وجّه الرئيس التونسي قيس سعيّد أنظاره في البداية إلى البرلمان ومن ثم إلى القضاء بهدف السيطرة على السلطة التشريعية والقضائية، وها هو الآن يتوجه نحو الإعلام، إذ أثبتت مؤشرات عديدة أن سعيّد يسعى لضرب الاعلام والتنكيل بالصحفيين، ما جعل نقابة الصحفيين التونسيين تقرُّ إضرابًا عامًّا في المؤسسات الإعلامية العمومية.
تضييق على الصحافة
في الوقت الذي نكتب فيه هذه الكلمات، يُحال 3 صحفيين أمام القطب القضائي لمكافحة الإرهاب، أحدهم، وهو خليفة القاسمي، موقوف منذ أيام، والاثنان الآخران، وهما حسين الدبابي وأمل المناعي، في حالة سراح (بسبب رفضه الكشف عن مصدر الخبر) استنادًا لقانون مكافحة الإرهاب، بعد أن نشر الصحفي خليفة القاسمي خبرًا على موقع إذاعة “موزييك إف إم” الخاصة على الإنترنت، يتعلق بتفكيك “خلية إرهابية” وتوقيف عناصرها، وفيهم عسكري سابق وأستاذ جامعي.
وقبل يومَين تمَّ إيقاف مصورَين صحفيَّين يعملان لفائدة موقع “نواة”، أثناء تصوير فيديو تعريفي يتعلق بالتحرك الاحتجاجي المرتقب تنظيمه يوم 31 مارس/ آذار الحالي، والمتعلق بحملة “تعلم عوم” الخاصة بوفاة مشجّع النادي الأفريقي لكرة القدم عمر العبيدي أثناء مطاردته من طرف قوات الأمن.
بالتزامن مع ذلك، دخل صحافيو “التلفزة الوطنية التونسية” منذ مساء الاثنين في اعتصام مفتوح، “من أجل الدفاع عن استقلالية الخط التحريري للمؤسسة باعتبارها مرفقًا عموميًّا وعن حقوقهم المشروعة، في مواجهة المضايقات التي يتعرضون لها والضرب المعلن للحق النقابي”.
حتّم هذا الوضع على النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين تنظيم وقفات احتجاجية تنديدًا واحتجاجًا على ما وصلت إليه الصحافة التونسية
أفاد بيان للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، الثلاثاء، بأن هذا القرار يأتي بعد “انعدام التفاعل الجدّي والمسؤول، سواء من ممثل الحكومة المكلَّف بملف الإعلام وزير الشؤون الاجتماعية، أو من قبل المكلَّفة بتسيير المؤسسة”، رغم التحركات التي شملت وقفة احتجاجية وحمل الشارة الحمراء منذ 11 مارس/ آذار الحالي.
هذا ما حدث هذا الأسبوع فقط، ناهيك عن التضييقات الممارسة منذ أشهر ضد الصحفيين أثناء عملهم الميداني، والضغط الممارَس على المؤسسات الإعلامية العمومية والخاصة حتى لا تستضيف وجوهًا معارِضة لنظام سعيّد، والاعتقالات التي حصلت قبل فترة في صفوف الصحفيين وتواصل اعتقال البعض منهم استنادًا لقانون الإرهاب رغم أن الصحفي يحاسب وفق قانون الصحافة والمرسوم 115، إلى جانب تكريس خطابات تحريضية ضد الصحفيين.
فضلًا عن غلق مكتب “الجزيرة” بتونس وغلق شركة “إنستالينغو” وإحالة عدد من الصحفيين العاملين فيها إلى التحقيق بتهم تتعلق بالتجسس، إلى جانب مصادرة هواتف عدة صحفيين وإلزام المسؤولين الحكوميين على عدم التصريح لأي مؤسسة إعلامية دون الرجوع للمركز، وهو ما يُهدد حق الصحفي في النفاذ إلى المعلومة والتواصل مع الجمهور بأريحية.
إلى جانب ذلك، عرفت الأشهر الماضية إغلاق أبواب القصر أمام الصحفيين ووسائل الإعلام، وفتحه فقط أمام مريدي قيس سعيّد وأغلب من عمل معه خلال حملته التفسيرية التي قدّم بها نفسه للتونسيين، لذلك أصبحت الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية والصفحات الموالية له تقريبًا هي مصدر المعلومة الوحيد.
منذ شهر أغسطس/ آب الماضي، استثنت البرامج الحوارية على القناة الوطنية كل من يشكِّك علنًا في مسار الرئيس قيس سعيّد، ولم تستضف أي شخص ممن يصفون ما قام به بـ”الانقلاب”، أو ممن يشكِّكون في مشروع الرئيس.
حتّم هذا الوضع على النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين تنظيم وقفات احتجاجية تنديدًا واحتجاجًا على ما وصلت إليه الصحافة التونسية، كما أقرت النقابة إضرابًا عامًّا وطنيًّا في 2 أبريل/ نيسان المقبل، في مؤسسات الإعلام الرسمي (مؤسسة التلفزة التونسية، ومؤسسة الإذاعة التونسية، ووكالة تونس أفريقيا للأنباء، والشركة الجديدة للطباعة والصحافة والنشر سنيب – لابراس).
