خلق واقع الانهزام الذي يعيشه المسلمون خلال القرون الأخيرة اهتزازًا حقيقيًا في جيل الشباب الجديد المنفتح على العالم بعد موجة الهجرات التي رافقت الحروب والنكبات الحديثة في بلادنا، بالإضافة إلى التطور الكبير في الفضاء الرقمي الذي فتح أبواب التواصل الاجتماعي على مصراعيها لتبادل الثقافات، ليفتح النقاش عن حقيقة ما قدمه المسلمون للبشرية في عصر ازدهار حضارتهم في ظل ما نشاهده اليوم من تراجع على جميع الأصعدة الحضارية للمسلمين.
هذا التراجع المستمر والطويل الممتد دفع الكثير من أبناء هذه الأمة لإنكار حقيقة وجود دور حضاري قدمه المسلمون لقرون طويلة، حتى إن بعضهم اقتنع بأن غياب المسلمين عن العالم اليوم وأمس لن يؤثر سلبًا في هذا العالم الفسيح المتطور والحديث.
في ظل هذا المشهد القاتم القائم، نسترجع في “نون بوست” عبر ملف “صفحات من إرثنا العلمي” الحقائق التاريخية الغائبة أو المغيبة كمحاولة لوقف جلد الذات المتكرر وغير المبرر، ومنح الجيل الجديد دفعة صادقة من التوازن الذاتي عبر الاطلاع على حقيقة أن العلوم التي قامت عليها النهضة الحديثة ما هي إلا امتداد لنهضات سابقة قدمها المسلمون في مظاهر وأماكن وأوقات ودول مختلفة، وأن هذا الأثر العلمي الكبير يمكن أن يعيد دورنا الحضاري.
سيقدم الملف سلسلة من التقارير التي تتحدث عن علم من العلوم التطبيقية التي برع بها المسلمون أو أسسوها بالفعل لنفهم حقيقة المساهمة الحضارية والأثر الذي تركته الحضارة الإسلامية على التقدم البشري الحاليّ.
قفزات واسعة في ساحات العلم
ساهم المسلمون بشكل فعال في كل وجوه العلوم التطبيقية والإنسانية وبرعوا في علوم كالطب فابتكروا التخدير الذي فتح الباب لتطور التشريح، فيذكر التاريخ أن الطبيب الزهراوي الذي يعرف بـ”أب الجراحة” أجرى جراحة استئصال الغدة الدرقية، وهي التي لم يجرؤ أي جراح في أوروبا على إجرائها إلا في القرن التاسع عشر، أي بعده بتسعة قرون.
أما فيما يتعلق بطب العيون، فقد ابتكر الطبيب عمار الموصلي أول طريقة جراحية لعملية قدح العين المعروفة بـ “الكاتاراكت”، وصمم واخترع المقدح الأجوف لشفط الساد الطري وهو مقدح على شكل إبرة مجوفة لا يشكل استعمالها في قدح العين أي خطر ولا تزال طريقته هذه متبعة حتى اليوم.
كما قفز العرب بعلوم الرياضيات بشكل كبير، فأسس الخوارزمي علم الجبر (أحد علوم الرياضيات الحديثة) عبر كتابه “الكتاب المختصر في حساب الجبر والمقابلة” وتحدث عن المتواليات العددية والهندسية والتآلفية والمعادلات الجبرية والجذور واللوغاريتمات والفلك والمثلثات والأرقام الهندية والطريقة البيانية لإيجاد الجذور، وقام محمد بن جابر بن سنان البتاني الذي يعرف في الغرب باسم (Albategnius) باكتشاف وتطوير فرع المثلثات الكروية الذي كان له دور فعال في تطور علم الفلك.
كما وضع الإدريسي علم الجغرافية الحديثة عبر كتابه الشهير “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”، وقدم ابن خلدون علم الاجتماع للعالم عبر مقدمته الشهيرة، ووضع جابر بن حيان الأسس العلمية الصحيحة لعلم الكيمياء وطوروا علوم الميكانيك، وقدم أولاد موسى كتاب “الحيل النافعة”، وقدم الجزري (أعظم المهندسين الميكانيكيين) طرق صناعة آلات رفع الماء والساعات المائية ذات نظام التنبيه الذاتي وصمامات التحويل وأنظمة تحكم ذاتي والكثير غيرها شرحها في مؤلفه الرائع المزود برسومات توضيحية “الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل”.
