في بدايات الثورة السورية، عند تشييع الشهداء، كنا نذهب إلى أمام بيت أهله، ونهتف مًعا بصوت عال “أم الشهيد.. كلنا أولادك”، كانت تلك اللحظات تمثل مواساة حقيقية، لكنها دقائق وتمضي، وتبقى تلك الأم الثكلى تكابد المعاناة وتعيش حسرة الفقد على فلذة كبدها طوال حياتها، فكيف بمن فقدت أكثر من واحد من أولادها؟ سيكون الحزن مضاعفًا ولن تجبر الأيام كسرها أو تطفئ شعلة النار التي في قلبها.
ثم ماذا إذا كانت الأم هي الشهيدة؟ من يمسح حزن الأطفال أو يعوض حنانًا فقدوه؟ ولنا في قصة السيدة السورية ملك أبو الهوا خير مثال، التي كانت أمًا لـ3 شباب وبنت، عملت ملك على تنشئة أطفالها بعد أن توفي زوجها وهي شابة، ورغم عدم إكمالها تعليمها، فإنها كانت تعمل بجد لكي لا تكون بحاجة أحد حتى أقرب الناس إليها، لكن “ملك الطيبة” كما يعرفها أهل حيّها استشهدت برصاصة من قناصي جيش النظام الذين قتلوا آلافًا من الأمهات في سوريا.
يحتفل العالم العربي اليوم بذكرى يوم الأم، هذه الأم التي عانت خلال عقود من القهر وصعوبات الحياة المستمرة، لكنها في السنوات الأخيرة باتت تعاني من الفقد بكل أشكاله: مقتل الأبناء واعتقالهم وتهجيرهم وتشريدهم ومن ثم تحول المسافات بينهم، ولم تكن الأم فقط فاقدة وثكلى، إنما كانت مفقودة، فلم تسلم من الاعتقال والقتل والتعذيب والاضطهاد والتهجير أيضًا، فالرصاص صبّ على الأمهات وكانت الزنازين بانتظارهن لمتابعة حياة القهر والعجز لكن داخل القضبان.
في سوريا
لا تمر ذكرى يوم الأم في سوريا دون الأسى المحيط بكل العوائل، فإن لم تكن الأم هي الغائبة أو المغيبة تكون قد فقدت ابنًا من أبنائها، مثل اعتقال النظام السوري للسيدة حسنة الحريري عام 2012 وهي في الستين من عمرها، ونقلها خلال سنة ونصف من اعتقالها إلى أكثر من مكان اعتقال في فروعه الأمنية.
وبعد خروجها في نهاية 2013 بصفقة تبادل بين النظام والمعارضة، وجدت ابنيها وزوجها وأزواج بناتها فقدوا حياتهم برصاص الأسد أو تعذيبًا في المعتقلات، عدا عن أنها لم تجد بيتها الذي دمرته آلة الحرب الأسدية.
سميت السيدة حسنة بـ”خنساء سوريا” وباتت من أيقونات الثورة السورية، فحملت هذه الخنساء قضية المعتقلين على عاتقها وباتت تتحدث بها في الكثير من المحافل والمؤتمرات واللقاءات التليفزيونية، لما رأت من وحشية التعذيب والقتل وشناعة المواقف في فروع الأسد الأمنية، تمثل الحريري أمهات سوريا اللواتي فقدن أبنائهن، فنحن نتحدث هنا عن أم فقدت 8 من أولادها.
الحاجة أم عبد العزيز، منذ أن فقدت ولدها الأول باتت تعيش على الحبوب المهدئة وما زالت، يقول ابنها في حديثه لـ”نون بوست” إنهم إلى الآن لا يخبرون أمهم بعدد أبنائها الشهداء، يقولون لها إنهم في المعتقل وتأتي الأخبار أنهم بخير.
ويروي لنا أن 8 من أخوته قتلوا منهم 3 في إحدى المجازر التي ارتكبها النظام بريف دمشق، كما قتل 3 في معارك ضد النظام ثم أتاهم خبر مقتل 2 تحت التعذيب، وشهدت الحاجة أم عبد العزيز مقتل أبنائها في المجزرة، فكانت ترى الجنود وهم يقتلونهم ومن ثم يسحلونهم ويمثلون بجثثهم بحراب البنادق.
وفي ذات السياق، تتكرر عذابات الأم السورية التي قضت في معتقلها سنوات من التعذيب، ثم تتضاعف آلام التعذيب بوجود الأطفال مع أمهم ثم مواليد جدد في المعتقل، كما حصل مع السيدة رشا شربجي التي اعتقلها النظام في دمشق وهي حامل بتوأم في مايو/أيار 2014، وكان معها أولادها الثلاث، وُضعت رشا وأولادها في منفردة وحدهم بفرع المخابرات الجوية في منطقة المزة بدمشق.
