عُرفت الأبراج منذ العصر الحجري، حيث بناها الإنسان واستخدمها في عصور ما قبل التاريخ، ويرجّح العلماء أن يكون أقدم برج حجري دائري هو على جدار مدينة أريحا الفلسطينية (8000 قبل الميلاد)، والتي تعدّ أيضًا أقدم مدينة في العالم، كما دشّنت الحضارة البابلية أعلى برج في العالم القديم خلال الألفية الثانية قبل الميلاد في مدينة بابل.
يتشابه الماضي السحيق بالحاضر الحديث، فما زالت الأبراج حاضرة في أيامنا تتسابق الدول بارتفاعها وتطاول بنيانها، وتفتخر بزخرفاتها وجمال تصميمها، لكن الاختلاف الحقيقي يكمن في طرائق عملها التي تطورت مع الحضارة والتقدم.
ولقد تعددت وانتشرت الأبراج في عالمنا العربي، مثل برج القاهرة وأبراج الكويت وبرج خليفة في الإمارات، والتي أصبحت اليوم واجهة إعلامية وسياحية لتلك البلدان.
ففي الماضي كانت تُبنى الأبراج لأغراض الاستطلاع ومراقبة محيط القلاع والمدن من أي اعتداء، ثم تنقل الأخبار بعد الاطّلاع والمشاهدة، وأحيانًا كان يصعد المنادي للإبلاغ عن حالة وفاة أو أي أخبار تهمّ المدينة، باختصار كان للأبراج دور يشبه الإذاعة.
ولعلّ أكبر مقارنة بين الأبراج التاريخية والأبراج الحديثة تجسّدت في مدينة إسطنبول، التي جمعت بين برج غالاطة التاريخي وبرج تشامليجا العالي، حيث يمثّل البرجان تعاقب القرون ووجه الإنسانية الذي تغير، وما بين حجارة أثرية وعواميد إرسال كهربائية تبدّلت ملامح وشعب وحضارة المدينة.
برج غالاطة.. تاريخ وأساطير
بُني برج غالاطة في القرن الـ 14 من قبل مستعمرة جنوة، وكان جزءًا من الجدار الدفاعي المحيط بمنطقة غالاطة مقابل مدينة القسطنطينية القديمة مباشرة، وأطلقوا على البرج اسم “كريستيا توريس” أو “برج المسيح”، واستخدم البرج لمراقبة الميناء في القرن الذهبي، لمشاهدة حركة السفن والإبلاغ عن أي غزاة.
ولكن رغم وجود برج غالاطة الذي اُستخدم لمراقبة المدينة والدفاع عنها، فُتحت القسطنطينية من قبل السلطان محمد الثاني وبعدها اُستخدم البرج لمراقبة الحرائق، وبحلول نهاية القرن الـ 16 تمّت إضافة مرصد في الجزء العلوي من قبل المنجّم تقي الدين أفندي.
إذًا صار برج غالاطة عبر التاريخ ورغم الحروب والحرائق والزلازل شكلًا إعلاميًّا وإذاعيًّا، حيث كان صورة من صور الميديا البدائية التي ظهرت في تركيا عن طريق المراقبة والإخبار، سواء كان الغرض عسكريًّا أو اجتماعيًّا، فحاجة الناس إلى المعلومات المصيرية كوصول غزاة أو حتى حصول حرائق كانت مهمة جدًّا، واتخذ برج غالاطة في ذلك الوقت على عاتقه تلك المهمة.
لم ينتهِ دور برج غالاطة هنا، بل اُستخدم كمقرّ انطلاق هزارفن أحمد جلبي، أبرز الشخصيات التركية التي حاولت الطيران خلال الإمبراطورية العثمانية في القرن الـ 17، حيث قفز من برج غالاطة وحلّق فوق مضيق البوسفور ثم هبط في منطقة أوسكودار على الجانب الآسيوي من المدينة.
لم يسلم برج غالاطة من حكايا الأتراك وأساطيرهم، حيث دخل في الثقافة التركية ونُسجت حوله الكثير من الحكايا الشيّقة والمثيرة، خاصة قصص الحب التي تعود بتاريخها إلى الثقافة الرومانية، حيث يعتقد أن أول شخص تدخل معه البرج ستقع في حبه وتتزوج منه، وهذه من بعض الإشاعات التي ما زالت موجودة حتى الآن بين الشعب التركي.
ومن أشهر الأساطير المنسوبة إلى برج غالاطة، علاقته الغرامية ببرج الفتاة الواقع في القسم الآسيوي من المدينة، لكنهما لم يجتمعا أبدًا بسبب وجود مضيق البوسفور، لذلك لم يستطع برج الفتاة الأنيق وبرج غالاطة المهيب فهم ما إذا كانت مشاعرهما متبادلة.
كان المنقذ لحب هذين الهيكلَين القديمَين هو هزارفن أحمد جلبي، الذي حاول السفر من الجانب الأوروبي إلى الجانب الآسيوي، وعندما تسلّق برج غالاطة همس البرج في أذنه باسم حبيبته، وطلب منه تسليم قصائده لها.
