في 26 مارس/آذار 2015 أعلن الناطق باسم الجيش السوداني سابقًا، الصوارمي خالد سعد، مشاركة السودان رسميًا في “عاصفة الحزم” لدعم قوات التحالف بقيادة السعودية في حربها ضد الحوثيين باليمن، وفي منتصف أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام كشف الرئيس المعزول عمر البشير عن وصول أول دفعة من الجيش إلى ميناء عدن، لافتًا حينها أن عددها لا يتجاوز لواء واحد من المشاة.
سبع سنوات مرت على إعلان مشاركة القوات السودانية إلى جانب قوات التحالف في اليمن، وسط انتقادات سياسية وشعبية متصاعدة منذ ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018، تتهم السلطات السودانية بارتهان المؤسسة العسكرية للإرادة الخليجية، تحقيقًا لمكاسب اقتصادية وسياسية مؤقتة.
تكبدت القوات السوادنية العديد من الخسائر منذ مشاركتها في تلك الحرب التي دفعت البعض لوصف الجيش الوطني بـ”المرتزقة”، لكن يبقى التساؤل: هل المكاسب التي حصلت عليها البلاد تتناسب والثمن الباهظ الذي دفعته جراء تلك المشاركة؟ وهل تصب تلك المكاسب في صالح الدولة أم في صالح حفنة من الجنرالات، سماسرة الحروب والسياسة معًا؟
بداية.. لماذا وافق البشير؟
تعرض السودان لهزة اقتصادية عنيفة عقب انفصال جنوب السودان عام 2011، إذ فقد بتلك الخطوة ثلاثة أرباع عائداته النفطية التي يسيطر الجنوب على معظمها، تزامن ذلك مع ارتفاع معدلات البطالة وتراجع مستوى العملة المحلية، فضلًا عن القفزة في مناسيب التضخم والعجز في الموازنة.
وبالتزامن مع ذلك واجهت البلاد ضغوطات أمنية وسياسية هائلة، جراء نشاط الجماعات المسلحة في دارفور، والقلق الذي أحدثته بعض القبائل في الشرق، والصراع السياسي بين النخب اليسارية والإسلامية، فضلًا عن العقوبات الدولية التي كانت مفروضة على البلاد ووضع اسمها على قوائم الإرهاب، ما أحدث حالة من العزلة الكاملة لها عن الساحة العالمية.
في تلك الأثناء وجد البشير الانخراط في حرب اليمن فرصةً جيدةً للحصول على مساعدات مالية من دول الخليج، فضلًا عن توظيف علاقتها الجيدة بالولايات المتحدة للتوسط من أجل رفع اسم بلاده من قائمة الدول الراعية للإرهاب، كذلك رفع العقوبات الاقتصادية ومعالجة ديونه المتراكمة.
في أعقاب ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 تصاعدت الأصوات التي تطالب بسحب القوات السودانية من اليمن والتحرر نسبيًا عن التبعية الخليجية في القرار السياسي
30 ألف سوداني في اليمن
في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 أعلن قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، نائب رئيس المجلس السيادي، أن عدد القوات السودانية التي شاركت في اليمن بلغ ثلاثين ألف جندي، معظمهم من قوات الدعم السريع، فيما أشارت “نيويورك تايمز” أن 40% من الجنود المشاركة في سن صغيرة، بين 14 و17 عامًا، يتم تدريبهم على المناطق الحدودية مع السعودية وتأهيلهم للقتال والبقاء في اليمن أطول فترة ممكنة.
وكانت المهام الموكلة لتلك القوات المقسمة إلى وحدات (500 – 750 مقاتلًا في الوحدة الواحدة) القيام بعمليات برية في الساحل الغربي، فيما تنتشر أربعة ألوية على الحدود اليمنية السعودية، وتتولى حراسة القواعد الإماراتية في جنوب اليمن، هذا بجانب تمركز بعض القوات في تعز والحديدة ولحج وحجة وصعدة، ولها حضور قوي في الهجمات البرية التي تقوم بها قوات التحالف في الجنوب.
