توثق جدران المقابر والمعابد الفرعونية عملية زراعة القمح بتفاصيلها كافة، منذ نثر البذور حتى الاحتفال بالحصاد، بل إن التراث المصري يحمل الكثير من الأهازيج التي تتغنى بالقمح حين كانت مصر سلة غذاء العالم الأولى وصاحبة الريادة في تلك السلعة، وذلك قبل أن تتحول اليوم إلى أكبر مستورد لها في العالم.
انحدار واضح في مسار القمح المصري على مدار 8000 عام، وتحول كبير بين ما كانت عليه مصر القديمة عام 6000 قبل الميلاد، وما وصلت إليه مصر الحديثة اليوم، إذ باتتت واحدةً من أكثر الدول ارتهانًا لتلك السلعة الإستراتيجية، التي أثقلت كاهل الدولة المصرية بالكثير من الأعباء كان لها صداها على كثير من المستويات، بعضها سياسية.
وبلغة الأرقام تستورد مصر نحو 12 مليون طن من القمح سنويًا، حسبما نشرت صحيفة “المصري اليوم” المحلية، بما نسبته 10.6% من إجمالي صادرات القمح العالمية، لتحتل مرتبة الصدارة ضمن كبار مستوردي العالم من هذا المحصول الذي تستهلك منه كل عام قرابة 18 مليون طن، 9 ملايين منهم مخصصة للخبز المدعم الذي ينتج منه يوميًا قرابة 270 مليون رغيف لسد احتياجات 70 مليون مواطن مسجلين ببطاقات التموين (الدعم الحكومي).
وظل القمح نقطة ضعف الدولة المصرية لسنوات طويلة، لا سيما على المستوى الاقتصادي، إذ يكبد الخزانة المصرية مئات المليارات سنويًا، غير أن الحرب الروسية الأوكرانية الحاليّة عمقت جراح نقطة الضعف تلك، فكلا البلدين المتحاربين، روسيا وأوكرانيا، يمثلان معًا 80% من واردات مصر من القمح ( 7.56 مليون طن من روسيا و1.9 مليون طن من أوكرانيا بحسب إحصاءات 2021).
الصدمة التي تلقاها الشارع المصري مع انطلاق شرارة الحرب الأولى في 24 فبراير/شباط 2022 التي كان من مظاهرها رفع أسعار الخبز ومساعي الحكومة نحو تحريك كبير في أسعار الدقيق المدعوم، أعادت ملف القمح مرة أخرى للأضواء، لتتعالى الكثير من الأصوات التي تتساءل عن أسباب الأزمة الحقيقية ومبررات عدم الاكتفاء الذاتي من تلك السلعة الإستراتيجية ومخاطر تلك السياسة على مستقبل الأمن الغذائي للبلاد ومن ثم أمنها القومي وبالتبعية استقلالية قرارها السياسي.
القمح والأمن الغذائي
يمثل القمح رأس هرم منظومة الأمن الغذائي المصري، إذ يلبي 30% من إجمالي السعرات الحرارية و45% من البروتين الذي يحصل عليه المصريون يوميًا، ما يجعله متصدرًا لقائمة المحاصيل الأكثر أهمية لمئة مليون مصري يعتمدون بشكل رئيسي على الخبز كوجبة دائمة ثلاث مرات يوميًا.
ويساهم القطاع الزراعي الذي يتصدره القمح 14.8% في الناتج المحلي الإجمالي لعام 2020، بنسبة إجمالية بلغت 669.8 مليار جنيه (42 مليار دولار)، ويحتضن قرابة 20% من إجمالي الأيدي العاملة في مصر بنسبة بلغت 5.2 مليون مشتغل.
وتمثل المساحة المزروعة من الأراضي المصرية قرابة 8.6 مليون فدان بما يعادل 3% فقط من إجمالي المساحة التي تبلغ 238 مليون فدان، فيما حققت البلاد الاكتفاء الذاتي من 9 محاصيل فقط العام الماضي، ليس من بينها القمح بالطبع (الخضراوات بإنتاج 25.5 مليون طن، والفاكهة بإنتاج 10.7 مليون طن، والأرز بإنتاج 6.5 مليون طن، والذرة البيضاء بإنتاج 4.5 مليون طن، والبصل بإنتاج 4 ملايين طن).
