ترجمة وتحرير: نون بوست
بعد شهر من الغزو الروسي على أوكرانيا، تحرّكت الدول الأوروبية لتعزيز منظومتها الدفاعية. ووسط مخاوف من اندلاع حرب واسعة النطاق بعد 77 سنة، تعمل الحكومات على زيادة إنفاقها العسكري ورفع مستوى التأهب والجهوزية وإرسال وحدات عسكرية لحماية الحدود الشرقية للناتو. لكن كل هذه الإجراءات تفتقر إلى توجيه واستراتيجية واضحة طالما أن الحكومات من باريس إلى برلين عالقة في أساطيرها الساذجة عن الاتحاد الأوروبي كقوة عسكرية.
أصرّت باريس ـ على وجه الخصوص ـ على أن يُولّى الاتحاد الأوروبي زمام السيطرة على المجال الدفاعي لأوروبا بدلًا من الناتو، الذي يعتبره الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون “ميتًا دماغيًا”. في بروكسل، يستغل مسؤولو الاتحاد الأوروبي “اليقظة الجيوسياسية” في أوروبا لتبرير مزيد التركيز على السياسة الأمنية بهدف إنشاء جيش أوروبي مُوحّد يسيطر عليه المجلس الأوروبي من خلال تصويت الأغلبية المؤهلة. وقد حفّز هذا المخطط المبادرات الدفاعية الأخيرة للاتحاد الأوروبي – مثل صندوق الدفاع الأوروبي بقيمة 9 مليارات دولار ومختلف المشاريع الدفاعية الصغيرة – المبنية على فكرة أن الهياكل العسكرية الفيدرالية للاتحاد الأوروبي ستضمن قدرًا أكبر من الأمن.
يجادل أنصار ما يسمى بـ “اتحاد الدفاع الأوروبي” بأنه سيسمح للدول الأعضاء بحشد قدراتها الوطنية والتغلب على الازدواجية غير الفعّالة ومعالجة الفوارق في مجال المشتريات العسكرية. ويرون أن تشكيل نظام دفاعي مشترك للاتحاد الأوروبي من شأنه أن يحمي أوروبا في حال انتخب الأمريكيون رئيسًا غير وديّ أو انعزالي بدلاً من الإدارة الأمريكية الحالية المنفتحة على العالم.
تجلّت نقاط ضعف الاتحاد الأوروبي بشكل واضح قبل بضعة أسابيع في قمة المجلس الأوروبي في فرساي في فرنسا. جلس القادة الأوروبيون داخل قاعة المرايا الفخمة في القصر، وربما استحضروا الأحداث المرتبطة بهذا المكان من قرارات سيئة وغطرسة فرنسية، ليس أقلها فرض تسوية سلام مُعيبة بشكل كارثي بعد الحرب العالمية الأولى. لقد عقدوا قمة فرساي التي أعادت طرح نفس الأفكار المبتذلة حول الحكم الذاتي الاستراتيجي والسيادة الأوروبية التي أعاقت المناقشات الدفاعية الأوروبية لسنوات عديدة.
وبالمثل، كشفت الخطة الاستراتيجية التي تبنّاها الاتحاد الأوروبي في وقت سابق من هذا الأسبوع تناقضًا حادًا بين التصريحات الرنّانة والإنجازات الصغيرة، والتعهّد بضمان “الدفاع عن النظام الأمني الأوروبي”. وتأمل بروكسل أن يكون لديها 5 آلاف جندي تحت الطلب بحلول سنة 2025، لكن هذا العدد الضئيل لا يتماشى مع الواقع الجديد للحرب على حدود الاتحاد الأوروبي. وقد كشفت الوثيقة النهائية للاتحاد مدى تشابهها مع المسودات التي تم تداولها قبل بدء الحرب في 24 شباط/ فبراير.
