“استيقظتُ في الساعة 5:10 فجرًا على صوت الهاتف، كانت أختي تتصل عدة مرات.. فتحت الهاتف وإذ بالصراخ والعويل يأتي من الطرف الآخر: ناتاليا! إنهم يهاجموننا.. الروس يغزون بلادنا.. إيفان لا يزال في دونيتسك، لا أعرف ماذا أفعل، تعالي على الفور”.
هكذا وصفت ناتاليا بوسايا في حديث لـ”نون بوست” الأيام الأولى للحرب، وهي متخصصة في الدعم النفسي تعمل الآن مع الحكومة لمعالجة حالات الاضطراب والصدمة، وتعيش في حي ليسوفا الهادئ قرب نهر دنيبرو وسط العاصمة كييف.
“خرجت في الصباح على وقع الحرب، لم تكن كييف ذاتها التي أعرفها، انهمرت الأخبار كالمطر من وكالات الأنباء، تمامًا كما كان حال الصواريخ التي تضرب العاصمة ومرافقها الحيوية، استغرق الأمر مني وقتًا طويلًا للوصول، لم يكن هناك سيارات تاكسي ولا مواصلات.. في النهاية وصلتُ إلى إيلينا، وعرفت أن زوجها إيفان دخل كييف بمعجزة بالقطار، لأن كل المواصلات تعرضت للقصف من الطيران الروسي”، تضيف ناتاليا.
ساعة الصفر: الصدمة
رغم إعلان روسيا الاعتراف بإقليمَي دونيتسك ودونباس كجمهوريتَين مستقلتَين، لم يكن أكثر الأوكرانيين تشاؤمًا يتوقّع أن يُقدم بوتين على غزو أوكرانيا عسكريًّا، لذا كان وقع الصدمة كبيرًا على معظم الأوكرانيين، ومن بينهم ناتاليا وأختها إيلينا.
“في المساء، دخل إيفان ومعه بندقية كلاشينكوف”، تقول إيلينا، “انتقلنا إلى شقة أختي في وسط كييف، لأننا اعتقدنا أن الروس سيبدأون بمهاجمة الأطراف لو أرادوا دخول العاصمة، لقد رأينا ما فعلوه في سوريا، وطالما أن الخروج من العاصمة غير متاح الآن، فالأفضل أن نبتعد ولو قليلًا عن خطوط التماسّ”.
منذ الأيام الاولى للحرب لم يكن هاتف ناتاليا يتوقف طلبًا للدعم، حيث أصبحت بوسايا متطوِّعة حكومية تقدِّم خدمات الدعم والمعالجة النفسية من آثار الحرب دون مقابل.
“يتصل بي الناس من جميع أنحاء أوكرانيا، تسأل إحداهن وهي تحت القصف: “ماذا يمكن أن أفعل؟ إنني أشعر بالرعب”، ننصحهم دائمًا بالتنفيس عن الضغط النفسي بعمل بعض الحركات الرياضية، كما أقول لهم إنه يجب عليهم ألّا يظلوا في أماكنهم، يجب إخراج الضغط النفسي ببعض الرياضة، باليوغا، أو حتى الصراخ والبكاء، المهم ألّا يبقى شيء في الداخل ممّا يسبِّب القلق”.
في هذه الأثناء يرنُّ هاتف ناتاليا مجددًا، إنها كرستينا، إحدى النساء اللواتي كنّ يتصلن بصورة دائمة قبل الحرب: “ألو.. ناتالوتشكا، لقد قفزت للتو في القطار مع طفلي الصغير إلى بولندا. نحن نذهب إلى المجهول، لا أعرف ماذا وكيف وإلى أين، لم أعد أعرف شيئًا على الإطلاق، فقط أعرف أننا سنكون بأمان، ولن نسمع أصوات القصف مجددًا، دخلنا القطار بمعجزة، لقد ربطوا عربات إضافية لتسع اللاجئين من الحرب، شكرًا لك عزيزتي، نحن نحبك جدًّا ونقدّر مساعدتك لنا.. إلى اللقاء”.
