في كثير من الأحيان، تنجر السينما نحو إشكالية معينة تشكل علاقة الصانع بالمتلقي وتحدد مدى تعاطي المشاهد العادي مع أشكال سينمائية بعينها، تقع الإشكالية في افتراضية الفن السينمائي كقيمة جمالية وشاعرية في مجملها، تكتسب قيمتها من كونها ممارسة للفن في صورته الأسمى، وتحاول مخاطبة المتلقي بطرق ولغة تحتاج إلى جهد أكبر لتفكيكها، وفي افتراض آخر يتخذ السينما كمرفه ومسلٍ لغرض التفريج عن المتلقي وإمتاعه في المقام الأول، أي أنها تتمركز حول المتعة وتتحرك من اللذة البصرية بمنهجيات تحافظ على المنتج الإبداعي كمثير للحواس والجسد.
تحفز المتلقي تجاه نوعية معينة من المشاعر، تلبي احتياجًا عاطفيًا وتشبع نوعًا من التخيلات الحرجة بحيث يخرج المشاهد من السينما وهو في حالة رضى عن القصة، فهو في أغلب الأحيان يظن أنه تجاوز جسده وعاطفته الذاتية المحدودة، بيد أنه عكس ذلك – ليس في كل الحالات – يستغرق في حدوده المادية أكثر، وينساق وراء الإشارات التي يخلفها المخرج بحيث يقوده نحو المساحة الآمنة.
والحق أن هذه مهارة، تحتاج إلى هيكلة ودراسة وموهبة، ولا تفتقد للغة سينمائية مناسبة، لكنها على النقيض تتحرك في المنطقة الآمنة، تفتقد للمخاطرة، وهذا ضروري بالنسبة للفيلم التجاري، فهي تخلق سلعة طبقًا للمعايير الاستهلاكية والقيمة التسويقية في المقام الأول، وتأتي المعايير الفنية الأصيلة والسمات الجمالية في المرتبة الثانية، لذلك فهو نموذج يعين حدوده طبقًا لمساحة الأمان التجارية، حتى المجازفات الفنية تكون محسوبة العواقب، عكس النوعية الأخرى التي تكتسب أصالتها من قدرتها على اختبار حدود جديدة للفن، وإمكانية توريط المشاهد في حمى تجريبية أكثر تراكبية وتعقيدًا، واختراق مساحات مختلفة ترتبط بالذات واللغة البصرية وطريقة السرد.
لماذا نحاول قراءة الفيلم؟
لا يوجد سبب رئيسي يدفع شخصًا لقراءة فيلم بعناية إلا الانشغال بالفن ذاته، أو ضرورة أخرى مثل العمل كناقد أو محكم، إلا أننا هنا لا نتحدث عن قراءة الفيلم بمعناه الأكاديمي، فهذا يبتعد بمسافة كبيرة عن قدرة المشاهد العادي، لكننا نحاول الاسترشاد ببعض الإشارات لتأويل المنتج الإبداعي بحيث يتيح لنا مساحة أكبر لفهم الفيلم وتلمس أطرافه لنكون على نفس الأرضية التي يؤسس لها المخرج.
والحق أنه ليس هناك تأويل مركزي أو تفسير قطعي للسينما، فالمجال الإبداعي يعتمد في متنه على إثارة خيال المشاهد بإشارات وإحالات بصرية أو سمعية، ويتركه ليكمل الصورة في عقله، ولا يشترط أن تكون الصورة هي نفسها التي يبتغيها المخرج، ربما لا توجد صورة نهائية في الأساس، لهذا يستوجب قراءة الفيلم، لنصل لما يسمى الفرضية الأخيرة، إلا أن قراءة الفيلم لا تنفصل عن المعرفة العامة بطبيعة الفيلم كموضوع أدبي ولغة المخرج السينمائية والوعي بمشروع المخرج السينمائي إذا كان له مشروع والاهتمام بأخذ الفيلم في سياقه الاجتماعي والتاريخي إذا استوجب الأمر، بجانب كثافة المشاهدات، فالذاكرة البصرية تساعد بشكل كبير في تفكيك الفيلم.
من خلال قراءة الفيلم سيتمكن المشاهد من تكوين وجهة نظر خاصة به، وجهة نظر تتجاوز الواجهة السطحية والتأويلات المباشرة، ومن هذا المنطلق سيتحرك المشاهد نحو التجربة بعقله وعاطفته، وسيشعر بالفيلم وسيتماهى معه بمنطقٍ ذاتي وبرؤية شمولية، وسيفككه ويضعه في سياقه الصحيح.
لكن عملية قراءة الفيلم ذاتها تتوقف – كما قلنا سابقًا – على مدى خبرة الفرد ذاته وفراسته في الاستدلال والربط والاستقراء، لأن كل فيلم أحجية تحتاج إلى حل.
كثافة المشاهدات
فعل المشاهدة لا ينتهي أثره بانتهاء التجربة، ولا يمكن اختزاله في حالة من المراقبة للاستمتاع وتحصيل أكبر قدر من اللذة البصرية، بل يمتد أثره على المدى الطويل في تكوين ذاكرة بصرية وخبرة في أنماط السرد واللغة السينمائية وحتى منهجية التعاطي نفسها مع المنتج الإبداعي.
فالذاكرة البصرية وتراكم الخبرات والمشاهدات تمنح المتلقي نوعًا من الرفاهية توفر له سياقات مختلفة لإيجاد المساحة المناسبة للتعرض للمنتج الإبداعي، يحتاج المشاهد لامتلاك أكبر قدر من الخيارات المتاحة، لتشكيل وانتقاء منظورٍ خاص يؤطر من خلاله المنتج الإبداعي، وعلى إثره يتحرر من الرؤية الأحادية التي تحجز تخيلاته في مسارٍ معين مثل الأفلام التجارية، وينجح في خلق فرضيته دون الوقوع في فخ البنية المثالية.
