ترجمة وتحرير: نون بوست
لم يسلم الكثير من مدينة حمص القديمة والأحياء المحيطة بها بعد تعرضها للقصف، وما تبقى منها مجرد مبانٍ رمادية حيث يكسو الغبار كل شيء، لجأ إليها مقاتلو المعارضة السورية في محاولة للبقاء على قيد الحياة.
يعتقد الكثيرون أن اتفاق وقف إطلاق النار يمنح فرصًا متكافئة لكلا الخصمين لأخذ هدنة من القتال. لكن هذا لم يكن حال حمص السورية. ففي نيسان/ أبريل 2014، كان الهدف من وقف إطلاق النار الذي فرضه النظام والممرات الإنسانية والإنذارات النهائية هو إظهار النفوذ الذي اكتسبه نظام الأسد من خلال القوة الساحقة لطائراته ومدفعيته ضد معارضين يدافعون عن أنفسهم بأسلحة خفيفة. في الأسبوع الأول من أيار/ مايو، وصلت قوافل حافلات لنقل ما تبقى من المتمردين إلى أجزاء أخرى من سوريا وعادت حمص تحت سيطرة النظام.
لا تعد المشاهد التي تُعرض الآن من مدينة ماريوبول الأوكرانية مفاجئة بالنسبة لنا. لم يتدخل الروس رسميًا في الحرب السورية حتى أيلول/ سبتمبر 2015، لكن وسائل الإعلام ركزت كثيرًا على ذلك التاريخ. وقع تدريب الجيش السوري على يد السوفيت وقد عمل عن كثب مع روسيا منذ عقود، بما في ذلك خلال المراحل الأولى من الحرب الأهلية.
تعلم السوريون دروسًا من معركة غروزني في الشيشان. وفي الحرب الحالية، تعلم الجنرالات الروس بلا شك من الممارسات الوحشية التي سُلطت على حمص ثم حلب في سنة 2016 وتليها ضواحي دمشق في سنة 2018.
لكن هناك اختلافات بين الحرب السورية والأوكرانية. لم تتمكن روسيا بعد من تحقيق سيطرتها الكاملة على سماء أوكرانيا كما فعلت في سوريا. ولعل أبرز أوجه التشابه بين الحربين هو اكتفاء القوى الغربية بالتنديد بالتدخل العسكري الروسي في كلا الحالتين من خلال فرض منطقة حظر طيران – وذلك مهما كانت متعاطفة مع أولئك الذين يقاتلون الروس وحلفائهم.
لم يكن الأسد متأكدًا من مدى استعداد القوى الغربية للتدخل في سوريا، ولكن قبل تورّطه في أوكرانيا كان بوتين مدركًا لهذه الحقيقة مسبقًا. ربما يكون قد فشل في السيطرة على كييف بسرعة، بيد أنه يستطيع الآن محاصرة البلدات والمدن الأوكرانية وقصف المدنيين، تمامًا كما حدث في سوريا، وكله يقين من أنه سيفلت هذه المرة أيضًا من العقاب ولن يحرك حلف الناتو ساكنًا. فهل ستكون المقاومة في جميع المدن الأوكرانية مستميتة مثل ماريوبول، لدرجة تدفع بوتين إلى استخدام الأسلحة الكيماوية كما فعل الأسد؟
بوتين لم يتنصل من المسؤولية أو يعاقب الأسد على استخدامها أو يشتكي من أن سوريا لم تعترف أبدًا بامتلاك أسلحة كيميائية. كان من الصعب عليه القيام بذلك
لا يزال عدد الهجمات التي استخدم فيها الأسد غاز السارين والكلور ومواد كيميائية أخرى ضد شعبه موضوعًا مثيرًا للجدل. حققت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية التابعة للأمم المتحدة في عشرات المزاعم ولكن تم تغيير شروط عملها بشكل متكرر. ونتيجة لذلك، لم تُوجّه اتهامات مباشرة إلى الأسد في كثير من الحالات، بما في ذلك هجوم غاز السارين الأخطر على الإطلاق الذي أودى بحياة المئات وربما أكثر من ألف شخص في الغوطة الشرقية في آب/ أغسطس 2013.
توضح التقارير أنه لا يمكن أن تكون جهة أخرى مسؤولةً عن هذه الهجمات. سجلت الدراسة الأكثر شمولاً التي أجراها المعهد العالمي للسياسات العامة في برلين 336 استخدامًا “مثبتًا بمصداقية” للأسلحة الكيميائية، 98 في المئة نفذها النظام السوري، والباقي من قبل تنظيم الدولة.