تروي شربجي أن أصعب مرحلة بفترة اعتقالها كانت عندما أتاها المخاض وأخذوها إلى نقطة طبية تفتقر لأدنى مقومات الحياة، كما كانت الممرضات يعاملنها بقسوة، وأخدن منها الرضيعين والأولاد الباقيين وفصلوهم عنها، حتى خرجت من السجن بعملية مقايضة بين المعارضة السورية وجيش النظام عام 2016.
توثق الشبكة السورية لحقوق الإنسان، أن ما يفوق 16 ألفًا من النساء قتلن في سوريا منذ مارس/آذار 2011، معظمهن على يد النظام، وأوضح التقرير أن ما لا يقل عن 9264 سيدةً لا يزلن قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري 8029 منهن لدى قوات النظام السوري، ووفق التقرير فإن ما لا يقل عن 92 سيدةً قتلن بسبب التعذيب على يد أطراف النزاع والقوى المسيطرة في سوريا في المدة ذاتها، والكثير من هؤلاء أمهات.
الأمهات الفلسطينيات
ليس بعيدًا عن سوريا، ما زالت تواجه الأم الفلسطينية معاناة القتل والاعتقال وفقد الأبناء على يد الاحتلال الإسرائيلي، وكذا فإن الأم الفلسطينية حملت على عاتقها تنشئة الأجيال على حب الوطن والتمسك بالثوابت التي ترفض الاحتلال وتحض على المقاومة المستمرة مهما كانت النتائج.
الأسيرة الأم إسراء جعابيص ما زالت تحت الأسر وتعاني من حروق في كل أنحاء جسدها، تبلغ من العمر 36 عامًا، كانت قوات الاحتلال الإسرائيلي قد اعتقلتها بعد أن شبت النيران في سيارتها بعد عطل على أحد الطرق العامة، فقد كانت قوات الاحتلال توجد على مقربة من السيارة ولم تستجب لنداءات إسراء التي طالبت باستدعاء الإسعاف، لكن جنديًا أغلق عليها باب السيارة حتى يصاب جسدها بحروق ويتشوه وجهها.
بعد ذلك أعلنت وسائل الإعلام الإسرائيلية أن إسراء كانت تحاول تنفيذ عملية ضد قوات الاحتلال وهو ما تنفيه رواية إسراء التي تم الحكم عليها بالسجن لمدة 11 عامًا، كما تركت قوات الاحتلال الإسرائيلي إسراء دون علاج حتى عام 2017، وعلى الرغم من المطالبات المستمرة بالإفراج عنها للعلاج، فإن الاحتلال لم يستجب.
تسبب الحريق في أضرار تسببت بتشوهات هائلة لملامح وجهها، وأدت لالتصاق كتفها الأيمن من تحت الإبط بجسدها، وأصبحت عاجزةً كليًا عن تحريك يدها، كما التصقت أذناها برأسها بفعل النيران، وفقدت يديها الاثنتين وتعاني من صعوبة في تناول الطعام أو الشرب، إلا أن قوات الاحتلال ترفض ذلك.
وبحسب الإحصاءات فإن من بين النساء المعتقلات في سجون الاحتلال، توجد 10 أمهات، هن الأسيرة إسراء جعابيص والأسيرة فدوى حمادة، إضافة إلى الأسيرة أماني الحشيم والأسيرة ختام السعافين والأسيرة شذى عودة، إضافة إلى الأسيرة عطاف جرادات وشروق البدن وفاطمة عليا وياسمين شعبان، وسعدية فرج الله وهي أكبر الأسيرات سنًا.
في يوم الأم نقلت هيئة شؤون الأسرى والمحررين مطالب الأسيرات داخل السجون والمعتقلات، خاصة أن كل الأمهات يحتفلن اليوم مع أسرهن وعائلاتهن بمناسبة 21 مارس/آذار، وفي بيان للهيئة قالت: “في الوقت ذاته تحرم 31 أسيرةً فلسطينيةً بين أم وفتاة من عيش هذه اللحظات جراء حقد وعنصرية هذا الاحتلال، كما تحرم ما يقارب 4400 أم من معايدة وحنان ابنها جراء البعد القسري المتمثل باعتقالهم داخل السجون والمعتقلات”.
وجاء في رسالة لأسيرات سجن الدامون: “في يوم الأم والكرامة نحن الأمهات الأسيرات ورغم الاحتجاز القسري لحياتنا وأمومتنا، نتمسك بهما ونعبر عنها بما يليق بكل أم فلسطينية، نتوحد مع الأمهات الفلسطينيات ومناضلات العالم بالدفاع عن حقنا وحقوق أبنائنا في الحياة الكريمة ومنحنا الحرية والاستقلال، نحيي أمهات فلسطين وخاصة الأمهات اللواتي تنبض دقات قلوبهن بدقات قلوب أبنائهن وبناتهن الجرحى والأسرى، الأمهات اللواتي ودّعن أبنائهن الشهداء، الأمهات اللواتي دافعن عن الأرض والبيت والمدرسة، الأمهات اللواتي يعلمن الصمود ونحن نقول لبناتنا وإننا وإذ يحرمنا هذا السجن من التواصل المادي معكم إلا أن رسائل محبتكم تصلنا محبة أكيدة ومتواصلة”.
