“أما على المستوى السياسي والأمني فإنه يؤسفنا أن نرى تقلصًا في المساحات السياسية والدبلوماسية لصالح التمدد العسكري والحلول المسلحة، وقد بدأت عسكرة الحلول في التنامي لتصل واحدة من أصعب ذرواتها في العقود الأربع الأخيرة في الحرب الأوكرانية”، بهذه الكلمات افتتح أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني مؤتمر الدوحة بنسخته العشرين تحت شعار “التحول إلى عصر جديد”.
تعتبر هذه النسخة هي الأولى بعد جائحة كورونا، فالجائحة منعت المؤتمر من الانعقاد عامي 2020 و2021، يذكر أنه تم إنشاء منتدى الدوحة عام 2000، وهو منصة للحوار العالمي عن التحديات التي تواجه عالمنا. يشجع منتدى الدوحة على تبادل الأفكار وصياغة السياسات والتوصيات القابلة للتطبيق، وبحسب تعريفه لنفسه يذكر المنتدى على موقعه على الإنترنت أنه “يجمع صانعي السياسات ورؤساء الحكومات والدول وممثلي القطاع الخاص والمجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية، إيمانًا بأن التنوع في الفكر يعزز كيفية التعامل مع التحديات المشتركة”.
وخلال الأعوام الماضية، أصبحت العاصمة القطرية الدوحة، قبلة عالمية لاحتضان المؤتمرات والندوات والمنتديات ذات الصلة بكل الأصعدة السياسية والاقتصادية والشبابية وغير ذلك، الجدير بالذكر أن الدوحة استضافت منذ أسابيع القمة السادسة لمنتدى الدول المصدرة للغاز، ومن المقرر أن تستضيف لاحقًا مؤتمر الأمم المتحدة للبلدان الأقل نموًا، بالإضافة إلى القمم والمؤتمرات العالمية، تساهم الدوحة بعقد اللقاءات التصالحية بين الفرقاء السياسيين من مختلف الدول كما تستضيف الاجتماعات التفاوضية مثلما حصل بين طالبان وأمريكا.
كلمات
بالعودة إلى منتدى الدوحة، فقد افتتح تميم بن حمد أمير قطر النسخة العشرين للمنتدى بقوله: “إن عالم اليوم قد وصل إلى مرحلة مفصلية على المستويات كافة، السياسية والاقتصادية والبيئية والاجتماعية، وهذه المرحلة تتطلب مراجعات جذرية قبل أن يصل العالم إلى حالة من فقدان التوازن”، وأضاف “العصر الجديد الذي نحلم به، هو عصر السلام والأمن والتعايش للجميع، هو عصر العدالة الاجتماعية، العصر الذي يستطيع فيه جميع الناس الوصول إلى احتياجاتهم الأساسية من التعليم والصحة والموارد المائية والعيش بكرامة، ويستطيعون فيه تحقيق أنفسهم وممارسة نمط حياتهم وثقافاتهم”.
كما تحدث عن الحرب الجارية في أوكرانيا وكيف تؤثر سلبًا على العالم قائلًا: “يؤسفنا أن نرى تقلصًا في المساحات السياسية والدبلوماسية لصالح التمدد العسكري والحلول المسلحة، وقد بدأت عسكرة الحلول في التنامي لتصل واحدة من أصعب ذرواتها في العقود الأربع الأخيرة في الحرب الأوكرانية”، بالإضافة إلى معاناة الأوكرانيين فقد ذكّر تميم بن حمد بمعاناة الشعوب الأخرى كمعاناة الشعب الفلسطيني والسوري والأفغاني الذي قال إن المجتمع الدولي فشل بأن ينصفهم.
في سياق الشأن الأوكراني، قال عبد الله شاهد رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة: “نحن جميعًا نشهد الآن الأزمة الإنسانية التي تجري في أوكرانيا هي نتيجة العدوان العسكري الروسي، وأنتهز هذه الفرصة لأؤكد أن هذه المآسي لا مكان لها في عالمنا، وهي تذكرنا بعصر وحشي مضى ووضعناه خلف ظهورنا طوال الـ76 عامًا الماضية”، ولفت إلى أن توقيت انعقاد المنتدى “يأتي في وقت يتسم بالكثير من الهشاشة والضعف وذلك بسبب جائحة كوفيد-19 والنزاعات التي قامت بالتأثير على عالمنا”.