في اليوم الأول للحرب غادر العديد من سكان العاصمة حتى كتابة التقرير، حيث ترك نصف السكان المدينة مع اشتداد القصف، بحسب تصريح عمدة كييف فيتالي كليتشكو للتلفزيون الأوكراني.
ليست مصائرهم وحدها -تحت القصف- هو ما يهمّ سكان كييف، حيث تفكر العوائل بأبنائها المتطوعين والعاملين ضمن القوات المسلحة، كما هو الحال مع تانيا، وهي موظفة في إحدى شركات السفر والسياحة، بعدما التحقَ شقيقها بقوات الدفاع عن دونيتسك خلال ساعات الاجتياح الأولى، في النهاية قررت تانيا ألّا تظل وحدها والتحقت برفيقاتها ناتاليا وإيلينا وإيفان، تمامًا كما فعلت الكثير من العائلات بحلول نهاية اليوم الأول.
البحث عن المؤن
يعرفُ سكان العاصمة أن الحرب ستكون طويلة، لكن على الأقل هم مصمِّمون على الدفاع عن بلدهم في كل بيت وشارع وزقاق، بالتالي يميل السكان إلى تخزين المواد الغذائية والأدوية كي تكفيهم لفترات طويلة.
“كي أكون واضحة، لم يكن الأمر في بالي مطلقًا، لكن في الأيام الأولى للحرب أخبرني أحد الصحفيين من الشرق الأوسط، وقد عاش الحرب في بلده، أنه يجب عليّ شراء ما يكفيني لمدة شهر، لأن العاصمة قد تكون تحت الحصار، ولهذا قمت بجمع ما يلزم من المواد”، تقول ناتاليا.
أدّى الضغط الكبير على شراء المواد الغذائية إلى أزمة في التوريد داخل العاصمة، حيث خلال الأيام الأولى للحرب كان يمكن رؤية طوابير المشترين الطويلة أمام المحال التجارية، وكان يمكن ملاحظة الرفوف الفارغة في الأسواق الكبيرة.
تسبّب الصراع في صعوبات لوجستية في إيصال الإمدادات إلى العاصمة، و ظهرت مخاوف من أن يجوع الناس دون تدخل إنساني، حيث قال محلل الشؤون العالمية مايكل بوكيوركيو إن آلاف الأشخاص من المحتمل أن يكونوا عالقين في منازلهم دون طعام.
في الأيام التالية، طلبت الحكومة الأوكرانية مساعدة عاجلة من برنامج الغذاء العالمي، ومن الحلفاء الآخرين، وهو ما يضع تساؤلات حول الاستعداد الحكومي الداخلي لتوفير الإمدادات المطلوبة للسكان، خاصة أن الولايات المتحدة كشفت عن الحشود الروسية ونوايا بوتين قبل شهر من الحرب.
هناك تفاعل مؤثر بين الناس واستعداد كبير للمساعدة في كل مكان في المدينة، حتى في الأيام الأولى الصعبة كان الناس يتنازلون عن الأغذية لبعضهم
مع اندلاع الحرب، بدأت المساعدات تأتي تباعًا: تحمّلت الولايات المتحدة نصيب الأسد منها بقيمة 13.6 مليار دولار، منها 6.9 مليارات للمساعدات الإنسانية العاجلة، والبقية بشكل مساعدات عسكرية للجيش الأوكراني، حيث بلغت قيمة مساعدات البنك الدولي 1.2 مليار دولار، بينما بلغت مساعدات الاتحاد الأوروبي مطلع الحرب 1.2 مليار يورو.
