مرت أكثر من ثلاثة أسابيع على طرح المبادرة الأممية في ليبيا لفتح مسار جديد وإنقاذ المسار السياسي من الانهيار بعد ما عرفته البلاد من انقسام على خلفية تنصيب مجلس النواب فتحي باشاغا رئيسًا لحكومة جديدة بدلًا من حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة الذي يرفض تسليم السلطة إلا لحكومة تأتي وفق برلمان جديد منتخب.
سجلت هذه المدة الزمنية عدم تفاعل مجلس النواب المنعقد في الشرق مع المبادرة رغم أنها مرتبطة بوقت محدد تم تجاوزه منذ أكثر من أسبوع، ما جعل العديد من الليبيين يتساءلون عن سبب تجاهل مجلس طبرق للمبادرة وما الذي بقي منها.
تفاصيل المبادرة الأممية
طرحت المستشارة الأممية ستيفاني وليامز في 4 مارس/آذار الحاليّ، مبادرةً أمميةً جديدةً لوضع حد للانقسام الحاصل في ليبيا ومنع هذا البلد العربي الواقع في شمال القارة الإفريقية من الانزلاق مجددًا في أتون العنف والفوضى.
تتمثل المبادرة الجديدة في دعوة المجلس الأعلى للدولة (نيابي استشاري) ومجلس النواب إلى اختيار 6 ممثلين عن كل منهما لتشكيل لجنة مشتركة من 12 عضوًا مناصفة بين المجلسين لإعداد قاعدة دستورية، خلال 14 يومًا ابتداءً من 15 مارس/آذار الحاليّ، ما يسمح بتنظيم انتخابات في أقرب وقت.
يُفهم من هذه المبادرة، وجود رغبة أممية لخلق توافق بين مجلسي الدولة والنواب لتعديل الإعلان الدستوري والتحضير للانتخابات، للقطع مع المراحل الانتقالية التي تمر بها ليبيا منذ سقوط نظام معمر القذافي سنة 2011، إثر ثورة شعبية مناهضة له.
جاءت هذه المبادرة بعد شهر ونصف من طرح مجلس النواب خريطة طريق ترتكز على إجراء الاستحقاق الانتخابي خلال مدة لا تتجاوز 14 شهرًا من تاريخ تعديل الإعلان الدستوري، المطلوب لتنفيذ الخريطة.
رغم الضغط الدولي والتلويح بعصا العقوبات، لم يستجب مجلس النواب بعد للمبادرة الأممية
يعني هذا أن الأمم المتحدة أقرت بأن خريطة الطريق التي اعتمدها مجلس النواب المنعقد في طبرق، ليست توافقية خاصة بعد أن تخلى عنها مجلس الدولة تحت ضغط شعبي، كما أنه إقرار من البعثة الأممية بأن خريطة البرلمان لا يمكن لها أن توصل ليبيا إلى انتخابات في أقرب الآجال.
ليس هذا فقط، فالمبادرة الأممية بصيغتها الحاليّة تعني أن الأمم المتحدة لا تعترف ضمنيًا بحكومة وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا التي صادق عليها مجلس النواب في طبرق في وقت سابق خلال شهر فبراير/شباط الماضي، في ظل عدم موافقة مجلس الدولة عليها.
وتأتي هذه المبادرة بعد سنة من انفراج الوضع السياسي في ليبيا وتشكيل سلطة انتقالية منتخبة، تضم حكومة وحدة ومجلسًا رئاسيًا، مهامها قيادة البلاد إلى الانتخابات برعاية الأمم المتحدة، إلا أن هذا الاستقرار كان هشًا وسرعان ما تجددت التوترات في البلاد، جراء خلافات سياسية بين مختلف الأطراف.
وتواجه ليبيا الآن خطر الانقسام مجددًا إثر تنصيب مجلس النواب فتحي باشاغا رئيسًا لحكومة جديدة، بدلًا من الدبيبة الذي يرفض تسليم منصبه إلا لحكومة منتخبة من الشعب، مهددًا باستخدام القوة في حالة محاولة افتكاك مقار الحكومة، بينما أمر باشاغا القوات المساندة له بالتأهب.
القوى الداعمة للمبادرة
لقيت المبادرة الأممية الأخيرة المتعلقة بليبيا ترحيبًا داخليًا وخارجيًا كبيرًا، فبعد يوم واحد من إطلاقها، أصدرت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، بيانًا مشتركًا رحبوا فيه بالمبادرة الأممية، معلنين دعمهم الكامل “للسيادة الليبية وللعملية السياسية التي تسيرها الأمم المتحدة بقيادة وملكية ليبية”.
كما أعربت الدول الخمسة عن دعمها “جهود الوساطة التي تبذلها الأمم المتحدة للحفاظ على الانتقال السلمي للسلطة”، وحثت الدول جميع أصحاب المصلحة الليبيين، بما في ذلك مجلسي النواب والدولة، على التعاون مع هذه الجهود، وفي الخطوات التالية للانتقال على النحو الذي اقترحته الأمم المتحدة.
بدوره أبدى الاتحاد الأوروبي دعمه الكامل للمبادرة الأممية، ودعا التكتل الأوروبي – في بيان له – جميع الجهات السياسية الفاعلة في ليبيا “للامتناع عن اتخاذ إجراءات من شأنها تعميق الانقسامات وتقويض الاستقرار”.
