ترجمة وتحرير: نون بوست
قبل غزو الجيش الروسي لأوكرانيا في 24 شباط/فبراير، لم تكن ناتاليا نيزينسكا تستخدم تطبيق تلجرام مطلقًا؛ أما الآن، فلا يمكنها قضاء يوم بدون تصفحه؛ لا سيما أنه يزودها بسيل لا نهاية له من آخر الأخبار عن مدينتها الأصلية خاركيف الواقعة في شرق أوكرانيا، من منزلها الواقع في مدينة لورتون في ولاية فيرجينيا الأمريكية.
وتقول نيزينسكا التي حصلت على الجنسية الأمريكية من خلال العمل كمسعفة في الجيش الأمريكي لمدة خمس سنوات؛ إن التلجرام يُطلِعها على “ما يفعله الجيش، وعدد المروحيات التي دمروها، وبعض الأخبار عن الإمدادات، والنكات المتعلقة بالحرب، والأبطال المحليين؛ من سقط منهم ومن لا زال نشطًا”، وتُضيف معتقدةً أن التطبيق قد “يخدم يومًا ما كدليل على جرائم الحرب المرتكبة في أوكرانيا في ظل احتوائه على الكثير من اللقطات المباشرة للتفجيرات من هواتف السكان أو الكاميرات الأمنية”.
وتحوّل تطبيق المراسلة تلجرام ـ الذي وصل في العام الماضي إلى مليار عملية تنزيل ـ إلى ساحة جديدة للمعركة الرقمية الدائرة بين روسيا وأوكرانيا؛ حيث يُعدُّ أداة فعّالة لكل من الحكومتين الروسية والأوكرانية ومركزًا لتلّقي الأخبار للمواطنين من كلا الجانبين، ففي أوكرانيا، يعتمد مسؤولو الحكومة، بمن فيهم الرئيس فولوديمير زيلينسكي، على التطبيق في كل شيء بدءًا من حشد الدعم العالمي إلى نشر تحذيرات الغارات الجوية وخرائط الملاجئ المحلية من القنابل.
ولأغراض مشابهة؛ تلجأ إليه الحكومة الروسية وكذلك الجماعات المعارضة الروسية، حيث يُعتبر كلا الطرفين معزولَيْن عن معظم وسائل التواصل الاجتماعي العالمية، وكذلك يبقى هواة التجسس وكبار المسؤولين العسكريين على حد سواء على اطلاع مستمر بالقنوات الأوكرانية على مدار الساعة للحصول على تفاصيل جديدة حول الضربات الأخيرة أو التطورات العسكرية.
ولطالما شكّلت وسائل التواصل الاجتماعي بؤرة لتزويد الناس بمعلومات عن ساحات الحروب، ولكن نادرًا ما تم توثيقها بدقة كما هو الحال في غزو روسيا لأوكرانيا، فقد برز تلغرام الآن كأهم منصة تواصل اجتماعية تقدم للعالم رؤية حقيقية حول الحرب بعيدًا عن فلترة الأخبار. إلى جانب ذلك؛ تم الاعتماد على التطبيق في الهجرة الجماعية لأكثر من ثلاثة ملايين لاجئ أوكراني، والذي حصلوا من خلاله على المعلومات التي تُخبرهم بالطرق الآمنة والمساعدات. وفي المقابل؛ يستخدمه ملايين الأوكرانيين خارج البلاد للعثور على معلومات حول مجريات الحرب في بلادهم، ويقومون بتصفح يائس لصور ومقاطع فيديو لا حصر لها بحثًا عن المعالم أو الوجوه المألوفة، وهو ما تفعله عائلات الجنود الروس أيضًا.
