حين تحررت محافظة إدلب، قبل 7 أعوام بالتمام، منحتنا ننحن السوريين التواقين للحرية دفعة أمل كبيرة، خاصة أن تحرير، مدينة إدلب، مركز المحافظة، كان قد جرى في ذكرى انطلاق الثورة السورية الرابعة. حينها كانت الثورة في أوجها تحقق الانتصارات وتسيطر فصائلنا على مساحات شاسعة من الجغرافيا السورية.
لم يكن يعلم أهل إدلب في ذلك الوقت أن مدينتهم ستكون محور الاهتمام الإقليمي والدولي بعد أن كانت منسية، فقد عانت طوال عقود من التهميش الجغرافي حيث حرم حافظ الأسد المدينة من أن تكون على مسارات الطرق الرئيسية الدولية، بالإضافة إلى تهميشها اقتصاديًا وتنمويًا وتعليميًا وسياسيًا.
لكنها أصبحت اليوم أمّ السوريين المهجرين والنازحين، ومأواهم وسندهم.
إدلب المنسية
في ذاكرة السوريين تُعرف إدلب بـ”المدينة المنسية”، ويرجع ذلك إلى موقف بطولي قابل به أهالي المدينة حافظ الأسد أثناء زيارته للمدينة أيام كان رئيسًا للوزراء في السبعينات، حين استقبلوه بالطماطم والأحذية، كان الأسد الأب حينها في جولة بقصد كسب ولاء الشعب هناك لمناصرته حينما يتسلم الحكم، لم يستطع الأسد نسيان ذلك لإدلب، بل إنّ هذه الحادثة جعلت إدلب عقدةً في رأس الأسد حتى إنه لم يزرها بعد ذلك أبدًا.
ثم ما زاد من النقمة الأسدية على المدينة أن أحد الذين حاولوا اغتيال حافظ الأسد عام 1980 كان ينحدر من مدينة كفرنبل التابعة لمحافظة إدلب، كما أن مناطق تابعة لإدلب كانت ضمن انتفاضة الثمانينيات على حكمه، ويذكر السوريون بكل أسى مجزرة جسر الشغور التي ارتكبها ضباط الأسد، حين دمروا وقتلوا ونهبوا المدينة بعد مظاهرات جرت في إدلب وحلب وحماة وأريحا ومعرة النعمان، ودفعت حينها فاتورةً كبيرةً من القتلى والمعتقلين والمفقودين والمهجرين قسريًا.
منذ ذلك الحين، همّش الأسد الأب ومن بعده ابنه بشار المدينة وأهلها، فعمدا إلى ضرب اقتصادها عبر إهمالها جغرافيًا حيث لم تكن المحافظة ومركزها قريبين من الطرق الرئيسية، ما جعلها لا تمتلك أسواقًا تجذب الناس إليها، إضافة إلى ذلك أنه لم يكن هناك اهتمام حكومي بالزراعة في المدينة، ما دفع أهالي المناطق إلى الاهتمام بالأراضي والسدود وشبكات الري.
ثم إن المدينة كانت خارج خطة التنمية الاجتماعية السوريّة، إذ منعها النظام الأسدي من إقامة المشاريع التنموية أو حتى الاستثمارية، أضف إلى ذلك تهميشها تعليميًا، فكان الأسد يتقصد خلق حالة من التخلف بين أبناء المدينة، حتى جامعة إدلب كانت تعتبر فرعًا من فروع جامعة حلب، أي أن الشهادة التي تمنحها تكون ممهورةً باسم جامعة حلب.
إدلب على طريق التحرر
عام 2011 لم تتوان إدلب عن الالتحاق بركب الثورة السورية منذ اندلاعها، بل وكانت من أوائل المدن التي انتفضت ضد حكم الأسد وأشعلت فتيل الثورة في الشمال السوري، وتعد محافظة إدلب ببلداتها وقراها الرئيسية، مثل جسر الشغور وأريحا وسراقب ومعرة النعمان وخان شيخون وجبل الأربعين، من أوائل المدن والبلدات المنتفضة على نظام الأسد بعد اندلاع الشرارة الأولى للثورة السورية في مارس/آذار 2011، فلقد شهدت خروج مظاهرات عديدة بدأت في جسر الشغور ثم امتدت إلى سائر المناطق.
إثر القمع الشديد التأمت فصائل المقاومة الثورية ضمن فصائل الجيش الحر للدفاع عن الثورة وأهلها ضد إجرام وبطش بشار الأسد، وبدأت المعارك في المناطق بين أخذ ورد حتى أعلنت الفصائل التابعة للمعارضة السورية المنضوية تحت مسمى “جيش الفتح” تحرير مركز محافظة إدلب بالكامل في مثل هذا اليوم 28 مارس/آذار 2015، ثم اكتمل تحرير كل أركان المحافظة في 9 سبتمبر/أيلول من ذات العام.