وفيما يتعلق بتوزيع واردات مصر من القمح البالغة 13.2 مليون طن، فتنقسم إلى قسمين: الأول لصالح هيئة السلع التموينية من أجل دقيق الخبز المدعم ونسبتها 5.46 مليون طن، فيما يذهب للقطاع الخاص من أجل المخبوزات والمعجنات السياحية والخاصة النسبة الكبرى التي تبلغ قرابة 7.56 مليون طن.
السياسة الزراعية.. علامة استفهام
في حوار له مع صحيفة “المصري اليوم” في 2008 اتهم الخبير الزراعي عبد السلام جمعة، المشرف علي برنامج بحوث القمح بمركز البحوث الزراعية، والملقب بـ”أبو القمح”، الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر بأنه السبب في أزمة القمح الحاليّة لما تبناه من سياسات زراعية قادت البلاد إلى الارتهان بأمنها الغذائي للخارج.
جمعة أشار إلى أن المصريين خلال ولاية عبد الناصر كانوا يأكلون الخبز المصنوع من قمح الذرة، وكان أقل كلفة في زراعته ويحقق الاكتفاء الذاتي للشعب المصري، لكن الرئيس – بحسن نية – حاول تحسين مستوى معيشة الفلاحين والبسطاء، فأصدر قرارًا بصناعة رغيف الخبز من القمح بدلًا من الذرة، ليزداد الطلب على هذه السلعة التي تحولت مع مرور الوقت إلى السلعة الإستراتيجية الأهم والأخطر.
الأزمة تفاقمت عامًا تلو الآخر مع ثبات المساحة المزروعة، ما دفع الحكومات المتعاقبة لاتخاذ بعض الإجراءات التي عززت تلك الوضعية، منها التوريد الإجباري للقمح، الذي كان ينص على إجبار الفلاح على توريد 3 إردبات من إنتاج الفدان للحكومة نظير ما يحصل عليه من أسمدة، ما دفع الفلاح للتخلي تدريجيًا عن زراعة هذا المحصول الذي قلب موازين المعادلة، إذ بات المزارع من يدعم الحكومة وليس العكس، بحسب تعبير “أبو القمح” المصري.
يتناغم هذا الطرح مع السياسة الزراعية التي تتبناها الدولة المصرية في الوقت الراهن، حيث الميل لسياسة التصدير، بزعم قدرتها على تأمين احتياجات المصريين من القمح، فالعوائد المحصلة من تصدير الفواكه والأزهار والخضراوات يمكن الاستعانة بها لشراء الورادات السنوية من السلع الإستراتيجية المهمة وعلى رأسها القمح، وهي السياسة التي ثبت فشلها – بحسب العديد من الخبراء – خلال السنوات الماضية، وانفضح هذا الفشل أكبر مع الحرب الروسية الدائرة الآن، فالأموال المحصلة من التصدير لا يمكنها تأمين حاجات المصريين من القمح الذي بات محتكرًا بأيدي غير المصريين.
وتشير الإحصاءات الصادرة عن الإدارة المركزية للحجر الزراعي (المسؤولة عن حركة الاستيراد والتصدير للمحاصيل الزراعية) أن حجم الصادرات الزراعية خلال الفترة من الأول من يناير/كانون الثاني 2021 وحتى 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 بلغت نحو 5 ملايين و200 ألف و864 طنًا من مختلف المحاصيل.
وتصدرت قائمة الصادرات محاصيل الموالح، بإجمالي مليون و882 ألفًا و300 طن، تليها البطاطس بـ620 ألفًا و769 طن بطاطس، ثم بنجر العالف ثالثًا بـ607 آلاف و247 طنًا، فيما احتل البصل المركز الرابع في الصادرات الزراعية بإجمالي 256 ألفًا و255 طنًا، يليه العنب بإجمالي 143 ألفًا و201 طن.