ويقول كلينت واتس؛ وهو نائب سابق في مكتب التحقيقات الفيدرالي وزميل في معهد أبحاث السياسة الخارجية والذي يركز على التضليل الأجنبي: “إنه آخر جسر متبقٍ لربط العالم الغربي بالعالم الروسي، إذ يمكنك أن ترى إلى حد ما كيف تدور المعركة وما الذي يحدث هناك”، مضيفًا بأنّ ” الحملات الإعلامية على تلجرام تعتبر أفضل فرصة لتشكيل وجهات نظر العالم حول ما يجري داخل أوكرانيا”.
يستخدم زيلينسكي التطبيق لنشر فيديوهات شخصيّة وغير رسميّة غالبًا ما يتم تصويرها عبر الهاتف، وخلال ثلاثة أسابيع ازداد عدد متابعيه بشكل كبير من 65 ألف متابع يوم 23 شباط/ فبراير إلى أكثر من 1.5 مليون متابع من حول العالم.
وفي حين أن افتقار تطبيق تلجرام إلى الرقابة هو سبب الإقبال الكبير عليه، إلا أن هذا الأمر قد يكون وبالًا عليه؛ فقد تأسس التطبيق في سنة 2013 من قبل الأخوين الروسيين المنفيين الآن نيكولاي وبافل دوروف، وسرعان ما أصبح ملاذًا للجماعات المتطرفة مثل تنظيم الدولة؛ ففي حين قامت منصات التواصل الاجتماعي مثل فيس بوك وتويتر ويوتيوب بقمع محتوى الجماعات المتطرفة، فإن منصة تلجرام وفرت لهم السرعة والأمان والخصوصية إلى حدٍ كبير.
وفي سياق آخر، تم استخدام تلجرام من قبل مجموعات هامشية مثل المُروّجِين لنظريات المؤامرة حول كوفيد 19 وأبرزها مؤامرة “كيو أنون”، وكذلك القوميين البيض ومنظمي حركة “حياة السود مهمة” والجماعات المؤيدة للديمقراطية من كوريا الجنوبية إلى كوبا وإيران وجماعات المعارضة الروسية.
ويرجع ذلك إلى عدم وجود خوارزمية تقرر ما ستظهره للمستخدمين أو ما يجب تقييده أو حجبه، كما أن نظام تلجرام يسمح بإنشاء مجموعات غير محدودة، ويتيح خاصية إيقاف التعليقات بسهولة؛ وهو الأمر الذي يُحوِّل القنوات إلى مكبر صوت يبث المعلومات إلى جمهور أسير من ملايين المتابعين، وبنقرة واحدة فقط يمكن ترجمة الرسائل من الروسية إلى الإنجليزية أو غيرها من اللغات، وتحويلها إلى أداة للاتصال الجماهيري.
كلُّ هذا جعل منصة تلجرام في قلب معركة الدعاية الرقمية، في ظل سماحها بنشر قصص المقاومة الأوكرانية وبطولاتها جنبًا إلى جنب مع حملات التضليل الروسية. والآن، وسط الهجمات الوحشية المتزايدة على المدنيين الأوكرانيين والقمع اليائس للحقيقة في روسيا، يتسابق كلا الطرفين لكسب حرب التلجرام لصالحه؛ حيث يقول المؤرخ ومترجم الدعاية الحربية الروسية؛ الدكتور إيان غارنر: “أصبحت منصة تلجرام ساحة معركة رئيسية في حرب المعلومات، ومن المثير للدهشة أن حرب المعلومات هذه تدور على منصة تمتلكها شركة خاصة”.
ولم يعد فريق زيلنسكي غريبًا عن تطبيق تليجرام، حيث اعتمد مستشاروه على التطبيق خلال حملته للفوز بالانتخابات الرئاسيّة سنة 2019، واستخدموه لاستقطاب وتنظيم المتطوعين وغالبًا ما نشروا من خلاله أخبارًا حصرية، وفجأة حين وجب قيادة الجهود الرقمية في الحرب، اعتمد المسؤولون على البنية التحتية السابقة لتنسيق أحدث الأخبار، وجمع التبرعات، واستقطاب المتطوعين الإلكترونيين والمحاربين الأجانب.
