بعد مرور ما يقارب الشهر على بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، ما زالت العديد من التطورات تبرز على الساحة العسكرية، والتي يأتي في مقدمتها ظهور قصور استراتيجي كبير على مستوى التخطيط العسكري الروسي، من حيث الركائز الأساسية التي تقوم عليها آلة الحرب الروسية، والتركيز على نقطة الاختناق الرئيسية، وهي الديموغرافيا، والتي جعلت روسيا تواجه واقعًا عسكريًّا صعبًا للغاية في أوكرانيا مؤخرًا، وبالإطار الذي جعل مستقبل العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا خاضعًا لسيناريو الفشل في تحقيق الأهداف التي أعلنت عنها روسيا.
إذ يشير الموقف الحالي للقوات الروسية إلى أن هناك تحشيدًا بريًّا تجاه العاصمة الأوكرانية كخيار واضح، إذ بدأت روسيا في نقل المعدّات إلى معسكرات أصغر بالقرب من الحدود في مناطق بريانسك وبيلغورود وكورسك، كما بدأت العديد من المدرّعات والدبابات وناقلات الجند الروسية بالتحرك من الحدود مع بيلاروسيا باتجاه العاصمة كييف، وتحديدًا من الجهة الشمالية الغربية والشمالية الشرقية، وتحديدًا في تشرنيف وإربين.
ومن ثم يشير هذا التحشيد إلى أن الهجوم البرّي الواسع سيستهدف تدمير الوحدات العسكرية الأوكرانية في محيط العاصمة كييف وإلحاق إصابات فيها، وإضعاف القدرات الدفاعية، كما يشمل هذا التحرك الروسي اشتراك طائرات سوخوي-35 ذات العمليات التكتيكية والمدافع الثقيلة، من أجل فتح ممرّات آمنة للتقدم إلى داخل العاصمة، رغم أن خيار اقتحام العاصمة هو الآخر يواجه تحديًا مهمًّا، إذ يحتاج إلى لوجستيات كبيرة وقوة بشرية هائلة لتنفيذ هذا الهدف الاستراتيجي، وهو ما لم يتحقق حتى اللحظة.
مأزق استراتيجي
مشكلة الديموغرافيا، حيث بدأ الروس هذه الحرب وهم يعانون من نقص كبير في نسبة أعداد الذكور من حيث التجنيد العسكري، هذه حقيقة تمَّ الاستخفاف بها من قبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي أصرَّ على النظر إلى الحرب مع أوكرانيا على أنها لا تعدو أن تكون عملية سريعة لا تحتاج إلى تخطيط واسع وتحشيد للإمكانات.
إذ يجادل الكثيرون بأن الضغط الديموغرافي الناجم عن تزايد عدد السكان، كما هو الحال في دول أفريقيا والشرق الأوسط، يزيد من مخاطر الحرب أو الثورة، لكن الحالة الروسية ليس لديها هذا الضغط، وهو ما يضع الكثير من التساؤلات حول الأسباب التي دفعت بوتين لاتخاذ قرار الحرب.
في الواقع، قد تكون الحرب الروسية الأوكرانية هي الحرب الكبرى الأولى بين دولتَين سرعان ما يفقدان عدد سكانهما، حيث إن نظرة بسيطة إلى الخسائر الكبيرة في صفوف الجيش الروسي من جهة، وأعداد الضحايا في صفوف المدنيين الأوكرانيين من جهة أخرى، تكشف هذه الحقيقة.
أظهرت الأيام الماضية تهرُّب أعداد كبيرة من الشباب من ذوي الطبقات الثرية من عدة مدارس عسكرية في موسكو
لهذا السبب لا يمكن مقارنة الحرب الروسية الأوكرانية بشكل مباشر مع الحرب العراقية الإيرانية، أو حروب تقليدية أخرى، رغم تشابه بعض الجوانب، إذ سيكون الأداء الروسي في هذه الحرب مختلفًا عن الماضي.
نعم؛ قبل الحرب العالمية الثانية كانت روسيا تخوض حروبًا حقيقية طوال الوقت، لكن في ذلك الوقت كانت روسيا أصغر سنًّا، وأكبر مساحة وسكانًا.