الحرب الروسية الأوكرانية.. إرهاق الميزانية
في موازنة العام المالي الحاليّ 2021/2022 خصصت وزارة المالية ما يقرب من 50 مليار جنيه (3.2 مليار دولار بسعر يناير/كانون الثاني الماضي و2.7 مليار دولار بسعر اليوم) لدعم الخبز، على أساس سعري في المتوسط لطن القمح 255 دولارًا العام الماضي.
اليوم وبعد الارتفاع الكبير الذي شهدته أسعار السلع خلال الأشهر الماضية والقفزة الكبيرة للدولار أمام الجنيه قبل ساعات قليلة، من المتوقع أن تصل فاتورة استيراد القمح إلى 4 مليارات دولار بزيادة قدرها 25% تقريبًا عما كانت مخصصة له بداية العام، بعدما وصلت كلفة طن القمح في الوقت الحاليّ إلى 350 دولارًا أي بزيادة قدرها 100 دولار للطن الواحد.
زيادة الأسعار العالمية قبل الحرب الدائرة الآن كلفت الدولة المصرية 12 مليار جنيه (0.64 مليار دولار) إضافية عن الميزانية المخصصة للقمح في الموازنة بداية العام، لكن هذا الرقم من المقرر أن يرتفع إلى 47 مليار جنيه (2.5 مليار دولار) مع إضافة الزيادات الجديدة في أسعار توريد القمح محليًا، بحسب وزير المالية، الذي توقع زيادة كبيرة في الفاتورة خلال الفترة المقبلة.
وفي تصريحات لوزير التموين والتجارة الداخلي المصري علي مصيلحي، تعليقًا على تداعيات الحرب الأوكرانية، قال إن الحكومة ستتكبد فرق سعر كبير بسبب الحرب والهزة التي شهدها سوق الأسعار العالمي، لافتًا أن فاتورة استيراد القمح من الخارج تسجل نحو 40 مليار جنيه (2.1 مليار دولار) سنويًا، منها نحو 18 مليار جنيه (مليار دولار) قمح محلي، وما يتراوح بين 20 إلى 22 مليار جنيه (1.1 إلى 1.406 مليار دولار) فاتورة استيراد القمح من الخارج”.
المعضلة هنا ربما تتجاوز فكرة توفير التأمين المالي لشراء الواردات من القمح قدر ما هي الاجتهاد في البحث عن وجهات بديلة للحصول منها على المحصول ذاته، إذا لعبت روسيا وأوكرانيا (تلبيان 80% من احتياجات المصريين من تلك السلعة) بالقمح كأداة حرب وورقة ابتزاز وهيمنة وضغط على المجتمع الدولي لتحقيق أكبر قدر من المكاسب.
الفلاح.. الأزمة والحل
يعد الفلاح أو المزارع الحلقة الأقوى في معادلة القمح، هذا هو الحال في جميع دول العالم، أما في مصر ربما يكون الوضع مختلفًا بدرجة أو بأخرى، إذ تحول الفلاح إلى الأزمة والحل في آن واحد، فهو يواجه تجاهلًا وتهميشًا رسميًا على مدار عقود طويلة كان لها صداه على معدلات الإنتاجية السنوية من المحصول.
ويرى الفلاح المصري أن العائد من زراعته للقمح لا يتناسب مطلقًا مع المجهود والكلفة التي يتحملها منذ بداية زراعته وحتى حصاده وتوريده للحكومة بأسعار يعتبرها أقل بكثير مما يجب أن تكون عليه، هذا بخلاف انخفاضها الكبير عن الأسعار العالمية، ما يدفع كثير من المزارعين إلى البحث عن محاصيل أكثر ربحية بصرف النظر عن العوائد الإستراتيجية والقومية لها.
الدستور المصري في مادته (29) ينص على ضرورة “شراء المحاصيل الزراعية الأساسية بسعر مناسب يحقق هامش ربح للفلاح”، لكن الواقع غير ذلك تمامًا، إذ تفرض الحكومة على المزارعين حزمة تضييقات وتعقيدات تخسف بسعر إردب القمح الأرض بحسب “محمود سعد”.