وتنقسم رواتب الجنود السودانيين طبقًا لرواتبهم العسكرية، إذ كان يحصل ضباط الجنجويد المتمرسين على راتب قيمته 530 دولارًا شهريًا فيما كان الجنود يحصلون على 480 دولارًا، وكانت هناك وعود بحصول المقاتل على 10 آلاف دولار بعد 6 أشهر من مشاركته في العمليات العسكرية بحسب تقارير إعلامية.
وفي سبتمبر/أيلول 2018، اعترف حميدتي لأول مرة بحجم الخسائر في صفوف القوات السوادنية المشاركة، حين أعلن مقتل 412 جنديًا سودانيًا، بينهم 14 ضابطًا، فيما أعلن المتحدث باسم القوات المسلحة الحوثية، العميد يحيى سريع، أنه خلال خمس سنوات من الحرب على اليمن “بلغ عدد الضحايا من القوات السودانية 8 آلاف بينهم 4253 قتيلًا”، لافتًا أن “القوات السودانية الموجودة داخل اليمن تعتبر أهدافًا مشروعة لنيراننا”.
الانسحاب التدريجي
في أعقاب ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 تصاعدت الأصوات التي تطالب بسحب القوات السودانية من اليمن والتحرر نسبيًا عن التبعية الخليجية في القرار السياسي، وتعززت الضغوط بتولي حكومة مدنية السلطة الانتقالية إلى جانب جنرالات الجيش السوداني.
وكان من تبعات هذا الضغط أن أعلن رئيس الوزراء السوداني السابق عبد الله حمدوك، في 8 ديسمبر/كانون الأول 2020، تقليص قوات بلاده في اليمن إلى 5 آلاف مقاتل، وكان الناطق باسم قوات الدعم السريع التابعة إلى الجيش السوداني العميد جمال جمعة، في 14 يناير/كانون الثاني من العام ذاته قد أعلن بقاء مجموعة بسيطة من القوات السودانية داخل الأراضي اليمنية، لافتًا أن تلك القوات تعمل ضمن قطاعين: الأول قطاع في عدن والثاني القطاع السعودي الذي يتمحور على الحدود السعودية-اليمنية، التي تسيطر عليها جماعة الحوثي.
قرئ هذا الانسحاب التدريجي للقوات السودانية على أنه استجابة للتطورات التي شهدتها الساحة، داخليًا عبر الثورة السودانية وسقوط نظام البشير، والثاني التوجه السعودي الإماراتي العام لتخفيف حجم التحالف داخل اليمن استجابة للضغوط الدولية التي تندد بالانتهاكات الإنسانية جراء تلك الحرب.
غير أن هذا الانسحاب لا يعني بالضرورة تخلي السلطة الجنرالية السودانية الجديدة عن دعمها الكامل للخطاب السعودي الإماراتي في اليمن، الذي امتد جغرافيًا إلى القارة الإفريقية، حيث مساعي تمدد النفوذ الخليجي في مواجهة نظيره الإيراني والغربي في بعض المناطق الإستراتيجية لا سيما القرن الإفريقي.
المكاسب الأبرز من وراء الزج بالجنود السودانيين للقتال في اليمن كانت من نصيب الجنرالات، حيث الدعم المطلق لكل من البرهان وحميدتي، ليصبحا على التوالي الرجلين الأول والثاني في حكم السودان
حميدتي.. سمسار المرتزقة الأبرز
من أكثر الأسماء التي فرضت نفسها كأذرع للرياض وأبو ظبي سواء في اليمن أم الداخل السوداني والإفريقي، الفريق عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة الحاليّ، كذلك الفريق الركن عماد مصطفى عدوي رئيس هيئة الأركان السودانية، غير أن الاسم الأبرز حضورًا كان قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان حميدتي.
في يوليو/تموز 2020 نشر “نون بوست” تقريرًا تحت عنوان “حميدتي.. سمسار أبناء زايد لتجنيد المرتزقة السودانيين”، أثبت فيه بالأدلة كيف كان حميدتي ذراع ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، للحصول على خدمات آلاف المرتزقة من المقاتلين ذوي الكفاءة القتالية العالية، لدعم القوات الإماراتية سواء في اليمن أم في ليبيا حيث دعم مليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر.