فرغم أن متوسط العمر في روسيا اليوم يبلغ 40 عامًا، إلا أن متوسط أعداد الشباب في الجيش الروسي صغير جدًّا، ولعلّ هذا يفسِّر لنا أسباب وقوع أعداد كبيرة من كبار السن وبرتب عالية كأسرى بيد الجيش الأوكراني، كما أن هذا ما يفسِّر جزئيًّا لماذا هاجمَ بوتين أوكرانيا بهذا الجيش الشبابي الصغير، ولم يبدأ التعبئة على الفور، إذ لا يوجد الكثير من الذكور الشباب للتعبئة في المقام الأول، وفي الوقت نفسه ألحقت مقاطع الفيديو التي تنشرها أوكرانيا للمجنّدين الأسرى من الروس ضررًا كبيرًا بمشروع بوتين الحربي.
ومن ثم إن التساؤل المهم هنا هو “من يقاتل في جيش بوتين؟”، حيث من السهل جدًّا الإجابة، إذ يبدو معظم ضباط ورتب الجيش الروسي هم إما من المجندين الحاليين أو السابقين، وإما من شباب مدن صغيرة، وعادة ما يكونون من ذوي الخلفيات الفقيرة المحرومة.
أما الشباب الأكثر ثراءً والأكثر امتيازًا فما زالوا لم يدخلوا ميدان الحرب، إذ أظهرت الأيام الماضية تهرُّب أعداد كبيرة من الشباب من ذوي الطبقات الثرية من عدة مدارس عسكرية في موسكو، في الوقت الذي تجنّب فيه الرئيس بوتين محاسبتهم، خشية أن يخسر دعم العوائل الثرية لاقتصاده المتعثِّر بسبب العقوبات الغربية.
اليوم ومع وجود روسيا كدولة منخفضة الخصوبة ونسب متدنية في أعداد الشباب، يصبح خيار مواصلة الحرب مكلفًا للغاية بالنسبة إلى الرئيس بوتين
أما على الصعيد العرقي، فالأمر أكثر إثارة للاهتمام هنا، فمع بدء تعذُّر تجنيد السكان من أصل روسي بسرعة، وفّرت الأقليات المتواجدة بنسبة عالية وبشكل غير متناسب من الشباب الذكور، خيارًا يمكن اللجوء إليه من قبل الرئيس بوتين.
ونحن هنا لا نتحدث عن قوات رمضان قديروف، فرغم أن الشيشان تعدّ دولةً من اتحاد فدرالي مع روسيا، وجزءًا لا يتجزأ من روسيا، وقواتها جزءًا من قوات روسيا الفدرالية، إلا إن المجند الشيشاني لا يقاتل ضمن الجيش الروسي، بل يقاتل ضمن “الأفواج الشيشانية” التي يقودها قديروف شخصيًّا، وتدين بالولاء له وليس للرئيس بوتين.
كما أن المشكلة العرقية لا تقتصر على الأفواج الشيشانية فحسب، إذ تظهر الأعداد الكبيرة من الأسرى الذين وقعوا في يد القوات الأوكرانية أن الأسماء الداغستانية تشكّل حوالي نصف القائمة، وهو ما قد يجعل الجيش الروسي يتحول بسرعة إلى جيش الأقليات.
وأيضًا هناك سياسة إرغام تمارَس من قبل العديد من الجمهوريات في آسيا الوسطى، وتحديدًا في كازاخستان وأوزباكستان، إذ تحاول السلطات هناك إقناع/ إجبار مواطنيها على الانضمام إلى الجيش الروسي، وهو ما يشير إلى أن الرئيس بوتين ليس لديه خيار سوى إقناع مواطني الأقليات أو جمهوريات حليفة لمواصلة الحرب في أوكرانيا.
إجمالًا، يمكن القول إن روسيا نجحت في الماضي بشنّ حروب قارّية كبيرة، وأنهتها بتكاليف بشرية كبيرة، بعد أن كان مجمل جنودها من الأُسر الفلاحية ومواطني جمهوريات الاتحاد السوفيتي، أما اليوم ومع وجود روسيا كدولة منخفضة الخصوبة ونسب متدنية في أعداد الشباب، يصبح خيار مواصلة الحرب مكلفًا للغاية بالنسبة إلى الرئيس بوتين، الذي وجد في خيار فتح باب التطوع مؤخرًا للمقاتلين الأجانب، للقتال في صفوف الجيش الروسي، وسيلة لدفع المزيد من الشباب الروسي الذي بدا غير متحمّس لهذه الحرب عن جبهة القتال.