اختتمت القمة السداسية التي استضافتها دولة الاحتلال في منطقة النقب المحتلة (جنوب)، والتي شارك فيها 4 وزراء خارجية عرب (مصر والإمارات والمغرب والبحرين)، بالإضافة إلى وزيرَي خارجية “إسرائيل” والولايات المتحدة؛ أعمالَها بعد وقت قصير من انطلاقها، بحسب هيئة البث الإسرائيلية الرسمية.
وناقش المشاركون في القمة التي عُقدت على مدار يومَين، الأحد والاثنين 27 و28 مارس/ آذار الجاري، في فندق “إسروتيل كيدما” (منزل وضريح رئيس الوزراء الإسرائيلي المؤسِّس لـ”إسرائيل” دافيد بن غوريون) بقرية سديه بوكير، العديد من القضايا أبرزها الحرب الروسية الأوكرانية والاتفاق النووي الإيراني، فيما وصفها رئيس وزراء الاحتلال، نفتالي بينيت، بأنها “يوم تاريخي”.
وعلى مائدة عشاء موسَّعة، ضمّت لحمًا اُصطيد من جبال الجولان، وطبق أرز “بن غوريون”، وكعكًا مقدسيًّا، وشوربة خرشوف القدس، تبادل المجتمعون الابتسامات والضحكات التي غطّت على أصوات الرصاص والقذائف التي تطلقها قوات الاحتلال الإسرائيلي على سكان النقب من أبناء الشعب الفلسطيني والمناطق المجاورة لها، لكنها في الوقت ذاته لم تثنِهم عن التنديد بالهجوم الذي وقع أمس في مدينة الخضيرة وأسفر عن مقتل شرطيَّين وإصابة 3 آخرين، حيث قال وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة إن “وجودنا هنا هو أفضل ردّ على الهجوم”.
وشهدت القمة غياب الحضور الفلسطيني والأردني، فيما التحقت مصر في الساعات الأخيرة، إذ لم تكن على جدول الأعمال حين تمَّ الإعلان لأول مرة عن القمة يوم الجمعة 25 مارس/ آذار، غير أنها أُضيفت في اليوم التالي بحسب تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية.
دلالة التوقيت والمكان
تعدّ قمة النقب هي الثالثة خلال الأيام الخمسة الأخيرة، حيث سبقتها قمة مماثلة في مدينة العقبة الأردنية جمعت الرئيس المصري وولي عهد أبوظبي ورئيس الوزراء العراقي، وذلك بعد أيام قليلة من الاجتماع الثلاثي الذي شهدته مدينة شرم الشيخ بحضور عبد الفتاح السيسي ومحمد بن زايد وبينيت.
وقبل ذلك كانت الزيارة التي قام بها رئيس النظام السوري بشار الأسد إلى الإمارات، بعد 11 عامًا من ثورة السوريين على حكمه، في خطوة اعتبرها البعض إيذانًا وتتويجًا في آن واحد لتحركات أبوظبي التطبيعية التي تقوم بها منذ عام 2019 وحتى اليوم، وقيادتها لمحور التطبيع العربي الإسرائيلي.
وعلى مستوى التوقيت، تتزامن القمة العربية الأمريكية الإسرائيلية مع ذكرى توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية بالولايات المتحدة في 26 مارس/ آذار 1979، ووقّع عليها الرئيس المصري آنذاك أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي حينها مناحم بيغن، بحضور الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر.
وفي السياق ذاته، يتزاحم هذا الحراك الدبلوماسي التطبيعي مع الذكرى الـ 46 ليوم الأرض المقرَّرة يوم 30 مارس/ آذار، حيث يحيي الفلسطينيون تلك المناسبة التي تفضح عنصرية الاحتلال وخطته الممنهجة لتهجير أصحاب الأرض من النقب والبلدات العربية المستوطنة، وتهميش الأسر العربية هناك في إطار استراتيجية “الأسرلة”.