إن المتتبع لسير الحركة الحضارية والجهود الفكرية للمسلمين سيدرك أن أعظم ما قدمه المسلمون من مساهمة في ارتقاء العلم وجعله مقصدًا بحثيًا خالصًا هو تأسيس المنهج العلمي في البحث والكتابة المعتمد على التجربة والمشاهدة والاستنتاج الذي كان البوتقة التي ينصهر فيها الجهد الإنساني والبوصلة التي أوصلتنا للحداثة التي نعيشها اليوم.
قبل المسلمين لم يكن يعرف العالم الموسوعات العلمية المتكاملة حتى باشر بتأليفها ووضعها العلماء المسلمون كموسوعة “مفاتيح العلوم” للخوارزمي وموسوعة “الحيوان” للجاحظ وغيرهما الكثير، كما لم تكن في كتب العلوم الرسوم التخطيطية ولا الخرائط الجغرافية الدقيقة التي وضعها الإدريسي وأخوته.
نقل المسلمون صناعة الورق من الصين للعالم، فأصبح في بغداد سوق ضخم وخاص بالوراقين الذين بذلوا جهودًا كبيرةً في نشر العلم بأرجاء الأرض عبر توفير الكتب التي لم تكن متوافرة قبلهم، فازدهرت المكتبات الإسلامية في دمشق والقاهرة وبغداد، وكان لكل مسجد كبير في المدن الإسلامية مكتبة ضخمة، وكانت الأمية شبه معدومة، إذ كان تعلم العربية وحفظ القرآن إلزاميًا لفترات طويلة، وحافظ المسلمون على علوم من سبقهم، فترجموا العلوم الهندية واليونانية والفارسية والنبطية ودققوا وزادوا عليها حتى أصبح “بيت الحكمة” أكبر مؤسسة ترجمة عرفتها العصور الوسطى.
كما أسس المسلمون المؤسسات ولم يكتفوا بتفوق الأفراد بل جعلوا الارتقاء الحضاري حالةً عامةً مزدهرةً في حواضرهم الإسلامية، فكانت أول جامعة عرفتها البشرية نتاجًا إسلاميًا، فعرف العالم الإسلامي جامعة القيروان وقرطبة وجامعة القرويين والمستنصرية والأزهر والزيتونة قبل أن تظهر هارفارد وأكسفورد بقرون عديدة.
كانت أول معاهد الطب والصيدلة ونظم إدارة المستشفيات التخصصية منجزًا إسلاميًا، ومما يذكر في هذا الصدد أن سنة 836م أمر الخليفة المعتصم ببناء مشرحة كبيرة على شاطئ نهر دجلة في بغداد وتزيدها بأنواع من القرود الشبيهة في تركيبها بجسم الإنسان لكى يتدرب طلبة الطب على تشريحها.
إن من يطالع واقع الحواضر الإسلامية في عصر ازدهارها كالكوفة والبصرة وبغداد والقاهرة والرقة والقطائع والقيروان وفاس ومراكش والمهدية والجزائر ودمشق وحلب وحمص وبخاري وسمرقند ودلهي وحيدر أباد وقندهار وبلخ وترمذ وغزنة وبوزجان وطليطلة وقرطبة وإشبيلية ومرسية وسراييفو وأصفهان وتبريز ونيفيا والحمراء وغيرها من المدن الإسلامية سيدرك بما لا يقبل الشك أن مدنًا بها المكتبات والمشافي والحمامات والجامعات وتصل المياه للمنازل قبل أكثر من ألف عام وتحفل مساجدها بحلقات العلم والحوارات والمناظرات وتنظم كل شؤونها الإدارية بدقة متناهية لهي جديرة بأن تخرج هذا الكم الهائل من المنجزات العلمية التي سنحاول في ملف “صفحات من إرثنا العلمي” إماطة اللثام عنها وكشف بعض ما قدمته الحضارة الإسلامية للعالم أجمع في علومه المختلفة ونتوقف قليلًا عن جلد ذواتنا التي تعبت مما تشاهده اليوم من انحدار أودى بالبعض لنكران تاريخه.