السينما كفنّ ترسّخ لصور وأقاصيص، لا بشكل لحظي إنما بأسلوب يضمن لهذه الأشكال الإبداعية قهر أذرع الزمن، بحيث يعطيها طبيعة سماوية، ويمنحها صلاحية الخلود، ما يجعل بعض المخرجين ينظرون إلى السينما كذاكرة أبدية، أداة لمقاومة الذاكرة الفردية الهشّة، ومن هذا المنطلق تتبدّى ذكريات المخرجين الطفولية كصور مبتورة، تنمو وتتطور إلى سيناريوهات وصيغ بصرية ذات فرادة، لكنها تحمل من التاريخ ما يجعلها أشد عمومية، وقابلة للتفكيك والمشاركة بالنسبة إلى كل المشاهدين، خصوصًا أولئك الذين عاشوا الحقبة الزمنية نفسها.
يتحرك المخرج الأمريكي المميز بول توماس أندرسون من هذه النقطة، يتحرك من ذاته، بيد أنه لا يكتفي بذكرياته الخاصة، لعدة فوارق زمنية لم يتمكن من ملاحقتها بسبب صغر سنّه تزامنًا مع الحقبة الزمنية، لذلك يلجأ إلى حياة صديقه المنتج غاري غاتزمان، فترة المراهقة على وجه الخصوص، التي يصفها أندرسون بالقصة الموازية لما كان يدور في رأسه.
لهذا تحمل الحكاية بُعدًا جوهريًّا، يصنع أندرسون على إثره فيلمًا مختلفًا، يعزز من خلاله الذاكرة الجمعية، لا يبحث عن ذكرى بعينها أو حدث محدد، ولا يتقصى الحقبة لغرض تأريخي محض، ولكنه بشكل ما يرصد أجواء عاصرها وكبر داخلها، بلغة سينمائية شديدة الجمال والنعومة، بحيث لا يشعر المشاهد بأي من لحظات الملل، رغم افتقاد القصة في كثير من الأحيان لحدث رئيسي مهم، بيد أنه يصنع فيلمًا عن حقبة، فيلمًا زمنيًّا مهتمًّا بالأجواء، والشخصيات داخل تلك الأجواء أكثر من أي شيء آخر، ومن خلال تلك النقطة تظهر فرادة التجربة خصوصًا على المستوى الحبكة والسرد.
يدور فيلم “بيتزا عرق السوس” (Licorice Pizza) في سبعينيات القرن المنصرم، تحديدًا عام 1973، في منطقة سان فيرناندو فالي بكاليفورنيا، حول فتى مراهق اسمه غاري فالنتين (الممثل كوبر هوفمان ابن الممثل المرموق فيليب هوفمان) يُعجب بفتاة أكبر منه بحوالي 10 سنوات تُدعى ألانا كين (الممثلة والمغنية ألانا هايم) التي بدورها تدفعه عنها ثم تلين لانجذابه.
وبين متوالية من مشاعر التيه التي تختبرها الشخصيات، وخلال خفقات من الشد والجذب، العاطفة والانزعاج، يؤسِّس أندرسون لعلاقة غريبة بين الشخصيتَين، علاقة لا يستطيع المشاهد تصنيفها بشكل دقيق في خانة الرومنسية، الأمريكية منها على الأقل، بل تنتمي أكثر إلى الأجواء السبعينية الجامحة، حيث التهافت على غير الممكن، في مساحة لاختبار كل شيء مستحيل.
وفي مثل هذه الفوضى العارمة يمكن تصديق أقصوصة حب على استحياء بين شخصَين دون النظر إلى الفجوة الزمنية، لأن السبعينيات هي الأكثر جنونًا، في حروبها وقراراتها وصيحاتها وتقليعاتها، وبالطبع في قصص حبها.
كثافة الأحداث والزمن
الكثير من الأشياء تحدث في الفيلم، بشكل يجعل من الصعب استيعاب المضمون من القصة بشكل مباشر، وهي مصمَّمة لهذا الغرض، أن تكون ملتبسة، غير مرتّبة، فنجد حدثًا يجرُّ الآخر، بطريقة تبدو عشوائية.
