في الأسواق الروسية لن توجد بعد الآن الماركات التجارية للجينز، وخاصة Levi’s الأمريكية وباقي الماركات الغربية، التي بدأت واحدة تلو الأخرى توقف نشاطاتها التجارية في هذا البلد، معلنةً انضمامها إلى سلسلة العقوبات الثقيلة المفروضة على روسيا، التي تواصل عبثًا التوغل عسكريًا في أوكرانيا منذ فبراير/شباط 2022.
بالنسبة لأولئك الذين عايشوا الحقبة السوفيتية فإنهم يستعيدون ذكريات ماركات الجينز التي تدخل على صاحبها البهجة والسرور وتجلب له الحسد من طرف أقرانه، عندما كانت مبيعات شركة Levi’s أكثر ربحًا وأكثر المنتجات المرغوب فيها من مواطني اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية، الذين عزلهم الستار الحديدي عن بقية ربوع العالم.
حب من أول نظرة
اقتحم الجينز أول مرة جمهوريات الاتحاد السوفيتي عام 1957 خلال افتتاح المهرجان العالمي للشباب والطلاب في موسكو، كانت تلك هي اللحظة التي رأى فيها الشباب السوفييت هذا النوع من القماش ووقعوا في حبه، بينما ضيوف المهرجان الذين بلغ عددهم 34 ألف شخص من 131 دولة سرعان ما غادروا، ومعهم الجينز كذلك.
لكن ازدهار الجينز في الأسواق السوفيتية كان لا يزال بعيد المنال حينها، فقط فئة من المحظوظين تمكنوا من ارتداء تلك السراويل، بمن فيهم الممثلون الدبلوماسيون والرياضيون والبحارة ومضيفات الطيران.
حتى ستينيات القرن الماضي، كان عموم الشباب السوفييت يرتدون سراويلًا شبيهةً بالجينز تسمى “تكساس”، وإلى حدود الثمانينيات وجد الجينز الأمريكي طريقه لغزو السوق السوفيتية، لكن الأمر لم يكن سهلًا، فقد تم اعتبار “الدنيم” المستورد سلاح إيديولوجي للرأسمالية السيئة، كما هو الشأن بالنسبة لموسيقى “الروك أند رول” وإذاعة “صوت أمريكا”.
يستخدم نسيج “الدنيم” في أمريكا منذ أواخر القرن الثامن عشر، حيث من الشائع صباغته بالنيلة الزرقاء لإنتاج قماش الجينز، الذي لم يكن متاحًا للبيع في المتاجر أو الأسواق العادية بالاتحاد السوفيتي، ولم يكن شراؤه ممكنًا إلا من تجار السوق السوداء والمضاربين الصغار الذين أعادوا بيع السراويل بأسعار جنونية.
إعدام مُضاربين
في عام 1961 تم تنفيذ حكم بالإعدام رميًا بالرصاص على اثنين من المضاربين، بأمر من الرئيس السوفيتي نيكيتا خروتشوف، في قضية تتعلق ببيع الجينز، وكانت آخر الكلمات التي نطقا بها هي: “الجنيز أفضل الملابس”، بعد ذلك شاعت هذه العبارة حتى صارت شعارًا لعشاق هذا القماش الأمريكي الذي تحول إلى أكثر من مجرد لباس عصري في الاتحاد السوفيتي.
علاوة على ذلك، لم يسمح للطلاب الذين يرتدون الجينز بالدخول إلى المدرسة، وفي مؤسسات الدولة وخاصة الإدارات الأساسية، كان ينظر بعين الريبة إلى أولئك الذين وُصفوا بـ”رعاة البقر المحليين”، إلى درجة أن حب هذه السراويل البرجوازية أدى إلى شطب أسماء أشخاص من وظائفهم المستقبلية.