كما حظيت مبادرة وليامز على دعم الرؤساء المشاركين لمجموعة العمل السياسية، التابعة للجنة المتابعة الدولية بشأن ليبيا، التي تضم كلًا من: الجزائر وألمانيا وجامعة الدول العربية والأمم المتحدة، إذ أعرب الرؤساء المشاركون لمجموعة العمل في اجتماع افتراضي، عقد في 15 مارس/آذار، عن دعمهم الكامل لجهود ويليامز.
أما محليًا، فقد رحب رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري بالمبادرة، وقال مجلس الدولة إن مبادرة المستشارة الأممية “استجابة واضحة لمطلب المجلس الذي أقر قاعدة دستورية كاملة في سبتمبر/أيلول الماضي”.
نفس الأمر بالنسبة إلى رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، فقد رحب هو الآخر بالمبادرة الأممية، وقال إنها متضمنة أولوية المضي بالمسار الانتخابي، والبيانات الأوروبية الداعمة لها جاءت منسجمة مع خطة الحكومة لإجراء الانتخابات في يونيو/حزيران المقبل، حتى فتحي باشاغا أعلن ترحيبه بها.
تجاهل مجلس النواب للمبادرة
نلاحظ هنا غياب طرف فاعل عن قائمة المرحبين بالمبادرة الأممية وهو مجلس نواب الشعب، فرغم مضي أكثر من 3 أسابيع على طرح المبادرة، فإن المجلس اِرْتَأَى تجاهلها وعدم الحديث عنها رغم أنها محددة بتاريخ معين.
في الوقت الذي اختار فيه مجلس الدولة أعضاءه في اللجنة المشتركة لإعداد القاعدة الدستورية، تجاهل مجلس النواب اختيار الأعضاء الذين سيمثلونه في اللجنة، رغم مرور الآجال المحددة بـ15 من شهر مارس/آذار الحاليّ.
يخشى العديد من الليبيين أن يؤدي إصرار مجلس طبرق على فرض رؤيته على الجميع إلى محو العملية السياسية برمتها
رغم الضغط الدولي والتلويح بعصا العقوبات، لم يستجب مجلس النواب بعد للمبادرة الأممية، ويصر على تجاهل اختيار ممثليه في لجنة وضع القاعدة الدستورية للانتخابات، وفي الأثناء أصدر 93 نائبًا بيانًا يرفض المبادرة، ويعتبرها “مسارًا موازيًا” للجنة الخبراء (12+12) لتعديل النصوص الخلافية في مشروع الدستور.
يُفهم من هنا أن مجلس عقيلة صالح المنعقد في طبرق غير مكترث بالوصول إلى توافق مع مجلس الدولة بشأن قاعدة دستورية تمهيدًا للانتخابات، وهمه الآن منصب على الإطاحة برئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، وحرمانه من الترشح لأي رئاسيات مقبلة، في ظل تنامي شعبيته واتساع الدعم الدولي له.
تهديد عملية السلام
تجاهل مجلس النواب للمبادرة الأممية من شأنه أن يضعها محل شك وأن يسرّع فشلها، ما يهدد الاستقرار الهش الذي شهدته البلاد منذ تسلم حكومة عبد الحميد الدبيبة مقاليد الحكم في مارس/آذار الماضي.
يعتقد الكاتب الصحفي الليبي طه الشوماني أن مجلس النواب لا يريد إجراء انتخابات، لأن هذا يعني بالضرورة انتهاءه، ويؤكد الشوماني في حديثه لنون بوست أن كل ما يقوم به المجلس بقيادة عقيلة صالح يصب في إطار إطالة أمد المراحل الانتقالية للاستمرار في السلطة، وإنشاء حكومة موازية كان خير دليل على ذلك، وقبل كل هذا كانت صياغته لقوانين معيبة عاملًا أساسيًا في فشل الانتخابات العامة التي كان من المقرر أن تكون في 24 ديسمبر/كانون الأول الماضي.
عاجل | السفير الأمريكي لدى #ليبيا ريتشارد نورلاند يجدد دعمه لمبادرة المستشارة ستيفاني وليامز بشأن إعداد القاعدة الدستورية.
نورلاند: المبادرة الأممية تعد أهم خطوة عملية باتجاه الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي يستحقها الليبيون وينتظرونها.
— عمر السنوسي ?? (@omarsanousi1) March 22, 2022
يشير محدثنا إلى أن تجاهل النواب للمبادرة الأممية سيكرس حقيقة الانقسام السياسي وتشظي مؤسسات الدولة وسيعمق الأزمة بين الأطراف في الشرق والغرب، مضيفًا “نحن نسير إلى سيناريو سنة 2015 بعودة الانقسام الحاد والاصطفاف خصوصًا مع استخدام بعض الأطراف لورقة النفط للضغط وكذلك تلويح بعضهم باستخدام القوة المسلحة، كل ذلك يشير إلى أن الاستقرار لا يزال أمرًا بعيد المنال في ليبيا”.
يخشى العديد من الليبيين أن يؤدي إصرار مجلس طبرق على فرض رؤيته على الجميع إلى محو العملية السياسية برمتها، ما يجعل أحلامهم برؤية بلادهم دولة ديمقراطية تحكمها المؤسسات والقانون لا الميليشيات والأسلحة تتبدد، فأي تأخير في إرساء مؤسسات ديمقراطية منتخَبة تستمد شرعيتها من الشعب، سيؤدي إلى تأزيم الوضع أكثر وفتح الأبواب لحرب أهلية مرتقبة.