ربما لجأ أندرسون إلى هذه المنهجية عن قصد، فهي ملائمة للحقبة الزمنية، وأليق للتعبير عن الجيل الذي يقود القصة، كشباب وفتيات لا يعرفون ما يفعلونه، يودّون التجريب، وملاحقة أي شيء يجعلهم يبدون في مظهر ناجح، ولكن على النقيض لن يستطيع المشاهد أن يضع يده بشكل دقيق ومحدَّد على القصة، وعليه لن يوقن إلى أين تأخذه الأحداث، وما هو الغرض منها.
لهذا نقول إنه فيلم زمني، يهتم بالتفاصيل الزمنية، يرصدها من خلال شخصياته وأبعاده المكانية، ومن خلال ذلك يتمكّن من بناء ذروات ابنة زمنها، ذروات ذات منطق لحظي، تساهم في تشريح الحقبة الزمنية أمام المشاهد عبر كشف الشخصيات ذاتها، والانتقال بين الأماكن بخلفياتها المتباينة وتعدُّد شخصياتها التي يمكن اعتبارها شخوصًا ثانوية أو فرعية، إنما يمكن إسقاطها على أصل ذي طبيعة كاريكاتورية ابنة عالمها كما يتصوره أندرسون، مرحة وجامحة وصاخبة، كشخصية جاك هولدن (الممثل شون بين) حين يصرخ على متن دراجته النارية فيما يقفز من فوق النار: “أنا قادم يا نانسي!”.
والحقيقة أننا لا نعرف من هو هولدن ولا نانسي خاصته إلا بشكل ثانوي، مصمَّم لكي يصوِّر لنا تفاصيل صغيرة ولكنها جزء مهم من شكل العالم آنذاك، وبالطبع ضمّنها أندرسون بنمط يجذب الانتباه ويرفع من النسق، كثيمات تحافظ على الإيقاع بجانب كونها تعرض لمضمون بصري أكثر أهمية.
وعلى المنوال نفسه نجد شخصية جون بيترز مصفِّف الشعر الشهير (الممثل برادلي كوبر)، وهو شخص غاضب دائمًا ومتعجرف بطريقة تجعله يبدو كوميديًّا، مضمونها ساخر، للدلالة على تناقض الحقبة وجنونها، شخصية لا تبدو حقيقية، تخلق الكوميديا عن طريق المفارقات، لتظهر كشخص مخبول يبحث عن وقود لسيارته، هكذا كان العالم في عين أندرسون، كان عالمًا صاخبًا مليء بالألوان والتناقضات والمشاعر التي لا يمكن تحديد ماهيتها، والأكثر إثارة للسخرية أن كل الشخصيات -عدا ألانا- تعامل غاري كشخص ناضج وواعٍ تمامًا.
يحشد أندرسون عددًا كبيرًا من الشخصيات في مدة زمنية قصيرة نسبيًّا، لذلك نرى الفيلم يتأرجح بين عدة أقاصيص جانبية، يجمعها أندرسون بلغة سينمائية ساحرة، ويمارس هوايته المفضّلة في إنارة الشخصيات من الخلف، عن طريق مصابيح كاشفة وحادة، بحيث يتحول الأبطال إلى ما يشبه ظلالًا على الشاشة.
يفقد هؤلاء الأبطال بريقهم في لحظات معيّنة لا ندرك دلالتها في السردية السينمائية، حيث قد تكون مجرد أسلوب يحبه أندرسون ليسلب الأبطال بريقهم ويجردهم من حيواتهم ثلاثية الأبعاد، أو إنها إشارة تلمّح لنا بأن العلاقة بين الأبطال ليست قصة حب ناضجة، إنها شيء آخر، لعبة بريئة في الظل، بحيث لا يخلق محفزات جسدية لهذا الحب، بل يسقطها على الظلال كوسيط أقرب وأكثر رمزية.
بالإضافة إلى ذلك، علاقة أندرسون بأبطاله، خصوصًا الممثلة ألانا هايم، علاقة شديدة العمق، لها تاريخ فني واجتماعي، فوالدة ألانا كانت معلمة الفنون التي درّست أندرسون في صغره، وما زال يتذكرها حتى قبل أن يقابل ابنتها، ويحتفظ ببعض الرسوم التي رسمها في صغره تحت إرشادها، بجانب أنه صوّر عدة أغانٍ لفريق “هايم” الموسيقي، الذي تقوده ألانا وأخوتها.
