشترى العراقيون 3345 بيتًا، كذلك السعوديون، فيما اشترى الكويتيون 1691 منزلًا، ثم الروس بنسبة 1331 عقارًا.
ويلاحظ من خلال تلك الأرقام أن الهجرة لا تتوقف فقط عند حاجز الدول التي تعاني من أزمات، لكنها شملت دولًا أخرى مستقرة وربما يمتلك شعوبها مستوى معيشيًّا أفضل ممّا عليه الأتراك أنفسهم، كالسعودية والكويت، بجانب دول أخرى مثل روسيا وبعض دول أوروبا.
وتتعدد الأسباب وراء زيادة معدلات هجرة الشباب العربي لتركيا رغم الأزمات التي تواجهها بين الحين والآخر، أبرزها سهولة دخول البلاد دون تعقيدات كما هو الحال في كثير من البلدان الأخرى، بجانب مساحة الاحتواء التي تقدمها أنقرة للساسة المصنَّفين كـ”معارضة” في بلدانهم، ما جعلها بلدًا آمنًا لهم، قبل التطورات الأخيرة التي جعلت هذا الأمان محل شكّ لدى البعض.
هذا بجانب المستوى المعيشي المتوسط والكلفة القليلة نسبيًّا، ما يجعل البلد بيتًا كبيرًا يتّسع ذوي المستويات الاقتصادية والاجتماعية المتباينة، فضلًا عن تهيئة البيئة الاقتصادية لنجاح المشاريع الاستثمارية، إذ تمتلك تركيا سوقًا كبيرًا قادرًا على امتصاص الكثير من رؤوس الأموال.
الشباب التركي.. إقبال كبير على الهجرة
في دراسة حديثة أجراها مركز أبحاث التكنولوجيا بجامعة عثمان غازي في أنقرة، جاءت تركيا في المرتبة الـ 24 عالميًّا ضمن الدول الأكثر هجرة للعقول، وكشفت أن 59% من عيّنة الشباب المختارة والتي كان عددها 100 شاب غادروا البلاد لفترات ما، وأن 73% منهم يريد السفر للخارج.
الدراسة المسحية كشفت أن حوالي 113 من أصل 136 خريجًا من كلية روبرت في إسطنبول قدموا على منح للالتحاق بالجامعات الأوروبية، هذا بجانب 77 من أصل 165 خريجًا من مدرسة إسطنبول الثانوية أعربوا عن رغبتهم في إكمال تعليمهم في الخارج.
وفي استطلاع رأي أجراه حزب الشعب الجمهوري المعارض، في مايو/ أيار 2020، أجاب 62.5% من الشباب الذي شارك في الاستطلاع برغبتهم في العيش خارج تركيا إذا ما توافرت لديهم الإمكانات، والمفاجأة هنا أن 47% من المنتمين إلى حزب العدالة والتنمية ممّن شاركوا في الاستطلاع كان لهم الرأي نفسه.
تركيا في المرتبة الـ 24 عالميًّا ضمن الدول الأكثر هجرة للعقول
معهد الإحصاء التركي في بيانات رسمية له عن معدلات الهجرة خلال عامي 2019 و2020، أشار إلى أن أكثر من 330 ألف شاب تركي غادروا البلاد للإقامة في الخارج خلال عام 2019، بزيادة عن عام 2018 نسبتها 2%، لافتًا إلى أن أعمار معظم الذين يهاجرون تتراوح بين 25 و29 عامًا.
كما شهد العامان الماضيان موجات هجرة كبيرة لدى الشباب التركي الذي بدأ يخيّم عليه الإحباط نسبيًّا من الأوضاع الحالية واحتمالية تغييرها إلى الأفضل، في ظل موجات الأزمات والصراعات التي تفرض نفسها على المنطقة، وفي القلب منها تركيا التي تتشابك في معظم ملفات الساحة، وسط عدة تساؤلات حول دوافع وأسباب هذه الظاهرة التي تشكّل تهديدًا واضحًا على مستقبل الدولة التركية التي تعتمد على شبابها في مسيرتها البنائية، لما يمتلكونه من مؤهّلات وإمكانات.