يتوجّب على القادة الأوروبيين استبعاد هذه المخططات وإعادة التركيز على الاستراتيجية الكبرى والبحث عن أفضل السبل لضمان أمن القارة ضد التهديدات المُحدِقة بها. ولا يمكن القيام بذلك إلا إذا استغل الأوروبيون شراكاتهم الاستراتيجية القائمة وحافظوا على السيادة الوطنية على مجال الدفاع.
كشفت حرب روسيا استعداد الغرب للتصرف بطرق تتعارض مع سياسات الاتحاد الأوروبي كجهة فاعلة أمنية.
أولاً، سيستمر أعضاء الاتحاد الأوروبي في الاعتماد على التعهد الدائم للولايات المتحدة وبريطانيا بحفظ الأمن في أوروبا. خلال الأسابيع القليلة الماضية، كانت الولايات المتحدة وبريطانيا من أوائل الدول التي سارعت إلى تقديم قوات إضافية لتأمين الجناح الشرقي للاتحاد الأوروبي، وتزويد أوكرانيا بأسلحة دفاعية وجمع معلومات استخباراتية عن الحكومة الروسية وعملياتها العسكرية. هذا الأمر يجعل حلف الناتو ـ وليس الاتحاد الأوروبي ـ الذي يعمل أعضاؤه وشركاؤه في تعاون وثيق وراسخ الحصن الأمني والملاذ الأول لأوروبا، وأي خطة أخرى فهي زائفة وربما ساذجة إلى حد خطير.
ثانيًا، سيعتمد أمن أوروبا على قرارات الحكومات الوطنية وليس على هيئات الاتحاد الأوروبي الفيدرالية. وتشمل هذه القرارات خطة ألمانيا التاريخية لتخصيص حوالي 112 مليار دولار لتعزيز منظومتها الدفاعية، وتوفير أسلحة لأوكرانيا من 22 دولة عضو في الاتحاد الأوروبي. ولكن حتى مع تعهد المفوضية الأوروبية بتزويد أوكرانيا بـ 550 مليون دولار من المساعدات العسكرية، إلا إن عمليات التسليم الفعلية ستكون من المخزونات الوطنية التي ستخضع لخيارات كل حكومة. والقرار النهائي للتضحية بأرواح الجنود في الحرب لا يمكن أن يُتخذ إلا من قبل حكومة مسؤولة أمام شعبها.
من غير المنطقي الاعتقاد بأن السياسة الدفاعية الفيدرالية للاتحاد الأوروبي ستكون أفضل من ناحية زيادة الإنفاق أو حشد الموارد أو تعزيز المشتريات الدفاعية من الهياكل الحالية، بما في ذلك الناتو. زادت أوروبا من إنفاقها الدفاعي ثلاثة أضعاف تقريبًا خلال الحرب الباردة دون أي تركيز على الأمن الخارجي، إذ أن إحساسها بوجود تهديد أمني هو ما دفعها لزيادة إنفاقها الدفاعي. وهو ما ستلجأ إليه الآن – ليس لأن الاتحاد الأوروبي لديه سياسة دفاعية وإنما بسبب وجود حرب ساخنة في أوروبا. وحتى معاهدة باريس لسنة 1952 – وهي المحاولة الجادة الوحيدة لإضفاء الطابع الفيدرالي على سياسة الدفاع التي أسست “مجتمع الدفاع الأوروبي” – فشلت بعد أن تراجعت فرنسا وصوتت ضد الاتفاقية التي اقترحتها في البداية.
من المفارقات أن محاولات إضفاء الطابع الفيدرالي على السياسة الدفاعية خلال العقود الثلاثة الماضية ربما ساهمت في تسريع وتيرة الانحدار في الإنفاق الدفاعي الأوروبي مع شعور الحكومات الوطنية بقدرتها على نقل المسؤولية إلى الاتحاد الأوروبي. وقد تمحورت إحدى الحجج الرئيسية للدفاع المركزي في الاتحاد الأوروبي التي طرحتها بروكسل حول توفير التكاليف. ولم تلعب الاعتبارات الاستراتيجية ولا الهدف المتمثل في زيادة القدرات العسكرية أي دور فعلي في النقاشات الأمنية للاتحاد الأوروبي.