يشير محمود، الفلاح المصري الذي يمتلك 3 أفدنة في إحدى محافظات الدلتا (شمالًا) إلى أن ربحية الفدان الواحد في العام لا تتجاوز 6 آلاف جنيه، علمًا بأن إيجاره في العام يتجاوز هذا الرقم بكثير، وقد يصل في بعض الأحيان إلى الضعف، ما يعني أن بعض الفلاحين ربما يتعرضون لخسائر كبيرة بسبب زيادة الكلفة عن العائد المحقق.
وبلغة الأرقام يوضح محمود خلال حديثه لـ”نون بوست” أن كلفة زراعة فدان واحد من القمح خلال الموسم تتجاوز 9 آلاف جنيه شاملة (التقاوي والحرث والري والوقود والعمالة وكلفة الحصاد والتوريد) وعلى افتراض أن الفدان يضخ في المتوسط 16 إردبًا بسعر 870 جنيهًا بعد زيادة الحكومة، تكون المحصلة النهائية 13920 جنيهًا، وبخصم كلفة الإنتاج تصبح أرباح الفلاح من زراعة فدان بأكمله طيلة موسم كامل لا تتجاوز 4920 جنيهًا، أي أقل من راتب عامل نظافة في إحدى الشركات الكبرى، هذا مع الوضع في الاعتبار عدم وجود فاقد أو هدر في المحصول.
ويشكو محمود وغيره العشرات من العاملين في الزراعة من ارتفاع أسعار الأسمدة والتقاوي وتجاهل الحكومة لاستغاثاتهم المتكررة والمطالبة بربط سعر القمح في مصر بسعره العالمي، خاصة أن أسعار المستلزمات الأخرى اللازمة للزراعة يحصل عليها الفلاح بسعرها العالمي، وقد طالب نقيب الفلاحين أكثر من مرة برفع سعر الإردب ليصل إلى 12000 جنيه كحد أدنى من أجل تشجيع الفلاح على زراعة المحصول بدلًا من اللجوء إلى المحاصيل الأخرى التي تدر أرباحًا كبيرةً كالموالح والخضراوات.
هذا التجاهل دفع بكثير من المزارعين إلى ترك مهنة الفلاحة والبحث عن المهن الصناعية والتجارية الأخرى، وهنا يوضح محمود أن أبناءه الثلاث (27 و23 و21 عامًا) تركوا مساعدته في زراعة الأرض وذهبوا للعمل في المدن الصناعية (السادس من أكتوبر والعاشر من رمضان)، إذ يحصل الواحد فيهم على أجر ثابت لا يقل عن 4 آلاف جنيه، بما يقترب من ربحية الفدان الواحد في 6 أشهر.
الحكومة المصرية وفي إطار سعيها لتوفير أكبر قدر من الإيرادات القمحية، ألزمت المزارعين بتوريد ما لا يقل عن 12 إردبًا من القمح لكل فدان، مقابل بعض المنح والتحفيزات، لكن في المقابل تمارس ضغوطًا أخرى كتهديد من لم يورد تلك النسبة بالسجن من عام إلى خمس سنوات وغرامة تصل إلى ألف جنيه، طبقًا لأحكام القانون رقم 45 لعام 1945 الخاص بشؤون التموين، كما ربطت حصول الفلاح على السماد المدعم بتوريده النسبة المحددة من القمح.
سوء التخزين.. سلاح فتاك
يقول سالم صقر، المسؤول عن إحدى شون تخزين القمح في محافظة الغربية، إن سوء تخزين القمح يتسبب في إهدار ما لا يقل عن 25% من إجمالي المخزون، مشيرًا في حديثه لـ”نون بوست” أنه تقدم بعشرات الخطابات للجهات المسؤولة منذ 2007 وحتى اليوم لتطوير مخازن القمح بما يحافظ عليه من التلف، لكن دون رد، اللهم إلا في الآونة الأخيرة بعد اشتعال الأزمة الأخيرة، على حد قوله.