وطني.. ولكن
“أريد أن أظل هنا، لأن هذا هو وطني، ولكنني أرغب بالرحيل أيضًا لأني أتوق للعيش كما يعيش البشر”، هكذا عبّرت الطالبة التركية بيرنا أقدنيز (28عامًا)، باحثة الدكتوراه في أنقرة، عن رغبتها في إكمال حياتها خارج تركيا، خلال حديثها لـ”بي بي سي“.
تعاني بيرنا من الصَّمَم، وتعتمد في التواصل مع محيطها على سماعة مزروعة في أذنها الداخلية، لكن في ظل الأزمة الاقتصادية الأخيرة التي تواجه البلاد وما كان لها من تداعيات على معدلات استيراد المعدات الطبية، شعرت بالقلق من عدم القدرة على الحصول على سماعة الأذن الخاصة بها، ومن ثم تسعى للحياة في الخارج نظرًا إلى توفر مثل تلك المعدات وعدم وجود أزمات تهدِّد عملية استيرادها.
الرأي ذاته عبّر عنه هارون يمان (28 عامًا) والحاصل على شهادة جامعية في مجال الإنتاج السينمائي والإذاعي، والمقيم في مدينة غازي عنتاب (جنوبًا)، حيث قرر الهجرة إلى أيرلندا بحثًا عن فرص عمل أفضل، بعدما فشل في العثور على وظيفة في بلاده منذ تخرجه عام 2018، ما دفعه لأن يعمل في مخزن لإحدى شركات إنتاج الملابس.
الاقتصاد والبطالة معًا يشكّلان 75.87% من اهتمامات الشباب التركي
أما قاسم فقرر الهجرة مبكرًا، منذ عام 2010، عقب تخرجه مباشرة، فقرر الذهاب إلى هولندا، حيث عمل برفقة أصدقاء أسرته هناك واستطاع خلال السنوات الـ 12 الماضية أن يحقق حلمه في أن يصبح أحد أشهر رجال الأعمال في مدينة لايدن، إذ يمتلك سلسلة مطاعم شهيرة.
يقول الشاب التركي الذي يبلغ من العمر 32 عامًا إنه لو ظلَّ بتركيا لما استطاع أن يحقق ما حققه في هولندا، منوهًا في حديثه لـ”نون بوست” أنه يزور بلاده سنويًّا برفقة زوجته البلجيكية وولدَيه، متمنيًا في يوم ما أن يعود ليستقر في وطنه الأم رغم حصوله على الجنسية الهولندية.
الاقتصاد.. الدافع الأول
يتصدر الاقتصاد قائمة الأسباب وراء ميل الشباب التركي للهجرة، فالأزمات الاقتصادية التي شهدتها البلاد خلال السنوات الماضية، الخارجية منها والداخلية، ألقت بظلالها القاتمة على مستوى معيشة السواد الأعظم من الأسر التركية، ما كان له أثره على توجهات الشباب الطامح في حياة أفضل.
في استطلاع رأي أجرته شركة أوبتيمار للأبحاث، في 12 و15 فبراير/ شباط الماضي، على قرابة 2500 شاب تركي، عبر أداة المقابلة الشخصية، حول أبرز الأزمات التي تهمّ المواطن التركي، جاء الاقتصاد على رأس تلك المشاكل بنسبة 70.2% يليه البطالة بنسبة 5.6% ثم التعليم بـ 5.4%.
عدد العاطلين عن العمل في تركيا هو 3.7 ملايين شاب، بنسبة 11.2%
ويشير الكاتب التركي عبد القادر سيلفي في تقرير نشرته صحيفة “حرييت” التركية، إلى أن الاقتصاد والبطالة معًا يشكّلان 75.87% من اهتمامات الشباب التركي، لافتًا أن منافس الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الانتخابات القادمة هو ارتفاع الأسعار وتدني المستوى المعيشي وليس أحزاب المعارضة.
ويبلغ عدد العاطلين عن العمل في تركيا قرابة 3.7 ملايين شاب، بنسبة 11.2%، بحسب بيانات هيئة الإحصاء التركية التي أظهرت ارتفاع النسبة خلال نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، بواقع 39 ألف شخص مقارنة بما كانت عليه في أكتوبر/ تشرين الأول من العام ذاته، في إشارة إلى زيادة معدلات البطالة خلال المرحلة الحالية.