السبب الرئيسي لاستمرار فعالية الناتو وأولوياته هو أنه لا يهدف إلى إضفاء المركزية والفيدرالية على السياسة الدفاعية كما يأمل الاتحاد الأوروبي في المبادرات والمؤسسات المختلفة.
فعلى سبيل المثال، فسرت الهيئة الفكرية الداخلية التابعة للبرلمان الأوروبي أن مكاسب الكفاءة في اتحاد الدفاع الأوروبي ستسفر عن خفض التكاليف بقيمة 28 مليار دولار لتصل إلى 143 مليار دولار. وحتى بعد هجوم روسيا في سنة 2014 على أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم، واصلت بروكسل الترويج لهذه التخفيضات الجذرية – حوالي نصف الإنفاق الدفاعي الإجمالي للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي – كجزء من استراتيجية الاتحاد المزعومة. والواقع أن التطلع لخفض الإنفاق الدفاعي بينما يتم الإشادة بتعهدات الناتو أدى إلى مزيد من ضياع الوقت بالإضافة للارتباك السياسي.
إن صندوق تمويل الدفاع الأوروبي، الذي يعزز التعاون بين الدول الأعضاء في الاتحاد، قد يؤدي إلى المزيد من الإنتاج غير الفعال من خلال خلق إعانات جديدة للمشاريع المشتركة التي قد لا تفلح لولاه. إن قواعد الصندوق المالي مسيسة للغاية وتتطلب توزيع الصرف عبر البلدان والشركات التي لا يحدها المنطق العسكري. وعلى أي حال، إن نطاقها الهزلي البالغ مليار دولار سنويا لن يغير من القدرات الأمنية الأوروبية. وأي قضايا قانونية تحيط بها الازدواجية وفورات الحجم، مثل شراء طائرات النقل وغيرها من المعدات رفيعة المستوى، يمكن معالجتها بائتلافات الحكومات الوطنية مع الناتو.
بلورت الحرب الروسية رغبة الغرب في العمل بطرق تتناقض مع الحديث عن الاتحاد الأوروبي باعتباره جهة فاعلة جيوسياسيًا في المجال الأمني. وفي غضون أيام من الهجوم الروسي، بدأ 25 من حلفاء الناتو وشركائه في إرسال الأسلحة المعقدة والمعدات العسكرية لمساعدة أوكرانيا في الدفاع عن نفسها. واستنادًا إلى المخزونات الوطنية، وفرت البلدان أسلحة مضادة للدبابات، وقذائف مضادة للطائرات، ومعدات وقائية، وأسلحة صغيرة، وذخائر. وتدرس هذه البلدان ما إذا كانت ستقدم طائرات مقاتلة لأوكرانيا. وكل هذه القرارات تم تنسيقها مع الناتو وأقرتها الحكومات الوطنية. وهذا النظام الدفاعي الجمعي – الذي تتقدمه الولايات المتحدة – عمل بالطاقة والتوجيهات اللازمة للأزمة.