وأوضح أن بقاء القمح في الشون لفترة طويلة دون حصول الحكومة عليه يتسبب في انتشار القوارض والحشرات والسوس، ما ينجم عنه فقدان لجوالات بأكملها فضلًا عن فقدان القيمة الغذائية لأخرى بينما تتعرض ثالثة للتلف بعدما يختلط القمح بالتراب خاصة إذا تعرض للمياه من أي مصدر.
وفي تصريح سابق لأستاذ الاقتصاد الزراعي بجامعة القاهرة، جمال صيام، أوضح فيه أن مصر تفقد نحو 15% من الحبوب لديها، بسبب سوء التخزين، منوهًا أن هذا الرقم وفق المعدلات العالمية يعد كبيرًا للغاية لدولة تعتبر الحبوب قوام غذائها الأساسي، ومحذرًا من نتائج تلك الظاهرة على مستقبل القمح تحديدًا.
صيام كشف أن حجم الفاقد من الحبوب في البلاد يقترب من 3 ملايين طن سنويًا، من إجمالي 35 مليون طن يستهلكهم المصريون سنويًا من حبوب (الأرز والقمح والذرة)، مرجعًا هذا الهدر إلى سوء عملية التخزين، إذ يتم في أماكن غير صالحة ولا تتوافر فيها الاشتراطات الصحية السليمة، محملًا وزارة الزراعة والبنك الزراعي ووزارة قطاع الأعمال العام ووزارة التموين مسؤولية هذا الفاقد.
وكانت بعض التقارير قد ذكرت أن إجمالي الهدر من القمح سنويًا يصل إلى 30% من إجمالي الكميات المخزنة في الشون والصوامع، بما يكلف الحكومة 5.2 مليار جنيه (0.2 مليار دولار) كل عام، مرجعة هذا الفقد إلى سوء التداول في مختلف عمليات زراعة القمح من الحصاد والنقل والتخزين.
يذكر أن الفاقد من القمح في مصر بسبب سوء التخزين وصل أعلى مستوياته عام 2015 حين بلغ 4 ملايين طن، بما نسبته 40% من إنتاج المحصول في هذا العام والبالغ 10 ملايين طن، بحسب نشرة حركة الإنتاج والتجارة الخارجية من السلع الزراعية الصادرة عن جهاز التعبئة العامة والإحصاء (حكومي).
غياب فقه الأولويات
تعاني العقلية الاقتصادية المصرية في عموم توجهاتها من أزمة “فقه الأولويات” فالأقل أهمية ربما يتقدم أحيانًا على المهم الذي قد يسبق بعض الأحيان الملح والأكثر أهمية، فبينما يتضور الشعب جوعًا ويقبع أكثر من 30% منه (30 مليون مواطن) تحت خط الفقر (أقل من دولار في اليوم) يفاجأ الجميع كل صباح بالأخبار الإيجابية التي تتناول عشرات المشروعات الخاصة بالطرق والكباري والمدن الجديدة.
الوضع كذلك مع الخريطة الزراعية، ففي الوقت الذي ترهن فيه مصر أمنها الغذائي بالدول المصدرة للقمح وعلى رأسها روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة، وتستورد أكثر من 60% من احتياجاتها السنوية القمحية من الخارج، تهرول فيه الخطى لتعزيز موقعها في معادلة تصدير محاصيل الموالح والفواكه، التي بلغت 5.6 مليون طن بقيمة 3 مليارات دولار، بجانب صادرات الصناعات الزراعية التي بلغت هي الأخرى 3 مليارات دولار.
ومنذ 2018 تعد مصر واحدة من كبرى دول العالم في تصدير البرتقال الذي وصل إنتاجه 3.4 مليون طن خلال 2020/2021، على مساحة قدرها 400 ألف فدان بزيادة قدرها 3.57% عن مساحتها عام 2019/2020، وتصدر مصر سنويًا قرابة 258 ألف طن بعائد قدره 120 مليون دولار، يليه الفراولة في المرتبة الثانية على خريطة التصدير على مساحة قدرها 33.7 ألف فدان.