لم يستطع هزارفن أحمد جلبي أن يظل مكتوف الأيدي وسلّم الرسائل لبرج الفتاة أثناء رحلة طيرانه الشهيرة، حينها أدرك برج الفتاة أن حبه ليس من طرف واحد، وبدأ يزداد جمالًا يومًا بعد يوم بعد تلقي الرسائل.
برج تشامليجا.. تطور يخدم الإعلام
اليوم وبعد مرور مئات السنين وفي المدينة نفسها ظهرَ برج تشامليجا، وهو مَعلَم جديد يُضاف إلى أبراج إسطنبول، حيث يعدّ الأطول ليس فقط في إسطنبول بل في كل أوروبا.
يُوصف برج تشامليجا بالعين التي تراقب المدينة العريقة وتضع شطرَي إسطنبول تحت ناظري زائره، افتتحه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 29 مايو/ أيار الماضي، بعدما انطلقت أعمال بنائه عام 2017.
ويبلغ طول البرج 369 مترًا، بارتفاع 587 مترًا فوق مستوى سطح البحر، ويتألف من 49 طابقًا، ارتفاع كل منها 4.5 أمتار، منها 4 طوابق تحت الأرض، وتمَّ بناؤه للقضاء على التلوث البصري بتوحيد أبراج البث التلفزيوني التي كانت منتشرة بالمنطقة، كذلك توحيد جميع الهوائيات في المنطقة، وتشمل الاتصالات ومحطات القنوات التلفزيونية والإذاعات أيضًا، إذ جرى تجميع أجهزة الإرسال اللاسلكية جميعها في هيكل البرج.
يخدم اليوم برج تشامليجا الإعلام الحديث، فيزيد من قوته ووضوحه وانتشاره، خاصة بعد أن أُجريت عدة تجارب قبلها وتكلّلت بالنجاح، ويمثّل برج تشامليجا طفرة تكنولوجية في مجال الإعلام ويآزر قطاع الميديا.
ومن الطبيعي هنا أن نرى التطور الباهر لعمل الأبراج التي كانت سابقًا تلعب دورًا من أدوار الإعلام البدائي كبرج غالاطة، واليوم نراه مدعومًا بهوائيات وموجات كهرومغناطيسية، كما يتم إجراء العديد من عمليات البث المعقدة مع بعضها دون أي مشاكل، وهنا نتحدث عن كلٍّ من البث الإذاعي والتلفزيوني المباشر أو المسجَّل.
لا غنى عنها
بين الواقع والماضي تغيرت وتبدلت حضارات ودول وشعوب، شهدنا علومًا جديدة واختراعات وحتى أزياء، منها ما بقيَ حاضرًا من الماضي، ومنها ما اختفى وأصبح حبيس كتب التاريخ، وفي مجال العمارة انقرضت في عصرنا الحالي القلاع والحصون، كذلك تطورت الأسلحة واندثر السيف والسهم والمنجنيق.
لكن بناء الأبراج مستمر منذ العهد القديم، إنما بعد أن لبست رداء الحضارة والتطور، والذي يعني في المقام الأول مجال الإعلام والاتصال بشكله الحديث، وفي تركيا بشكل خاص وأثناء العهد العثماني انتشرت أبراج الساعة، والتي تميزت بها مدن فلسطينية كبرج الساعة في القدس ونابلس وكذلك يافا، ومن الجدير بالذكر أننا نرى الدولة التركية الحديثة تستمر على النهج نفسه في بناء الأبراج.
وشهدت تركيا المواكبة لحركة العولمة تطورًا سريعًا في نمو وسائل الإعلام خلال العقد الماضي وبصورة موازية لحركة التنمية التي شهدتها البلاد، وكان من أبرز سمات هذا التطور التعددية والتنوع، وزيادة عدد وسائل الإعلام في عموم تركيا.
فقد ارتفع عدد الصحف والمجلات الوطنية والإقليمية والمحلية إلى 6778 صحيفة ومجلة، وارتفع عدد محطات الإذاعة وقنوات التلفزيون العامة والخاصة إلى 248 قناة تلفزيونية و1059 محطة إذاعية، وساعدت مؤشرات التطور تلك على تكريس حالة المنافسة وزيادة المواجهة بين المجموعات الإعلامية الكبرى، ذات التوجهات العلمانية من جهة، ووسائل إعلام التيار المحافظ من جهة أخرى.
وبالعودة إلى الأبراج، أصبح وجودها شبه ضروري لاستمرار الدول الحديثة، خاصة مع الانتعاش في مجال المواصلات والاتصال، بالإضافة إلى دورها في التحكم بحركة الطائرات وتوجيهها، وهناك أبراج موجودة في كل مكان تقريبًا، كأبراج الإرسال والستلايت وحتى أبراج لدعم الهواتف والكهرباء والإنترنت.
وتُعتبر المآذن وأجراس الكنائس نوعًا من أنواع الأبراج التي تلعب دورًا دينيًّا، ولكنها حملت وجهًا إخباريًّا إذ تنادي الناس لأداء الصلاة، ولا يمكن إغفال الأبراج العسكرية التي تُبنى في المواقع العسكرية وأثناء الحروب وبين حدود الدول المتنازعة.