وفقًا لمؤرخة الموضة ميغان فيرتانين، لم يتحول الجينز إلى مجرد سلعة غربية مرموقة في الاتحاد السوفيتي، “لقد صار صنمًا”، تقول المؤرخة: “كان الطلاب على استعداد للعمل في تفريغ عربات البضائع من أجل كسب المال لشراء الجينز”، وفي أواخر سبعينيات القرن الماضي تحدثت صحيفة “ليتراتورنايا” عن انتحار مراهقين بسبب نقص الجينز، وبحلول عام 1984 كتبت مجلة التجارة السوفيتية عن “هوس الجينز” لدى الشباب السوفيتي.
لم يكن من السهل الحصول على الجينز، خاصة من العلامات التجارية “Levi’s” و”Wrangler” و”Lee”، فقد كانت تتراوح أسعاره بين 150 و300 روبل، وهو أكثر من متوسط الدخل الفردي في ذلك الوقت، لذلك كان المراهقون الذين لم يستطيعوا استجداء المال من آبائهم، يعملون طيلة العطلة الصيفية في أسواق الخضار وحصاد الفراولة وغيرها من الوظائف البسيطة التي سُمح لطلاب المدارس بمزاولتها.
احتيال وعجائب
حتى لو تمكنت من جمع المال الكافي، فإن عليك إيجاد الجينز بنفسك، وتلك ليست بالمهمة السهلة، فوفقًا للسيناريو الأسوأ كان من المحتمل أن تتم محاصرة المُشتري من طرف جماعة المحتالين، وعلى سبيل المثال، بعد عملية الشراء يتضح للمشتري أنه حصل على سروال مع ساق واحدة فقط، وتلك كانت من طرق الخداع الأكثر شيوعًا.
لم تكن عملية الشراء صعبة فحسب، بل أيضًا العثور على سراويل على المقاس، لذلك كان الشباب يضطرون إلى خياطته في حالة ما كان الحجم كبيرًا وطويلًا، أما إذا كان قصيرًا، فكانوا يقومون بشده وتمديده، وهناك من الفتيات من صنعن العجائب، حيث دخلن إلى الحمام وقمن بدلك أنفسهن بالصابون، قصد إدخال الجينز الضيق بعناء لا يصدق، ثم تبقى الفتاة ترتديه لأيام ولا تنزعه حتى يبدو ملتصقًا بجسدها مثل القفازات البلاستيكية.
في نهاية الثمانينيات تمكن العديد من مواطني الاتحاد السوفيتي من مغادرة البلاد، وأصبح من السهل شراء العشرات من سراويل الجينز في أوروبا وأمريكا بأثمان معقولة، ومنهم من كان يرجع إلى الوطن ليبيع هذه المنتجات بأسعار باهظة.
بيت من الورق
أوديسا هي مدينة ساحلية ليست بعيدة عن أوروبا، لذلك من المنطقي ظهور أولى ورش العمل المخفية تحت الأرض هناك، حيث كانت تتم حياكة سروايل الجينز من قماش الدنيم الذي تم استيراه سرًا إلى الاتحاد السوفيتي، كما هربت المسامير والأزرار والخيوط والإكسسوارات والأشرطة الضرورية.
نتيجة لذلك لم يختلف كثيرًا جينز أوديسا عن الجينز الغربي من ناحية الجودة، ما دام قد صُنع بأيادي خياطين محترفين، كانوا يحاكون بدقة الجينز الحقيقي، بالتالي لم يكن هناك فارق في السعر بين هذا وذاك.
كان المجتمع السوفيتي حافلًا بالتناقضات، فأفراده الذين وثقوا في الدعاية وخافوا من الجواسيس، في نفس الوقت كانوا يرتدون الجينز الأمريكي “الأفضل في العالم” ويستمعون إلى موسيقى بينك فلويد ويحلمون بالخارج.
كان “الخارج الغامض” موضع حلم كل مواطن في الاتحاد السوفيتي، وفي نفس الوقت مصدر المخاوف والأساطير، ليتحول فيما بعد إلى عالم مألوف، ليس رائعًا بالتأكيد لكنه ليس سيئًا، كما لم يتخيل أي شخص سوفيتي أن البلد العملاق الذي يعيش وفقًا لقوانين الواقع الخاص به، سوف ينهار مثل بيت من الورق.