لهذه الأسباب قرر أندرسون أن يستعين بعائلة هايم كاملة في فيلمه ليمثلوا أسرتها، وهو بالطبع لم يكن تمثيلًا بل حقيقة، فالأب والأم والأخوة يشكلون عائلة حقيقية، ولم يتوقف الأمر على عائلة هايم، بل امتدَّ إلى الممثل كوبر هوفمان، ابن الممثل العظيم فيليب هوفمان، صديق وشريك أندرسون في عدة مشاريع، فهو يعرف أندرسون جيدًا، وأندرسون يعرفه، ليس فقط كامتداد لموهبة أبيه، بل كموهبة في طور التكوين، لذا اختاره وهو لم يتجاوز الـ 18 من عمره ليصبح بطل الفيلم.
ما يميز الفيلم -بجانب لغته السينمائية وتفاصيله البصرية وأزيائه المناسبة للفترة الزمنية- هو حبكته، التي لا تتقيّد بالهيكلة الرومانسية المعهودة وتبتعد عن التابوهات، لكي تصنع فيلمًا لا يلتزم بمساحة معيّنة، بل يتحرك في أكثر من نوعية، بأكثر من أسلوب، وهذه الطريقة تجعل من الصعب على بعض المتفرّجين الإعجاب بالفيلم، فالفيلم ليس قصة حب، بل هو مجرد لمحات من كل شيء، يعتمد فيها أندرسون على الواجهة الجسدية، يتغزل بجسد بطلته ويرصده كمثال جمالي في عصر الفوضى.
الكثير من الركض
تشكّل ثيمة الركض ملمحًا هامًّا من ملامح سينما أندرسون، يكررها تقريبًا في كل أفلامه، بأشكال وسياقات مختلفة، بيد أن “بيتزا عرق السوس” هو أشد أفلامه تعلقًا بهذه الثيمة، ربما تتزامن الحركة مع التغيرات الكثيرة التي تطرأ على العالم والشخصيات، فالسكون يعني الاستسلام والركود في عالم صاخب، والركض في أغلب الحالات ينطوي على نوع من التخلي، التخلي عن عاطفة، عن رأي، أو الاستسلام لحالة معيّنة من المشاعر.
بيد أنه يمنح للقصة ديناميكية، لأنه يصور اللحظات الأكثر حميمية بين الأبطال فيما يركضون، يتحركون إلى الأمام، إلى عالم لا يعرفون عنه شيئًا، بيد أن فعل الركض نفسه يسلّمهم زمام المبادرة، فيخوضون بعنفوان في عالم عشوائي، وهذا يتّضح من سير القصة نفسه، فشخصية غاري مأخوذة بمشاريع وليدة اللحظة والانفتاح الاجتماعي، فيتاجر وهو في عمر الـ 15 بالأسرّة المائية، ثم يتاجر في ماكينات البينبول (Pinball Machines)، وعلى غرار هذه السباقات تحاول ألانا إثبات نفسها هي الأخرى، فتعمل مع أحد أعضاء المجالس الحكومية لإنقاذ العالم، حسب قولها.
ربما هذه الأحداث الغريبة والقفزات السريعة التي لا ترتبط بسياق معيّن يمكن التركيز عليه، بل تتصل بشكل كلي بالوضع الحالي للعالم، المأزق الوجودي والأزمات العالمية؛ هي التي تولِّد هذا الكمّ من الركض، كانفلات من عقبة ما، أو محاولة للهروب من الظلال، فالركض في كل مرة يمثل بداية جديدة، اندفاعًا نحو كارثة جديدة، بجانب الكثير من الدلالات الأخرى التي يمكن ذكرها، ولكن قبل كل شيء يصنع أندرسون هذه المشاهد لإثارة خيال المشاهد، وتفجير طاقة شخصيات في عنفوان شبابها.
حصد الفيلم الكثير من الإشادات النقدية والجماهيرية، بجانب ترشُّحه لـ 3 جوائز أوسكار: أفضل فيلم سينمائي، أفضل إخراج، وأفضل سيناريو أصلي، وترشُّحه لـ 5 جوائز بافتا، و4 جوائز غولدن غلوبز.