تراجع الحريات
يفرض تراجع منسوب الحريات في تركيا نفسه كأحد الأسباب والدوافع القوية وراء ميل الشباب لهجرة بلادهم، فبحسب الأكاديمي التركي الأستاذ إبراهيم سيركجي، الذي يعمل خبيرًا في مجال دراسات الهجرة في بريطانيا، فإن الهجرة المتزايدة للأتراك لها جوانب اجتماعية وسياسية وليست اقتصادية فقط كما يذهب معظم المحللين.
ويتّفق معارضو أردوغان مع ما ذهب إليه سيركجي، بأن تضييق الخناق على المعارضة والانتهاكات التي يتعرض لها كل من يغرِّد خارج السرب، كانا سببًا محوريًّا في بحث الشباب عن حياة أفضل ومناخ أكثر حرية، وهو ما يمكن قراءته في الانتقادات التي تتعرض لها تركيا بسبب سجلّها الحقوقي، لا سيما في الآونة الأخيرة.
من بين الأسباب وراء عزوف الشباب التركي عن المشاركة السياسية: الثغرات التشريعية التي تعرقلُ انضمامه للأحزاب والكيانات السياسية، وسيطرة النخبة، ما أدّى إلى فقدان الثقة في السياسة بصفة عامة.
وفي السياق ذاته، يرى مدير مركز “أوراسيا” التركي المتخصص في القضايا المجتمعية، كمال أوزكيراز، أن تراجع الحريات المدنية والديمقراطية في السنوات الأخيرة أحدث طفرة في أعداد الراغبين في الهجرة، منوهًا أن الحكومة التركية ترفض التطرُّق لمثل تلك الأمور، وتعزف عن حل مشاكل الشباب من جذورها.
وفي تقريرها الصادر عام 2020، وجّهت منظمة العفو الدولية انتقادات لاذعة للسلطات التركية بسبب انتهاكاتها الحقوقية بحقّ المعارضة والإعلام والحقوقيين وتراجع الحق في التعبير عن الرأي، وتضييق الخناق على الحريات والترحيل القسري للاجئين واستهداف المعارضين.
التهميش السياسي
يميل الشباب التركي إلى الانخراط أكثر في الأنشطة الاجتماعية، عازفين نسبيًّا عن المشاركة السياسية، ولهذا التوجُّه تأثيره الواضح على مدى تمسُّكهم بالبقاء في بلادهم، بعدما استشعروا حالة من التهميش السياسي لصالح النخبة من كبار السن، والتي هيمنت على المشهد برمته ولم تعطِ الفرصة للأجيال الصاعدة للتعبير عن قدراتها ولا حضورها.
في تقرير سابق لـ”نون بوست”، نقلًا عن بحث جاء تحت عنوان “الشباب والسياسة في تركيا… ما المستقبل”، والمنشور في “المجلة التركية للعلوم السياسية” في عددها الصادر في يناير/ كانون الثاني 2021؛ استعرض الباحث التركي كمان أكمان أبرز الأسباب وراء عزوف الشباب التركي عن المشاركة السياسية، والتي كان من بينها الثغرات التشريعية التي تعرقلُ انضمامه للأحزاب والكيانات السياسية، فضلًا عن سيطرة النخبة، ما أدّى إلى فقدان الثقة في السياسة بصفة عامة.
ويتّفق الكثير من الخبراء مع نتائج هذا البحث الذي كشفَ عن أبعاد أخرى وراء مغادرة الشباب التركي لبلادهم، ففقدان الشغف في المشاركة السياسية داخليًّا يُفقد الشباب الأمل في مستقبل أفضل، ما يصيبهم بالإحباط في ظل تجاهل الحكومة والسلطات الرسمية لهم في المجمل، وعليه يكون الهروب المؤقت هو الحل الأفضل بحسب ما يفكر بعضهم.
وفي الأخير.. دفعت المعطيات السابقة إلى دقّ ناقوس الخطر إزاء مستقبل الشباب التركي وهجرة العقول للخارج، وهو ما فطنت إليه النخب والأحزاب والكيانات المجتمعية التي بدأت تركّز بوصلتها بشكل أكبر تجاه الشباب، وهو ما يمكن قراءته في لقاءات وقرارات وتصريحات على مختلف المستويات، ولعلنا نفرد لهذا النشاط والتوجه تقريرًا خاصًا في قادم الأيام.