كل هذا يأتي في وقت تشهد فيه النقب منذ بداية العام الحالي عمليات تجريف للأراضي ومصادرتها وهدم المنازل وتهجير العائلات وطردهم خارج مناطق إيوائهم، هذا بخلاف الموافقة على بناء 5 مستوطنات جديدة لليهود فقط في بعض مناطق شمال المدينة المحتلة، بعد موافقة حكومة الاحتلال على اقتراح رئيس الوزراء ووزيرة الداخلية ووزير البناء والإسكان، وفق صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية.
وكان موقع “ميدل إيست آي” البريطاني قد ذكر في تقرير له، نشره الاثنين 31 يناير/ كانون الثاني 2021، سجلّات تاريخية إسرائيلية اُكتشفت حديثًا، تفضح جهود دولة الاحتلال لإخلاء الأراضي الفلسطينية من سكانها البدو في النقب خلال خمسينيات القرن الماضي، لافتًا إلى أن القوات المحتلة هدمت قرية العراقيب 197 مرة واستولت على أراضيها، في ظل إصرار الفلسطينيين على مقاضاة حكومة تل أبيب أمام المحاكم بشأن هذه القضية.
كما أن اختيار منزل أول رئيس وزراء لدولة الاحتلال، لإقامة اللقاء بداخله، بعدما تحول إلى فندق، وعلى بعد أمتار قليلة من مقبرته، يعكس دلالة رمزية واضحة بشأن التسليم بوجود دولة الاحتلال بشكل رسمي، والاعتراف بانتهاكاتها بحقّ الشعب الفلسطيني والتقرير بكافة سياساته، بعد سنوات من الغموض المخيِّم على الموقف الرسمي العربي إزاء فكرة الاعتراف بتل أبيب، لما تمثّله هذه الخطوة من تجريف للقضية الفلسطينية في أحد أبرز محاورها، وممّا لا شكّ فيه أن الحكومة الإسرائيلية تعي تلك الدلالات جيدًا، كذلك المشاركين في القمة، حتى إن لم يقرّوا بذلك بشكل علني.
وزراء خارجية أربع دول عربية سيأتون في آن واحد لحضور قمة النقب اليوم في منطقة شجرة البقار “سديه بوكير” التي كانت تابعة لقبيلة عرب العزازمة قبل أن يقوم الاحتلال بعمليات طرد وتهجير للقبيلة بين عامي 1949_1954.
حيث هجر الاحتلال خلال هذه الفترة أكثر من ٦٢٠٠ فلسطيني من+
#قمة_النقب pic.twitter.com/Y0hyPBG911
— محمد الحناجرة ? (@hanjori11) March 27, 2022
شرعية الاحتلال
يبدو أن “قمة النقب” الحالية، وكواليسها التي تناقلتها وسائل الإعلام العبرية والعربية والعالمية، والصور الملتقطة للمشاركين على مائدة واحدة، تعدّ المؤشر الأقوى على أن دولة الاحتلال بدأت بجني ثمار اتفاقيات التطبيع التي أبرمتها مع الرباعي “الإمارات والبحرين والمغرب والسودان” قبل عامَين.
يرى الكاتب العبري دافيد هوروفيتس، في مقال له بصحيفة “تايمز أوف إسرائيل”، أن السرعة التي تمَّ بها ترتيب القمة والموقع الحافل بالتاريخ، وقائمة المشاركين المتزايدة، تعدّ “تأكيدًا رمزيًّا إضافيًّا لشرعية “إسرائيل” وأهميتها الإقليمية من قبل الشركاء في “اتفاقيات إبراهيم””.
ويعتبر أن الشركاء الجدد لدولة الاحتلال سيعلمون الآن معًا بشكل أكثر ارتباطًا وقوة ممّا سبق، “وذلك ببساطة لأنهم مضطرون إلى ذلك” على حد قوله، منوّهًا أن السعودية ورغم عدم مشاركتها في تلك القمة إلا أنها “ستحضر بروحها وقوتها من وراء الكواليس”، كاشفًا أن الرياض وتل أبيب لديهما تعاون استخباراتي ومعلوماتي قوي رغم أنهما ليستا حليفتَين بصورة رسمية.