يوم الإثنين، حذّر الرئيس الأمريكي جو بايدن من أن الرئيس الروسي قد يلجأ إلى التكتيكات ذاتها، مشيرًا إلى أن بوتين وجيشه “في وضعية سيئة ستدفعه لذلك من أجل تجنب الفشل”. وأضاف بايدن “إنهم يزعمون أيضًا أن أوكرانيا تمتلك أسلحة بيولوجية وكيماوية وهذا ما يدل على أنه يخطط لاستخدام كلا السلاحين”.
إلى أي مدى يمكن تحميل روسيا مسؤولية استخدام الأسد لغاز السارين والكلور؟ إنه أمر قابل للنقاش في ظل غياب أي إشارة أو دليل يثبت أن الطائرات الروسية هي التي نشرتها، لاسيما أن الدبلوماسيين الروس هم الذين تفاوضوا على الصفقة التي تم بموجبها تسليم معظم مخزون سوريا إلى منظمة حظر الأسلحة الكيميائية بعد هجوم الغوطة.
الحرب على أوكرانيا تعد اختبارًا حاسمًا للخطاب السياسي الأمريكي. فعندما كان بايدن نائبًا لأوباما آنذاك، شهد كيف تجاوز أوباما الخطوط الحمراء من خلال التوعّد بالتدخل في سوريا إذا استخدم الأسد أسلحة كيميائية ليتراجع عن ذلك فيما بعد
لكن بوتين لم يتنصل من المسؤولية أو يعاقب الأسد على استخدامها أو يشتكي من أن سوريا لم تعترف أبدًا بامتلاك أسلحة كيميائية. كان من الصعب عليه القيام بذلك. ففي نهاية المطاف، كان الخبراء الروس هم الذين دربوا العلماء والجيش السوري على تصنيعها واستخدامها، وأخفوا ذلك لعقود.
ربما كان الدور الذي لعبته روسيا في أعقاب تلك الهجمات أكثر أهمية من مجرد تدريب السوريين. منذ صباح هجوم الغوطة، حاولت وسائل الإعلام الناطقة بالروسية والسياسيون الروس، بمن فيهم وزير الخارجية سيرغي لافروف، توجيه أصابع الاتهام للثوار.
لم يتمكن الغرب من فهم مضمون رسالة الروس الخفية خلال السنوات الخمس التالية، لم يتمكنوا أبدًا من معرفة ما إذا كان الثوار قد زيّفوا الحقائق المتعلقة بهذا الهجوم بأكملها أم أنهم استخدموا في الواقع أسلحة كيميائية ضد زوجاتهم وأطفالهم. لكن تأثير التدفق الهائل للمعلومات المضللة على القنوات الإعلامية الحكومية الناطقة باللغة الإنجليزية مثل “RT” وعلى وسائل التواصل الاجتماعي بدعم من الأكاديميين والكتاب من الدوائر اليمينية واليسارية في الغرب، أربك الرأي العام الدولي والطبيعة الحقيقية لنظام الأسد – وروسيا نفسها.
قد يكون هذا هو السبب في تحذير بايدن وبقية حلفائه خلال مناسبات عديدة من الاستخدام الروسي للمواد الكيميائية، دون تقديم أدلة كافية تثبت مدى صحة مزاعمهم. منذ عشرينيات القرن الماضي، تجنبت روسيا إلى حد كبير استخدام هذه الأسلحة في ساحات الحروب التي خاضتها على الرغم من أنها لم تتوان عن استخدامها في الاغتيالات.
إن الحرب على أوكرانيا تعد اختبارًا حاسمًا للخطاب السياسي الأمريكي. فعندما كان بايدن نائبًا لأوباما آنذاك، شهد كيف تجاوز أوباما الخطوط الحمراء من خلال التوعّد بالتدخل في سوريا إذا استخدم الأسد أسلحة كيميائية ليتراجع عن ذلك فيما بعد، وكيف ساهم ذلك في تدني شعبيته ومصداقية الحزب الديمقراطي لصالح الأحزاب اليمينية المتطرفة ودونالد ترامب. ومن خلال توجيه الاتهامات أولاً لبوتين، يظهر بايدن أنه لن يسمح بتكرار السيناريو ذاته مرة أخرى.
المصدر: ذا تايمز