ماذا سيحدث لو أن السياسة الدفاعية مركزية في الاتحاد الأوروبي؟ كم سيحتاج المجلس الخارجي للاتحاد الأوروبي من اجتماعات قبل أن تتم الموافقة على نفس هذه القرارات بتسليح أوكرانيا؟ هل سينجح الأعضاء الداعمون للكرملين مثل المجر في منع هذه الإجراءات؟ هل كانت الدول لتسمح بأن تحكمها أصوات الأغلبية؟ هل بإمكان الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية مدّ أوكرانيا بالأسلحة بناء على سلطته الخاصة أو إجبار الوزراء الوطنيين على القيام بذلك؟ هل سيشعر المواطنون بمزيد من الأمان في ظل هذا الهيكل البديل لصنع القرار؟
سلطت الحرب الروسية في أوكرانيا الضوء على الدور الرئيسي الذي تضطلع به القوى من خارج الاتحاد الأوروبي مثل الولايات المتحدة وبريطانيا – بشكل مستمر كقوى أوروبية وضامنين أمنيين من الدرجة الأولى
السبب الرئيسي لاستمرار فعالية الناتو وأولوياته هو أنه لا يهدف إلى إضفاء المركزية والفيدرالية على السياسة الدفاعية كما يأمل الاتحاد الأوروبي في المبادرات والمؤسسات المختلفة. وبدلًا من ذلك، لا يتعدى الناتو كونه منبرًا للتداول والتنسيق يخضع للقرارات الوطنية وكثيرًا ما يؤلّف بين الرغبات. وما يهم ليس الساحة بل اللاعبين الأساسيين وقدراتهم.
لا ينبغي لأي من الخطط الكبرى للاتحاد الأوروبي – وبالتأكيد ليس أفكار بروكسيل للتوفير – أن تلهي عن حقيقة أن الدول الأوروبية تحتاج للاستثمار أكثر في قدراتها الوطنية، بما في ذلك الجيش، والطيران، والقوات الجوية، والوحدات الإلكترونية. إنّهم يحتاجون لتشكيل فرق فعّالة بدلًا من مواصلة التشبث الأمل في التوصل إلى حلول فوق وطنية على مستوى الاتحاد الأوروبي. تمتلك أوروبا السلطة الاقتصادية والسبل التكنولوجية اللازمة لتوليد قدرات دفاعية الآن بعد أن أدى العدوان الروسي لتركيز العقول وتوضيح التهديدات.
لا تستطيع أوروبا مواجهة هذا التحدي وحدها، ولا يمكن للولايات المتحدة أن تتصدى للتهديدات والتحديات الناشئة من روسيا والصين بمفردها. إن أوروبا والولايات المتحدة بحاجة لبعضهما البعض وللدول الديمقراطية حول العالم. وهذا التعاون قائم بالفعل: كانت أستراليا من أولى أعضاء الناتو الخارجين الذين قدّموا مساعدات عسكرية لأوكرانيا. وفتحت اليابان أبوابها للاجئين الأوكرانيين. وأيدت كل من طوكيو وكانبرا العقوبات العابرة للأطلسي المفروضة على روسيا.
ماذا لو كانت الإدارة الأمريكية المستقبلية أقل التزامًا بأمن أوروبا من إدارة بايدن؟ ليست هذه قضية يمكن حلها بطريقة سحرية من خلال دفاع فيدرالي عن الاتحاد الأوروبي. قد تُثار المسألة ذاتها بشأن صمود الحكومات الوطنية الأخرى، مثل فرنسا أو ألمانيا. يتمثل الحل الواقعي الوحيد في الدفاع باستمرار عن قضية الأمن المشترك، وبناء القوة الوطنية ومواجهة التحديات المستقبلية كمجموعة. في المقابل، تعد الخيارات ذات الطابع المركزي التي تتخطى الحدود الوطنية مجرد سراب.
سلطت الحرب الروسية في أوكرانيا الضوء على الدور الرئيسي الذي تضطلع به القوى من خارج الاتحاد الأوروبي مثل الولايات المتحدة وبريطانيا – بشكل مستمر كقوى أوروبية وضامنين أمنيين من الدرجة الأولى. كما كشفت عن أهمية الجهود المضاعفة التي تبذلها الحكومات الوطنية لتحدي الدفاع الجماعي. من شأن الاعتراف بهذه الحقيقة الأساسية أن يضع الأمن الأوروبي على الطريق الصحيح ويبعده عن القرارات السياسية العشوائية التي اتخذها في السنوات الأخيرة.
المصدر: فورين بوليسي