وقال ميخايلو فيدروف، وزير التحوّل الرقمي في أوكرانيا، متحدثًا عن التطبيق في مقابلة لصحيفة تايم 12 آذار/مارس : ” يمكننا القول بأنه موطننا”، مضيفًا: “عندما اندلعت الحرب؛ عدنا إلى تليجرام وتذكرنا كل ما نعرفه، لذا فإننا نعمل بنجاح”.
وحوّلت الحكومة الأوكرانية قناتها الرسميّة المخصصة لأخبار كوفيد 19 على تليجرام إلى قناة لآخر الأخبار عن الحرب وتبث على مدار الساعة؛ حيث تمت إعادة تسمية القناة باسم “أوكرانيا الآن”، كما أدّى هذا المجهود إلى حصد أكثر من 3 ملايين متابع عبر القنوات التي تتحدّث بالأوكرانيّة والروسيّة والإنجليزية، واستعان فريق فيدروف بالتطبيق لتجنيد “جيش إلكتروني” يبلغ عدده 300000 متطوع من المتخصصين بالأمن السيبراني، بحسب ما روى للتايم.
من الصعب تقدير أعداد الروس الذين يسعون للحصول على أخبار مستقلة عن الحرب من التلجرام، كما يصعب أيضًا تحديد أعداد الداعمين للإعلام الروسي بعد انتقالهم إلى التطبيق عقب حظر فيس بوك وتويتر.
ويستخدم زيلينسكي التطبيق لنشر فيديوهات شخصيّة وغير رسميّة غالبًا ما يتم تصويرها عبر الهاتف، وخلال ثلاثة أسابيع ازداد عدد متابعيه بشكل كبير من 65 ألف متابع يوم 23 شباط/ فبراير إلى أكثر من 1.5 مليون متابع من حول العالم.
بل وتوصل المسؤولون الأوكرانيون إلى مجموعة من الاستخدامات العمليّة للتطبيق؛ حيث تمتلك معظم المدن والبلدات إضافة إلى المسؤولين المحليين قنوات خاصة بهم، وبذلك تطلعهم السلطات على التحذيرات بالغارات الجويّة وخرائط الملاجئ الآمنة ونصائح السلامة للتعرُّف على المخربين الروس.
وهذه ليست الطريقة التي يحصل بها المسؤولون الأوكرانيون على المعلومات فحسب، وإنما يزودهم المواطنون بالمعلومات كذلك؛ حيث يمكنهم إبلاغ المسؤولين بتفاصيل حركات القوات الروسيّة ومدرعاتها من خلال بوت التلجرام التي تنقل المعلومات إلى السلطات الوطنية والإقليميّة الأوكرانيّة، وفي الثامن من آذار/ مارس؛ قالت الوكالة الأمنيّة الأوكرانية إن هذه الطريقة في نقل المعلومات مكنتهم من الهجوم بنجاح على المركبات الروسيّة خارج كييف، وأفادت تغريدة للوكالة الأمنيّة أن: “رسائلكم عن حركة العدو من خلال شات بوت الرسمي… تحقق لنا انتصارات جديدة في كل يوم”.
واستخدم الأوكرانيون التلجرام في محاولة منهم لسبق الآلة الإعلاميّة الروسيّة من خلال تحذير الناس من الروايات الكاذبة – بأن القوات الأوكرانيّة تستسلم أو أن زيلينسكي فر من كييف – قبل التبيُّن من مصدر الخبر، ودعا المركز الأوكراني لمكافحة المعلومات المضللة، وهو جزء من مجلس الأمن والدفاع القومي، عامة المواطنين إلى “الالتحاق بجبهة المعلومات”.