وأشار شاهد إلى أزمات وتحديات في العديد من الدول، “حيث تواجه أفغانستان أزمة إنسانية خطيرة وتضرر اقتصادها بشكل كبير وقطاعها المالي مشلول بالإضافة إلى الجفاف الشديد، وأن الأزمة في إثيوبيا مستمرة، فضلًا عن انحراف التحول السياسي الواعد في السودان عن مساره بعد أن وصل إلى عملية سياسية انتقالية، علاوة على استمرار الأزمة التي تجتاح منطقة الساحل في شمال إفريقيا، كما ما زالت أزمة اليمن مستمرة وهو ما اعتبرته الأمم المتحدة أسوأ أزمة إنسانية في العالم”.
وقد طغى الحديث عن الشأن الأوكراني على جلسات ونقاشات اليوم الأول من المنتدى، وفي السياق أكد وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو “على ضرورة مساعدة الطرفين الروسي والأوكراني لإيجاد طريقة تحفظ ماء الوجه للخروج من الأزمة مع متابعة الضغط على الطرف البادئ بالعدوان”، مشيرًا إلى أن التعدي على السيادة الأوكرانية غير مقبول.
وألمح إلى أن الرئيسين الروسي والأوكراني يتفاوضان بشأن قضايا مهمة وكبيرة من تحت الطاولة، مضيفًا “الحرب الروسية الأوكرانية أثرت كثيرًا على جميع الدول، فارتفعت أسعار الطاقة في العالم، لذلك يجب وقف القتال وسفك الدماء، ووضع إستراتيجية تسهل الوصول لتفاهم وتمهيد الطريق لإجراء حوار”.
بدوره ظهر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عبر تقنية الاتصال المرئي ليخاطب المجتمعين بمنتدى الدوحة، واتهم روسيا بممارسة “الوحشية” ضد بلاده، داعيًا إلى فرض مزيد من العقوبات عليها، وأردف زيلينسكي “روسيا تهددنا باستخدام الأسلحة النووية وتدمير بلادنا وتستهدف مدنيين في ماريوبول وتمنع دخول المساعدات”، كما طالب في كلمته الدول المنتجة للطاقة بزيادة إنتاجها لضمان عدم احتكار روسيا للإنتاج، ودعا إلى ضخ مصادر الطاقة المختلفة للحد من هيمنة روسيا.
سجالات
كما شهد المنتدى سجالات بين المتحاورين، وقد حصلت مناقشة لافتة بين وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان وجوزيب بوريل مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، تناولت موضوع المقارنة بين مدينتي حلب السورية وماريوبول الأوكرانية، فقد كان المفوض الأوروبي يشرح معاناة مدينة ماريوبول الأوكرانية ويؤكد أنها بمثابة حلب السورية بالنسبة لأوروبا، ليرد الوزير السعودي: “حسنًا، حلب هي حلب بالنسبة لنا”، وهنا إشارة للدمار الذي شهدته المدينتان على يد القوات الروسية.
رد المفوض الأوروبي على الوزير السعودي “لكننا الأوروبيون لسنا من فجّر حلب”، ليقابله ابن فرحان بقوله: “لا ليس أنتم لكن تفاعل المجتمع الدولي مع الأزمتين كان مختلفًا”، ونبه وزير الخارجية السعودي إلى أن الطريقة المثلى للتعامل مع هذه الأزمة هي بتعزيز الحوار بين الطرفين للوصول إلى حلٍ سياسي وإنهاء معاناة المدنيين وإيقاف النزاع ومعالجة هذه المسألة بموجب المعايير الدولية والقانون الدولي مع الاحترام الكامل لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي.