الاحتفاء الذي قوبل به هذا اللقاء من الإعلام العبري وبعض الإعلام العربي، يعكس رغبة مكبوتة لدى شركاء تل أبيب الجدد في الاعتراف رسميًّا بـ”إسرائيل” ودورها الإقليمي والدولي المتنامي مؤخرًا، حتى لو كان ذلك عبر السير على جثث وأشلاء القضية الفلسطينية التي يبدو أنها سقطت بشكل كبير من قائمة أولويات العرب، أو بالأحرى الأنظمة والحكومات.
Foreign ministers entering their work meeting at #Negev_Summit. History in the making.
????????????#פסגת_הנגב #قمة_النقب pic.twitter.com/ic4X7Cgbpo
— Tomer Bar-Lavi (@TBarLavi) March 28, 2022
ناتو عربي إسرائيلي
انتقدت الفصائل الفلسطينية مشاركة وزراء خارجية الدول العربية الأربعة في تلك القمة، معتبرة ذلك سلوكًا يتناقض مع مواقف ومصالح الأمة الرافضة للتطبيع، حسبما أشار البيان الصادر عن حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، التي استهجنت قبول الوزراء الأربعة حضور هذا الاجتماع، في الوقت الذي قالت فيه إن أرض النقب تتعرّض لـ”أبشع أنواع الاستيطان والتهويد لمقدّساتنا الإسلامية والمسيحية، ويمارَس بحقّ شعبنا صنوف الاضطهاد والإرهاب والقتل والتهجير”.
فيما وصفت حركة الجهاد الإسلامي الاجتماع بأنه “يعكس ضياع الهوية العربية لكل أولئك الذين ارتضوا أن يكونوا جزءًا من مشروع التطبيع مع العدو”، لافتة في بيان على لسان مسؤول المكتب الإعلامي داوود شهاب، أنه “من حق كل الشعوب العربية أن تسأل: هل لهذا الحد يجهل وزراء الخارجية العرب حقيقة وطبيعة الصراع الدائر في النقب، فيشاركون في اجتماع يستضيفه الاحتلال على أرض النقب المهدَّدة بالتهويد واقتلاع أهلها؟”.
أما الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين اعتبرت اللقاء الذي عُقد بمشاركة عربية ورعاية أمريكية واستضافة إسرائيلية، يعدّ “استمرارًا لحالة سقوط النظام الرسمي العربي بغالبيته في مستنقع التطبيع والتبعية”، منوِّهة إلى أن تزامن هذا الاجتماع مع ذكرى يوم الأرض وفي النقب تحديدًا “لا يخلو من دلالة خاصة، وأنه يتعرض في هذه الفترة لمخطط تهويدي شامل يستهدف تدمير قراه، وتهجير سكّانه، وإقامة العديد من المستوطنات عليه”.
وفي السياق ذاته، يرى عضو التحالف الشعبي للتغيير عمر عساف تعليقًا على المشاركة العربية في تلك القمة، أنها “طعنة في ظهر التضحية وفي ظهر شهدائنا، وخيانة لكل الشهداء والدماء التي سالت لأجل شعبنا”، مضيفًا عدم ترحيب الشعب الفلسطيني بحضور وزير الخارجية الأمريكي بلينكن، “لأنه يريد أن يرعى الجرائم بحق شعبنا، ويقدِّم الدعم للاحتلال ويضغط على السلطة من أجل أن تتخذ موقفًا مؤيّدًا للسياسة الأمريكية في ما يجري في أوكرانيا وروسيا”.
فيما تعالت التحذيرات من أن تكون تلك القمة أول خطوة عملية في تشكيل “ناتو عربي-إسرائيلي”، وهو المخطط الذي أعلنت عنه إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عام 2018، تحت مسمّى “تحالف استراتيجي شرق أوسطي”، والمشكَّل من قوات عسكرية من كل من الولايات المتحدة الأمريكية والدول الخليجية بالإضافة إلى الأردن ومصر، لمجابهة النفوذ الإيراني في المنطقة.