أدّت هذه المساعدات، إضافة إلى قوافل المساعدات الغذائية المباشرة في مناطق الصراع، إلى تخفيف أزمة الإمدادات بشكل كبير، والآن هناك العديد من المستودعات الكبيرة التي يعمل بها متطوعون لتحميل العربات وإيصالها إلى مراكز التوزيع، والتي يصلُ معها الكثير من رسائل الدعم من الخارج، أو رسومات من الأطفال، يرسلها المتطوعون إلى الجيش الأوكراني.
فيما يخص الأدوية لا تزال هناك قوائم انتظار أمام الصيدليات، رغم أنها أقصر ممّا كانت عليه، حيث أُعيد فتح الصيدليات الخاصة إلى جانب الصيدليات التي تديرها الدولة، وجاء ذلك بعد دعوة من وحدة الأزمات الإنسانية بالمدينة، والتي تتولى تنسيق المساعدات لضواحي كييف الشمالية الأكثر تضررًا من الحرب، مثل بوتشا وهوستوميل على سبيل المثال.
كما تمَّ إصدار مرسوم لتسهيل وصول مرضى السكري إلى الأنسولين، والذي يمكن توزيعه الآن في مراكز الإسعافات الأولية، كما دعت وحدة الأزمات سكان كييف إلى رعاية الأشخاص الذين يعيشون بمفردهم وكبار السن وتزويدهم بالأدوية عند الضرورة.
بصورة عامة، هناك تفاعل مؤثِّر بين الناس واستعداد كبير للمساعدة في كل مكان في المدينة، حتى في الأيام الأولى الصعبة كان الناس يتنازلون عن الأغذية لبعضهم.
التفكير بالمستقبل
يمني سكان العاصمة النفس بالسفر واستنشاق بعض الهواء بعد الحرب، ثم إكمال المشاريع التي لم تُتِح العمليات العسكرية فرصة إتمامها.
“اشترت أختي وزوجها للتو قطعة أرض بالقرب من كييف قبل ذلك، أردنا بناء منزل هناك.. الآن يحلمون أن كل شيء سينتهي في أقرب وقت ممكن وسيكون بإمكانهم الذهاب إلى هناك مرة أخرى”، تضيف ناتاليا.
الآن، بعد مضيّ أسابيع على بداية الحرب، تغيّر وجه العاصمة تمامًا وتوشّحت بالزي العسكري، الطرقات مليئة بالحواجز المضادة للدبابات، هناك رجال مسلحون في كل مكان، وتنتشر المناطق المزروعة بالألغام، وفي المساء هناك حظر للتجوال.
أوضحت الحكومة أن الأحكام العرفية سيتمُّ تطبيقها خلال فترة الحظر، وأن أي شخص يتواجد في الشارع سيتمُّ التعامل معه على أنه من المخرّبين، وأن قوات الأمن ستطلق النار دون سؤال.
مع توقُّف جميع الأعمال والأنشطة، ومع امتلاء جميع الملاجئ ومحطات المترو بالمدنيين، تتجمّع الكثير من العوائل والأصدقاء في منزل واحد ويتشاركون كل شيء.
“من المهم أن نكون معًا، إنه مفيد في حال حصول طارئ، كما أن التجمع مفيد من الناحية النفسية، يمكن الحديث مع الأشخاص الذين تحب وهو ما يعطيك قوة معنوية، صحيح أننا نفتقد للخصوصية أحيانًا، لكن هناك ما هو أهم من ذلك الآن”، تقول تانيا التي تقيم رفقة صديقتها في حي ليسوفا.
لكن ماذا عن احتمالية احتلال كييف من قبل الروس؟
يقول إيفان: “اسمع، سنستخدم كل الوسائل قبل أن تحصل هذه الكارثة، نستخدم كل الوسائل.. هل سمعتني؟ ضمنها بندقية الكلاشينكوف الروسية هذه، ستنضب دماؤنا وطلقاتنا قبل أن يدخل الروس كييف.. سنجعل من ستالينغراد مجرد مزحة مقارنة بكييف.. نحن نفضّل الموت على أن يحكمنا الروس، أوكرانيا حرة.. وكذلك ستظل!”.