الأم المصرية
منذ أن انقلب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على الحكم في مصر، باتت تعاني الأمهات المصريات من أوضاع حقوقية واجتماعية صعبة، كما تعاني الأمهات المصريات في سجون الانقلاب من الانتهاكات، بالإضافة إلى معاناة المصريات في ظل الاعتقالات التي تطال أبناءهن، وكانت منظمة “نحن نسجل” الحقوقية قد أصدرت العام الماضي بيانًا وثقت وجود 203 نساء محتجزات في السجون على ذمة قضايا سياسية، وتعرض ما لا يقل عن 58 امرأةً وفتاةً للعنف والإيذاء عام 2021 فقط.
وأحصت المنظمة 86 أمًّا في السجون المصرية بينهن خمس مخفيات قسريًا، و26 سيدةً تقضي محكوميتها بعد أحكام سياسية، ووفقًا للمنظمة تظل 44 أمًّا رهينة الحبس الاحتياطي، كذلك تم تدوير 9 سيدات في قضايا جديدة بعد تجاوزهن فترة الحبس الاحتياطي، بينما صدر بحق اثنتين من الأمهات المحتجزات قرارات بإخلاء سبيلهما، لكنها لم تنفذ بعد.
وفي هذا السياق تكلمنا مع جهاد خالد ابنة المحامية المعتقلة المصرية هدى عبد المنعم، لتبعث برسالة إلى أمها في هذا اليوم فتقول: “في لحظات السعادة والراحة في العلاقات بين الأم وأبنائها يشيد الأبناء بروعة أمهم واختلافها عن البقية، يرونها دائمًا أقوى النساء وأقدرهن على تخطي الصعاب وأشجعهن، أما أنا ففي لحظات الخلاف والاختلاف بيني وبين أمي كنت وما زلت أراها الأقوى والأشجع وأيضًا الأضعف ودائمًا الأجمل”.
تردف السيدة خالد: “يأتي عيد الأم ورمضان والأعياد وأيام الميلاد ليمروا أصعب كثيرًا من الأيام الأخرى والأيام الأخرى صدقًا ليست هينة على الإطلاق، كل يومٍ هو أصعب يوم، كل لحظة أحتاج لأسمع صوت أمي وأطمئن به ولا أجده هي الأصعب، كل لحظة تمر عليها وحيدة في زنزانة مظلمة كئيبة قاسية ظلمًا وتجبرًا من سجانها هي لحظة قهر وعجز وكأننا عالقين في آلة زمن وعلينا لعنة تكرار اللحظة لثلاث سنوات وخمسة أشهر”.
وعن شعورها اليوم وأمها بعيدة عنها تقول: “اليوم صباحًا كنت أجلس في مكان ما وعلى طاولة إلى جواري جلست أم مع ابنتها، كانت الفتاة حائرة فيما تريد أن تطلب وقالت لها أمها: ماما حتى إذا ما راح تاكليها كلها أطلبيها ما تخلي نفسك في شي ماما، لا حرم الله هذه الفتاة من أمها ولا جعل أحدًا يعاني ما نعانيه أنا وأخواتي الثلاثة، لكنني تمنيت بشدة أن أسمع كلمات مشابهة من أمي، تمنيت لو تعود أيامًا كنا نهرب من كل شيء ونواعد بعضنا على تناول الفطور والقهوة معًا ونستمتع بصباح خالٍ من كل الناس سوانا”.
ثم إن أقصى ما تتمناه جهاد خالد أن تحتفل بأمها يوم الأم وكل يوم آخر، وتأمل “أن أطمئنها عليّ لأنني أعلم أنها تكاد تجن من القلق علينا، في تلك اللحظات والمواقف أرى دائمًا أن الكلام عن القوة والشجاعة وتحمل البلاء لا يليق بل ولا يصح، نحن بحاجة لأن نحزن ونصرخ ونشعر بقسوة ما نمر به، فيكفي أن العالم فرض علينا التظاهر بالثبات، وأنا يا أمي لا أريد الثبات، لا أريد القوة وأن يقابلني شخصًا لا أعرفه يشيد ببطولتك وقوتي، أنا أريد أن أنهار بكاءً بين ذراعيك وأن تربت علي يداك الحانيتين حتى أغفو”.
تضيف “أريد أن أستعيد الأمان في وجودك ووجودي حولك، نحن اشتقنا لكِ كثيرًا يا هدانا وعالقين دون حياة، دون هدى حرفيًا ومجازيًا. كل عام وأنتِ الأجمل والأشجع والأقوى، في كل لحظة يا أمي. عسى أن يأتي يومًا قريبًا ننعم في قربك وتطمئني بيننا”.
هذه القصص لها ما يشببها في كل بلد عربي تقريبًا، في اليمن وليبيا والسودان وغيرها، وكأنّه كتب على العائلة العربية أن تعاني في كل واحد من أفرادها.