سيبقي الصهاينة أعداءنا شاء من شاء وأبي من أبي ، أشعر بمرارة فظيعه ، بن جوريون قاتل ، وجولدامائير قاتله ، شامير قاتل ، بيريز قاتل ، نتنياهو قاتل ، بينت قاتل ، شردوا شعبنا ، إحتلوا أرضنا ، سحقوا أسرانا ، وقتلوا أطفالنا ، إعتدوا علي نسائنا ، حاصروا كنائسنا ، دنسوا أقصانا
— مصطفى بكري (@BakryMP) March 28, 2022
قيادة “إسرائيل” للمنطقة
يعكس البيان الختامي للقمة نقلة نوعية في تأثير وحضور “إسرائيل” الإقليمي، منبئًا بريادتها لتحالف جديد قوامه الدول العربية مع بعض القوى الأخرى، الهدف المعلن لها هو التصدي لإيران لكن ما خفي أعظم، إذ تخطِّط تل أبيب من وراء تلك التحركات للتغلغل أكثر داخل مفاصل المجتمعات العربية، لتكسر شوكة الرفض المستمرة لأكثر من 70 عامًا.
أكّد البيان، وبعيدًا عن مقترح تشكيل لجان أمنية لمواجهة تهديدات إيران في المنطقة، أن هذا الاجتماع الإقليمي هو “الأول من نوعه ولن يكون الأخير”، مشيرًا إلى ما أسماه “صناعة التاريخ” من خلال التعاون الأمني في الإقليم، وهو ما يتناغم مع ما نشرته صحيفة “نيويورك تايمز”، أول أمس السبت 26 مارس/ آذار الجاري، بأن دور “إسرائيل” يتغير من قناة خلفية إلى وسيط علني قادر على قيادة تحالف إقليمي عربي جديد.
ترى الصحيفة أن تل أبيب طرف هام في الساحة الدولية، وقادرة على لعب دور محوري في مجالات العتاد العسكري والمراقبة الإلكترونية، فيما نقلت عن مدير السياسة في منتدى السياسة الإسرائيلية، مايكل كوبلو، قوله: “اعتدنا اعتبار “إسرائيل” قوة عسكرية إقليمية، ولنا أن نقول أيضًا إن “إسرائيل” قوة إلكترونية عالمية، لكنني أعتقد أن بينيت يفعل كل ما في وسعه لتصوير “إسرائيل” بأنها قوة دبلوماسية مهمة أيضًا، وحتى في المجالات التي لم تكن لتتصور أن تتدخل فيها “إسرائيل” في الماضي، مثل حرب في أوروبا”.
أما المسؤول الإسرائيلي السابق والخبير في شؤون الخليج في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، يوئيل غوزانسكي، فيلمّح إلى إمكانية تدشين تحالف إقليمي طويل الأمد، اقتصاديًّا وعسكريًّا، بين “إسرائيل” والعرب، مع تحول الاهتمام الأمريكي إلى اتجاه آخر، في إشارة إلى الميل نحو عقد اتفاق نووي مع إيران.
وفي الأخير.. إن كان هناك من سبيل لتقديم الشكر لإيران فعلى الحكومة الإسرائيلية أن تقوم بذلك، إذ نجحت في توظيف هذا “البعبع” لخدمة أجندتها التوسعية في المنطقة، وعبر هذا الشعار المطاط (الحق الذي يُراد به باطل) استطاعت دولة الاحتلال الحصول على اعتراف رسمي من أكثر من ثلث الدول العربية، بعضها بشكل علني والآخر ضمني، وهو الحلم الذي ظلَّ يراود مخيلة الإسرائيليين بدءًا من بن غوريون وحتى بينيت، لتبدأ الدولة العبرية مرحلة جديدة من قيادة الركب العربي في المنطقة، وسط ترقُّب لتداعيات تلك التغييرات على مستقبل القضية الفلسطينية المغدورة من معظم حلفائها.