ونشر المركز على قناته على التلجرام يوم 27 شباط/ فبراير: “بينما يرد دفاعنا هجمات المحتلين، يبث إرهابيو الإعلام الروسي صورة تختلف عن الحقيقة”، وأضاف: “على الأوكرانيين أن يتحدوا اليوم وأن يتواصلوا مع أقاربهم ومعارفهم وأصدقائهم في روسيا وأن يزودوهم برابط قناة التلجرام”.
ولم تقل أهمية التطبيق عن ذلك عند الروس، وبما أن التلجرام واسع الانتشار في روسيا منذ فترة طويلة، قاد الغزو والتفكك الإعلامي اللاحق له ملايين من المستخدمين المتعطشين لمعرفة الأخبار إلى التطبيق، وأظهر تحليل لـ 187 قناة إخبارية تتحدث بالروسيّة، قامت به شركة لوجيكالي التقنية التي تكافح المعلومات المضللة ومركزها المملكة المتحدة، أن عدد المشتركين في تلك القنوات ازداد بنسبة 48% منذ 24 شباط/فبراير ليصل بحدود 8 ملايين متابع.
تلجرام قناة تتدفق من خلالها التفاصيل الحقيقية التي تتناقض مع روايات موسكو التي يتحكم بها الكرملين عن كثب في روسيا
ومن الصعب تقدير أعداد الروس الذين يسعون للحصول على أخبار مستقلة عن الحرب من التلجرام، كما يصعب أيضًا تحديد أعداد الداعمين للإعلام الروسي بعد انتقالهم إلى التطبيق عقب حظر فيس بوك وتويتر.
وتستخدم المعارضة الروسية التطبيق أيضًا؛ فقد كان التطبيق ذا أهميّة بالغة في تنظيم المظاهرات البيلاروسية ضد حليف بوتين ألكسندر لوكاشينكو في عام 2020، ومع ذلك لا يُرجَّح أن الحكومة الروسية ستقوم بحظر التطبيق ثانية؛ حيث أنها حاولت من قبل وفشلت، فيما يقول غارنر إن “الحكومة الروسية تحتاج إلى التلجرام”، مضيفًا: “تتعرض مواقعهم الإخبارية باستمرار للقرصنة والتعطُّل والانقطاعات المستمرة… لذلك فإنهم يطلبون من الناس متابعتهم على التلجرام للحصول على الأخبار”.
وخلال الحرب على أوكرانيا؛ اتبعت الحسابات الموالية للروس السيمفونية المعروفة عن طريق إغراق التلجرام بالمعلومات المضللة والبوت، كما وظّفوا حديثًا شخصيات مزيفة كـ”مراسلي حرب” من خلال ترسانة من القنوات الصديقة للكرملين والمتخفية بصفة تقديم التقارير الموضوعية؛ حيث تنشر قناة روسية تدعى “الحرب على الكذب”، التي تتظاهر بأنها خدمة لتقصي الحقائق حول الصراع في أوكرانيا، معلومات مضللة ودعاية لجمهورها المتزايد الذي وصل إلى أكثر من 630 ألف متابع، وعندما حظر تطبيق التلجرام حسابات وسائل الإعلام الحكومية الروسية الرسمية للمستخدمين في الاتحاد الأوروبي امتثالًا للقيود الجديدة؛ استخدم الروس ببساطة قنوات “mirror” التي يصعب تتبعها، حسبما أفاد جوردان ويلدون، رئيس المحللين في شركة لوجيكالي.
وفي الوقت ذاته؛ فإن تلجرام قناة تتدفق من خلالها التفاصيل الحقيقية التي تتناقض مع روايات موسكو التي يتحكم بها الكرملين عن كثب في روسيا، فقد قال غارنر: “هذه الروايات التي لا تأتي من أي مصدر إعلامي حكومي تتسرب حتى إلى مشاهدي وسائل الإعلام التقليدية”، وأضاف: “مما يعني أنه عليهم متابعة الأخبار من التلجرام”.
المصدر: تايم