جلسات المنتدى
يتضمن المنتدى بنسخته الحاليّة عددًا من الجلسات النقاشية التي تتنازل القضايا ذات الأهمية على مستوى العالم، وعقدت في اليوم الأول جلسة تحت عنوان التحول إلى عصر جديد، حيث “ظهرت الحاجة بعد جائحة كورونا إلى اجتماع القادة وصناع السياسات معًا لتطوير ابتكارات سياسية تهدف إلى إنقاذ معظم الأرواح وتجنب الأضرار الدائمة”، و”تسببت الجائحة بتقلبات استثنائية في جميع مناحي الحياة، محدثة تغيرات واسعة أدت إلى كشف نقاط الضعف والقوة، وتسريع الاتجاهات الحاليّة، وتغيير موازين القوى”.
كما تعقد جلسة تحت عنوان “دور المجتمع الدولي في إدارة تدفقات اللاجئين: سوريا وما بعدها”، حيث يعيش معظم اللاجئين في العالم في البلدان النامية، التي تتحمل عبئًا كبيرًا لا يتناسب مع قدراتها في توفير خدمات الإسكان والتغذية والحماية لهؤلاء السكان المستضعفين، فتستضيف تركيا، على سبيل المثال، غالبية اللاجئين السوريين الذين وصل عددهم إلى 13.5 مليون لاجئ حول العالم، فضلًا عن مئات آلاف اللاجئين وطالبي اللجوء من جنسيات أخرى.
ويشير المنتدى إلى أنه “لطالما سعى الميثاق العالمي للأمم المتحدة بشأن اللاجئين، الذي تم توقيعه عام 2018، إلى تخفيف الضغط على البلدان المضيفة، وتوسيع الوصول إلى الحلول الموجهة للبلدان الثالثة، لكنه خلا من أي بنود ملزمة لتقاسم المسؤولية، لا سيما مع البلدان المتقدمة. ما نوع الأطر التي يمكن أن توفر تقاسمًا عالميًا للمسؤولية أكثر إنصافًا في ظل هذه الظروف؟ وكيف يمكن لواضعي السياسات العمل معًا لتخفيف الضغوط على البلدان المضيفة ودعم الظروف التي تضمن للاجئين والمهجرين عودة آمنة وكريمة إلى بلادهم؟”.
كما انعقدت الجلسات التي تناقش التغير المناخي وأزمة الطاقة، ويخصصُ منتدى الدوحة عدة جلسات لسبر أغوار ظاهرة التغير المناخي، كما يناقش بالتعاون مع مركز أبحاث ستيمسون “أجندة حوكمة المناخ والتعافي الأخضر واسع النطاق من الجائحة”، ومعضلة الطاقة العالمية وأسعارها المتقلبة والدور الذي يمكن أن تلعبه الدول المنتجة لضمان حصول العالم على إمدادات وقود كافية وبأسعار معقولة، فضلًا عن مستقبل الغاز الطبيعي.
إضافة إلى ما سبق، تعقد في المنتدى الذي يختتم عصر اليوم الأحد، ما يقرب من 40 جلسةً يشارك فيها كبار السياسيين وصناع القرار حول العالم، وحضر المنتدى العديد من الشخصيات مثل: فيوسا عثماني رئيسة جمهورية كوسوفو ونجيب ميقاتي رئيس مجلس الوزراء اللبناني ومحمد أشتيه رئيس الوزراء الفلسطيني وأيمن الصفدي نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية الأردني، إضافة إلى جوزيب بوريل الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية ونائب رئيس المفوضية الأوروبية وجون كيري المبعوث الرئاسي الأمريكي الخاص للمناخ وكرستالينا جورجيفا المدير العام لصندوق النقد الدولي ونايف فلاح الحجرف الأمين العام لدول مجلس التعاون الخليجي.
إذًا، ينعقد منتدى الدوحة في نسخته العشرين، وسط أزمات عالمية باتت تنذر بالخطر، حيث شهدت الأعوام الماضية أخطر الأزمات الاقتصادية والسياسية والحروب، فمن جائحة كورونا إلى أزمة المناخ والتضخم وليس آخرها الغزو الروسي لأوكرانيا، ولا نعرف ما القادم، ويحاول المنتدى أن يضع خريطة طريق يكون فيها العالم أكثر أمنًا واستقرارًا عبر استقراء آراء صناع القراء والخبراء والإعلاميين، لكن هل يستطيع المنتدى أن يحول ما يدور فيه إلى ترجمات على أرض الواقع؟