ويعد هذا التوجه امتدادًا للسياسة الزراعية التي تبنتها مصر في الحقبة الناصرية واستمرت مع حقبتي السادات ومبارك، لكنها تعززت أكثر في ظل ولاية الرئيس الحاليّ عبد الفتاح السيسي، الذي يشجع ويحفز التصدير بشتى أنواعه، بمعزل نسبيًا عن محصول القمح رغم أهميته الإستراتيجية.
الاكتفاء الذاتي.. لُب الأزمة
بحسب وزير الزراعة واستصلاح الأراضي المصري، السيد القصير، فإن الاكتفاء الذاتي من القمح في مصر هذا العام بلغ 62% بعدما بلغت المساحة المزروعة بالمحصول 3.6 مليون فدان (أكبر مساحة تزرع بالقمح في تاريخ مصر) بما يُنتج 9.5 إلى 10 ملايين طن هذا الموسم.
فيما أشار مدير معهد بحوث القمح بمركز البحوث الزراعية، رضا محمد علي، أن الحكومة المصرية وضعت حزمة من السياسات تستهدف بها النهوض بمحصول القمح من أجل الوصول بمعدل الاكتفاء الذاتي إلى 80% خلال رؤية “مصر 2030” أبرزها التوسع الأفقي والرأسي في مشاريع زراعة القمح معًا، أفقيًا عبر إدخال الصوب الزراعية واستصلاح المزيد من الأراضي، ورأسيًا من خلال استخدام أصناف عالية الجودة، لافتًا إلى وجود 20 صنف قمح يتم زراعتهم في الوقت الحاليّ.
وفي السياق ذاته كشف معاون وزير الزراعة، محمد القرش، أن الوزارة تعمل على محورين لزيادة إنتاجية هذا المحصول الإستراتيجي، الأول يتعلق بالتوسع في المساحات المزروعة بزيادة قدرها 250 ألف فدان، والثاني ارتفاع إنتاجية الفدان لتصل إلى 20 إردبًا مقارنة بـ16 العام الماضي و10 إردبات في الأعوام الماضية، منوهًا إلى تحفيز الفلاح من خلال زيادة سعر شراء القمح بنسبة تقدر بنحو 15% عن سعره العام الماضي.
ونتيجة منطقية لكل ما سبق، ارتفاع الأسعار الجنوني للسلع الغذائية، والغموض الذي يكتنف مستقبل الخبز، بدأ المصريون يبحثون عن أنواع منخفضة من الغذاء لتلبية احتياجاتهم، وهو ما كشفته دراسة صادرة عن جهاز التعبئة العام والإحصاء (حكومي) أشارت إلى أن “نسبة الأسر التي لجأت لأنواع منخفضة من الغذاء خلال العامين الماضيين وصلت 92.5%، فيما لجأت 89.8% من الأسر إلى خفض استهلاكها للطيور والأسماك، بينما اعتمدت 50% على المساعدات، ولجأت 36.5% من الأسر إلى تقليل الوجبات اليومية”.
بعيدًا عن إستراتيجيات الاكتفاء الذاتي من القمح التي تتبناها الحكومة، هناك معضلة أخرى ربما تعرقل تلك الإستراتيجيات، تتمحور حول الإرادة السياسية المصرية للوصول بتلك السلعة المحورية إلى مراحل الاكتفاء الذاتي المتقدمة، خاصة أن البيئة والمناخ والتربة المصرية من أخصب الأراضي الصالحة لزراعة القمح، ولعل التفوق قديمًا للفراعنة في هذا المجال شاهد قوي على تلك الريادة.
وبعد كشف الحرب الروسية الأوكرانية لستائر التعتيم على أزمة القمح وخطورة ارتهان خبز المصريين لرغبات وسياسات الآخر، هنا تساؤل يفرض نفسه بقوة: هل تعيد القاهرة النظر في سياساتها الزراعية الحاليّة بما يعطي القمح الأولوية القصوى على سلم هرم الاهتمامات الرسمية؟ وهل من الممكن التخلي عن حسابات المصالح والخسائر المتعلقة بخريطة التحالفات الدولية والإقليمية مقابل الاستقلال بالسلعة الأهم على موائد 100 مليون مصري؟