بعد أن استقرت أحوال المدينة بعد التحرر من قبضة نظام الأسد، بدأت الفصائل تتناحر فيما بينها في معركة بسط نفوذ مروّعة، وكانت المساحة الجغرافية التي سيطرت عليها الفصائل كبيرة، بعد ذلك تمكنت “جبهة النصرة” من فرض سيطرتها على مفاصل المحافظة ثم تبدلت سياستها تدريجيًا، فأعلنت انفكاكها عن تنظيم القاعدة وغيرت اسمها إلى “فتح الشام” ثم إلى “هيئة تحرير الشام”.
شكلت “هيئة تحرير الشام” تحالفًا مع بعض الفصائل ومحت فصائل أخرى عن الوجود في مسعى منها لفرض وحدة تحكم وسيطرة على المحافظة، لتغدو بذلك القوة الكبرى وشبه الوحيدة فيها، فيما خرجت الفصائل الأخرى إلى ريف حلب حيث توجد فصائل الجيش الوطني المدعومة من تركيا، ومنذ أن أحكمت هيئة تحرير الشام قبضتها على مدينة إدلب، سارعت إلى تشكيل حكومة مدنية تحت اسم “حكومة الإنقاذ” برئاسة محمد الشيخ عميد جامعة إدلب الحرة، لتتولى إدارة الملفات المدنية.
معارك
لم يكن النظام قد استغنى عن المنطقة أبدًا، لكنه ترك القتال لأجل استردادها شهورًا، فقد تفرغ للعمل على مناطق أخرى في ريف دمشق وحلب ودرعا وريف حمص، حيث فتح معاركه مع روسيا والميليشيات الطائفية لاسترداد المناطق التي خرجت عن سيطرته، وبدأ مسلسل التغيير الديغرافي والتهجير القسري، وكانت سياسته تبدأ بحصار المناطق ومن ثم اتباع سياسة الأرض المحروقة وارتكاب المجازر ومن ثم يفاوض على تهجير الموجودين في المدن للخروج إلى إدلب وإما استمرار الحصار والقتال والمجازر.
أصبحت إدلب والمدن التابعة لها موئلًا لمئات آلاف المهجرين قسريًا من أنحاء سوريا كافة، حتى إنها باتت سوريا مصغرة، ومنذ عام 2016 تصاعدت حدّة التهجير إليها، حتى بات يقطنها أكثر من 3 ملايين بين مقيم ونازح، لتغدو تحت دائرة الاهتمام الدولي إنسانيًا وسياسيًا وتنمويًا، فهذه المحافظة باتت تستقبل أكثر عدد من النازحين المعارضين لسلطة الأسد ولديهم احتياجات إنسانية واقتصادية.
تفرغ جيش الأسد وروسيا والميليشيات الطائفية من أجل معركة إدلب، خصوصًا بعد سيطرة جيش الأسد على أحياء حلب وباتت إدلب عقدته الكبرى، فتوجهت إليها الجحافل العسكرية، لتصبح المدينة مهددة بالمجازر والتنكيل في وقت كانت فيه الملاذ الأخير للنازحين، فلم يعد هناك مكان إلا خارج سوريا، لكن الحدود مغلقة.
في يناير/كانون الثاني 2018، بدأت قوات النظام السوري بدعم روسي عملية عسكرية للسيطرة على منطقة شرق سكة الحجاز الممتدة على أرياف حلب وإدلب وحماة، علمًا بأن هذه المناطق تخضع لمذكرة خفض التصعيد الرابعة التي توصل إليها الجانبان الروسي والتركي في 15 سبتمبر/أيلول 2017، ثم فرض النظام السوري سيطرته الكاملة على المنطقة واتجه إلى طريق دمشق – حلب الدولي.
بعد سيطرتها على منطقة شرق السكة أمنت قوات الأسد نقطة انطلاق عسكرية باتجاه عمق محافظة إدلب، حيث انطلقت من خلالها إلى بلدات ريف إدلب الجنوبي، وبالفعل سيطرت قوات النظام السوري على ريف حماة الشمالي ومدينة خان شيخون بريف إدلب الجنوبي، بعد مواجهات مع المعارضة المسلحة في أغسطس/آب عام 2019، بعد ذلك تمكنت قوات النظام من السيطرة على آخر بلدة في ريف حماة الشمالي وهي بلدة مورك، ليخضع بذلك كامل الريف الشمالي الحموي لسيطرة قوات النظام للمرة الأولى منذ عام 2012.