التقرير أشار إلى أن اختيار حميدتي تحديدًا لم يكن عشوائيًا، فللرجل سجل كبير كـ”سمسار مرتزقة”، فقبل انخراطه بالعملية السياسية، وهو الانخراط الذي جاء مصادفة وبهوى ومزاج عمر البشير، كانت تربط تاجر الإبل علاقات وثيقة بالمليشيات المسلحة في بلاده، لذا وقع عليه الاختيار قديمًا وحديثًا وربما يكون مستقبلًا.
مكاسب السودان.. الجنرالات الرابح الأول
على المستوى الاقتصادي حصل السودان على حزمة مساعدات مادية من الخليج نظير مشاركة بعض قواته إلى جانب التحالف في اليمن، غير أن تلك المساعدات لم تصل بعد إلى المستوى المأمول الذي كان يمني به السودانيون أنفسهم، لا سيما أن جنودهم كانوا في الصفوف الأولى في مواجهة الحوثيين.
وبعد الثورة حاولت العواصم الخليجية التقرب إلى السلطة الانتقالية الجديدة، التي لم تكن بالطبع جديدةً على الخليجيين، فالبرهان وحميدتي كلاهما كان على صلة وثيقة بولي عهد السعودية وأبو ظبي، كونهما كانا في طليعة القادة العسكريين الداعمين لخطوة المشاركة في حرب اليمن.
وبعد تولي حمدوك رئاسة الحكومة المدنية في سبتمبر/أيلول 2019 بدأ الحديث عن وساطة سعودية لرفع اسم السودان من قوائم الإرهاب، وبالفعل تمت الصفقة بنجاح، حيث رفع اسم البلاد لأول مرة منذ 20 عامًا، وجُمدت بعض الديون الخارجية، هذا بجانب إنهاء حالة العزلة الاقتصادية عبر إعادة تعامل المؤسسات المالية العالمية مع الخرطوم مرة أخرى.
غير أن تلك المكاسب التي يروج لها البعض على أنها مقابل الدعم العسكري السوداني للدول الخليجية في اليمن، كانت نظير خطوة التطبيع مع دولة الاحتلال، التي دفعت إليها أبو ظبي، في إطار موجة التطبيع التي شهدها عام 2020 وشملت الإمارات والبحرين والمغرب مع السودان.
وعليه فإن المكاسب الأبرز من وراء الزج بالجنود السودانيين للقتال في اليمن كانت من نصيب الجنرالات، حيث الدعم المطلق لكل من البرهان وحميدتي، ليصبحا على التوالي الرجلين الأول والثاني في حكم السودان، رغم الخلافات الأيديولوجية القوية بينهما وابتعادهما عن بورصة الترشيحات بالمرة عند انطلاق الثورة.
زيارات مكوكية قام بها البرهان للرياض وأبو ظبي، تزامنت مع أخرى قام بها حميدتي الذي تفوق على رئيس مجلس السيادة بتعزيز حضوره الاقتصادي عبر تهريب الذهب للإمارات، ودعم خزانته في مقابل سمسرة المرتزقة الذين أوفدهم لليمن وليبيا، وقيل مؤخرًا روسيا، وهو ما أثقل قوة وكيان قوات الدعم السريع التي تتفوق اليوم على الجيش الرسمي بإمكانياتها المالية الكبيرة وتنظيمها القوي وولائها التام لحميدتي مقارنة بموقف الجيش من البرهان.
وفي الأخير يمكن القول إنه بعد 7 سنوات من مشاركة القوات السودانية في حرب اليمن، لم تحقق البلاد أي مكاسب تذكر قياسًا بالثمن الذي قدمته من قرارها السيادي واستقلاليتها الوطنية فضلًا عن المئات ممن لقوا حتفهم على أيدي الحوثيين، ليحصد الجنرالات وحدهم جوائز تلك المشاركة المتمثلة في دعمهم السياسي والمالي وبقائهم على رأس هرم السلطة الحاليّة رغم الانتقادات الشعبية الكبيرة والحراك الثوري الذي لم يهدأ طيلة السنوات الثلاثة الأخيرة.