إصرار سعيّد على ضرب الإعلام
يُفهم من هذا وجود تمشٍّ واضح من قبل قيس سعيّد وحاشيته للسيطرة على الإعلام، ما يعني أن الحريات الصحفية في تونس ستتراجع إلى الوراء، فسعيّد يعتمد سياسة العودة إلى الوراء حتى يتصدّر الإعلام، وتمّت ملاحظة هذا في تعامله مع مؤسسات الإعلام التونسية، من ذلك التلفزة الوطنية الرسمية التي فُرض عليها عدم إجراء حوارات سياسية وتصدُّر نشاطه النشرات الإخبارية للقناة.
منحت الثورة التونسية الحرية للصحفيين ومكّنتهم من العمل بأريحية، فرغم بعض العراقيل التي وُضعت أمامهم من قبل بعض الماسكين بزمام الحكم ورجال الأعمال والأمنيين والنقابيين، أصبحت الصحافة التونسية خلال السنوات العشرة التي أعقبت الثورة نوعًا ما حرة في علاقتها بالسلطة والسياسة.
لكن بعد انقلاب قيس سعيّد ليلة 25 يوليو/ تموز الماضي على الدستور ومؤسسات الدولة الشرعية وفرض سيطرته على كل مؤسسات الحكم والسلط في البلاد، تغيّر الوضع لأسوأ ممّا كان عليه زمن زين العابدين بن علي.
مطلع هذا الأسبوع وصف نائب المدير التنفيذي لمنظمة “هيومن رايتس ووتش” الحقوقية في قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إريك غولدستين، التلفزيون العمومي بـ”ساحة معركة جديدة”، مشيرًا إلى أن الرئيس التونسي قيس سعيّد “شرع في تفكيك الرقابة المؤسساتية على حكمه منذ استحواذه على السلطة في يوليو/ تموز، ولا عجب أنّ التلفزيون العمومي ضمن أهدافه”.
تؤكد الصحفية التونسية خولة السليتي إصرار سعيّد على ضرب الإعلام، وتقول خولة لـ”نون بوست” إن “الأمر في البداية كان عن طريق أسلوب متخفٍّ وذلك من خلال رفض الرئيس الحضور الإعلامي والاقتصار على صفحة فيسبوك لإعلام التونسيين بنشاط قيس سعيّد، فضلًا عن إقصاء الصحفيين من الحضور في الندوات الصحفية ومرافقة الرئيس في مهامه الرسمية الخارجية، لكن بعد قرارات 25 يوليو/ تموز الماضي أصبح كل شيء واضحًا وعلنيًّا”.
لا وجود للإعلام في برنامج الرئيس
المطّلع على برنامج الرئيس يرى ألّا وجود لمصطلح استقلالية الإعلام، فتمشّيه في هذا الشأن يؤكد وجود توجُّه واضح لإرساء إعلام السلطة وتحول السلطة الرابعة إلى خادم مطيع يسير في فلك الرئيس، يحرص على التحكم في أفكار الناس وتوجيههم وفق أهواء الرئيس.
تقول الصحفية آمنة اليفرني في هذا الصدد إن “الإعلام من الأجسام الوسيطة التي لا يؤمن بها سعيّد، فهو يؤمن بأنَّ تواصله مع الشعب يكون دون وسائط، لذلك لا مكان للإعلام في برنامجه الذي يسعى لتطبيقه في تونس منذ وصوله إلى السلطة في أكتوبر/ تشرين الأول 2019”.
يرى سعيّد والمحيطون به أن السيطرة على الإعلام بشتى الطرق كفيلة بالسيطرة على الرأي العام في تونس
تضيف اليفرني في حديثها مع “نون بوست”: “عملَ سعيّد منذ 25 يوليو/ تموز على تدجين الإعلام، خاصة المؤسسات التي اختارت تسمية الأسماء بمسمّياتها والحفاظ على الحرية التي اكتسبتها بعد الثورة، فهو يريد إعلام الصوت واللون الواحد خدمة لمشروعه الغامض الذي يبشِّر به منذ فترة”.
توسيع دائرة السيطرة
بدورها ترى خولة السليتي أن “الصحافة التونسية في طور التغيير وفق رؤية الرئيس للمهنة، فهو على خطى كل سلطة في التعدي على الحقوق والحريات والسيطرة على وسائل الإعلام، قصد إقصاء المنافسين عن منابر الإعلام وبثّ رؤيته فقط دون سواه”.
من جهته، يعتقد الصحفي التونسي كريم البوعلي أن “هجوم السلطة القائمة في تونس ضد الإعلام مردّه الرغبة في السيطرة على السلطة الرابعة بعد سيطرة سعيّد على السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية، فسعيّد يسعى لتوسيع دائرة السلطة التي يحكم قبضته عليها”.
يتابع البوعلي في حديثه لـ”نون بوست”: “بعد السيطرة على التلفزة العمومية، يسعى سعيد للسيطرة على باقي المؤسسات الإعلامية التي بقيت محافظة على الحد الأدنى من التنوع وتقديم الرأي والرأي الآخر في برامجها”.
هدفه من وراء ذلك، وفق محدّثنا، “تدجين القطاع الإعلامي وخنق الصحفيين وتكريس الرأي الواحد في وقت تحتاج فيه تونس للتعدد والتنوع وتشريك كل الأطراف في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ تونس، لبحث سبل الخروج من الأزمات التي تعيش على وقعها البلاد منذ فترة”.
يرى سعيّد والمحيطون به أن السيطرة على الإعلام بشتى الطرق كفيلة بالسيطرة على الرأي العام في تونس، خاصة بعد فشلهم في كسب الفضاء العام لصالحهم واتّساع رقعة المناهضين لانقلاب سعيّد على دستور البلاد.