أكملت قوات النظام والميليشيات الموالية لها تقدمها نحو ريف إدلب الجنوبي حيث سيطر النظام السوري بدعم من المقاتلات الروسية على مدينة معرة النعمان، كبرى مدن ريف إدلب الجنوبي، كما سيطر على جبل شحشبو وسراقب وكفرنبل بريف إدلب وعندان وحريتان والعيس وغيرها من مناطق ريف حلب، وأنهى هجماته بالسيطرة على الطريق الدولي دمشق – حلب بالكامل، وتوقفت العمليات العسكرية بتوقيع اتفاق موسكو، في 5 مارس/آذار الماضي، بين أردوغان وبوتين، وقضى بوقف إطلاق النار وتسيير دوريات مشتركة على طريق حلب – اللاذقية (M4).
اتفاقيات
بالتوازي مع ذلك، كانت روسيا وتركيا تعملان على اتفاقيات من أجل إدلب، فاتفقت تركيا وروسيا وإيران خلال اجتماعات أستانة التي وقعت في مايو/أيار 2017 على مناطق خفض تصعيد في سوريا من ضمنها إدلب وريفها، كما أقروا تسيير دوريات تركية ونشر نقاط مراقبة للجيش التركي في إدلب، وبدأ ذلك في أكتوبر/تشرين الأول 2017.
انتشرت نقاط المراقبة التركية على ريفي حلب الغربي وإدلب إضافةً إلى ريف حماة الشمالي، وهي قلعة سمعان والشيخ عقيل وجبل عندان والعيس والراشدين بريف حلب الغربي، والصرمان وتل الطوقان بريف إدلب الجنوبي الشرقي، وجبل اشتبرق التابع لجسر الشغور بريف إدلب الغربي، وصلوة في ريفها الشمالي، ومورك والعريمة بريف حماة الشمالي، والزيتونة في جبل التركمان بريف اللاذقية الشرقي.
لكن معارك النظام عملت على تعطيل هذه النقاط، فلم تعر روسيا والنظام للاتفاقيات أي اهتمام واستمرا في عملياتهما، وحاصرا بعض النقاط التركية، ما أدى إلى انسحابها من أماكنها.
إثر معارك خان شيخون وريف حماة توصل الرئيسان بوتين وأردوغان بعد لقاء جمعهما في منتجع سوتشي، إلى اتفاق يقضي بإقامة منطقة منزوعة السلاح بمحافظة إدلب، وقال الرئيس الروسي حينها: “قررنا إقامة منطقة منزوعة السلاح بعرض يتراوح بين 15 و20 كيلومترًا على طول خط التماس”، مضيفًا “وحدات من الجيش التركي والشرطة العسكرية الروسية ستسيطر على هذه المنطقة المنزوعة السلاح”.
الاتفاقية السابقة لم توفر الأمان لمدينة إدلب، فالنظام السوري وحلفاؤه بدأوا بالتقدم نحو إدلب وسيطروا على العديد من المدن المحيطة كما ذكرنا، إثر ذلك تدخل الجيش التركي بقوة كبيرة في المنطقة لإيقاف التقدم وكان ذلك وفقًا للاتفاق السابق بينه وبين روسيا، وعمل على إجبار النظام على العودة إلى خطوط تسوية 2018.
لكن المعارك لم تتوقف إلا بعد أن توصل الرئيسان التركي والروسي، إلى اتفاق جديد لوقف إطلاق النار في مناطق التماس بإدلب ونص الاتفاق على إنشاء ممر آمن بطول 6 كيلومترات على الطريق الدولي “إم 4″، ويتضمن الاتفاق إنشاء ممر للمساعدات على الطريق “إم 4” بإشراف وزارتي الدفاع التركية والروسية، ومنذ ذلك الوقت توقفت المعارك، لكن النظام ما زال حتى اليوم يقصف المناطق ويستهدف السكان الآمنين.
تلم إدلب اليوم شمل سوريا، أمًا وأرضًا وحضنًا وسكنًا، تقاتل على جبهات كثيرة، وتواصل مقارعة النظام الوحشي الذي همشها قديمًا ويحاصرها ويعزلها اليوم.. تشق طريقها نحو نور الحرية بكثير من الأمل والإصرار والعزيمة، تستثمر في سكانها الجدد من النازحين وتستلهم مهاراتهم وحرفهم وصنائعهم لتطور اقتصاداتها وعمرانها ومجتمعاتها.. تكبر بهم ويكبرون بها.