لكن هذا كله يحدده مدى اتصال المشاهد بالفيلم وبلغته السينمائية، لذلك ربما عليه مشاهدة الفيلم أكثر من مرة، منحه فرصة أو اثنتين على الأقل حتى يحدد بدقة الحيز المشترك بين الرؤية الفيلمية للمخرج وذوقه كمتلقٍ، وهنا تأتي أهمية المُشاهدة الثانية، فهي العين الفاحصة المتأنية، فربما يأخذك الإيقاع في المشاهدة الأولى أو تغفل عن بعض اللمحات التي إذا جمعتها وعينتها في سياقٍ واحد ربما تخرج بالتأويل المثالي بالنسبة لك.
البحث عن المعنى خارج الفيلم
فعل المشاهدة هو المفتاح الذي من خلاله ستخترق أنواع فيلمية مختلفة، ومع الوقت ستتمكن من رصد عدة أنواع فيلمية وثيمات وأنماط سردية في فيلم واحد، وخلال تلك العملية ستنطلق لمنهجية مختلفة، وهي البحث عن المعنى خارج إطار العمل السينمائي، إنها الخطوة الثانية، بعد المشاهدة المتأنية والملاحظة لكل جوانب الفيلم ومحاولة ربط المنتج الإبداعي بالبيئة أو النوع الفيلمي وغيرها من الأشياء.
من الممكن القراءة عن الثيمة الأساسية التي يقف عليها الفيلم وتتمركز حولها السردية الرئيسية، ربما تكون صبغة بصرية مختلفة أو مزاج لوني ثوري أو سردية مفككة ما بعد حداثية أو حتى شخصية رئيسية ذات طابع مختلف، مريضة نفسية مثلًا، أو القراءة عن المكان ذاته إذا كان يحمل مضمونًا أبعد من وجوده الفيزيائي، مثل السجن مثلًا.
الجدير بالذكر أن البحث عن المعنى خارج الفيلم، لا يتماس بشكل مباشر مع الفكرة المعروضة، بل تستلزم نوعًا من الخبرة في إدراك إشكالية الفيلم والقدرة على قراءة تلميحات المخرج وبنيته التأسيسية حتى لو بشكل سطحي، لمؤالفة الإشكالية الفيلمية مع أطروحات فلسفية خارجية أو فرضيات علمية أو حتى سياقات اجتماعية وتاريخية، وهذه العملية المعقدة هي ما تنتج المقاربات الأدبية والسينمائية، محاولة فهم النص عن طريق معرفة أكثر شمولًا واتساعًا من عين المخرج وإطاره السينمائي، ليخلق المشاهد فيلمًا جديدًا تمامًا دون أن يشعر.
تحدث عملية تسليم واستلام للمنتج الإبداعي، تصافح صوري متخيل، فيستلم المشاهد المنتج الإبداعي من المخرج، لينتقل الفيلم من مساحة الخالق الصارمة والدقيقة، لمساحة المتفرج الأكثر مرونةً وتساهلًا، فيما يمنحه المشاهد إرادة خاصة به، متفردة وجامعة في الآن ذاته، مفصلة وإجمالية في نفس الوقت، لتسفر حركة التحرر الثورية عن تخيلات إبداعية متنوعة لدى المشاهد، يثير أفكار ويخلق مفاهيم ورؤى جديدة للفيلم، لأنه يجذبه ويستخلصه إلى مساحة أجنبية ومختلفة، يتحرك فيها منفصلًا عن سلطوية وسيادة المخرج على النص أو الصورة، هذه هي المساحة التي يقف عليها المشاهد بعد أن يقرأ فيلمًا، متسيدًا للطاقة الإبداعية التي خلفها المخرج، دمجها بشخصيته وأفكاره ومصادره المعرفية، ليكون وجهة نظر ذاتية، بحججٍ خاصة ورؤية مستقلة.
لا يمكن حصر المساحة التي يمكن للمشاهد أن يتعاطى خلالها مع المنتج الإبداعي، فلا يمكن تعيين حدودٍ للتأويل أو الإبداع النقدي أو حتى الرؤية الجوهرية الشخصية للأعمال السينمائية، لهذا يتعرض المشاهد مع العمل الفني بشكل مطلق لا يحده أحكام ولا معايير، إنما يستوجب المتلقي أن يتيقن من شيء شديد الأهمية، أن النقد أو محاولة تفكيك المنتج الإبداعي، حتى ولو كانت سطحية، لا بد أن تضيف له قيمة إضافية، لأنها تخلق مسالك مختلفة لتلقي العمل الإبداعي.
قراءة النقد
ليس من الممكن الخروج بالرؤية أو القراءة المثالية لفيلم سينمائي أو أي منتج فني في العموم، لأنه لا توجد ثمة رؤية مثالية على الإطلاق، بيد أن بعض الآراء النقدية تلتزم بمنهجية رصينة ورؤية محايدة، بجانب الخبرة النقدية والتعليم الأكاديمي بالإضافة للثقافة الموسوعية، وهذا ما قدمه بعض النقاد السينمائيين مثل الناقد المرموق روجر إيبرت.
وهذا يدفعنا لقراءة الآراء في العموم، الكثير من الآراء، فالاطلاع على رؤى مختلفة تمنحنا رفاهية أعلى للانتقاء وتعزز قدرتنا على الاستقراء وتفكيك الفيلم السينمائي، فمن الممكن الاطلاع على المواقع الجامعة للآراء النقدية مثل Metacritic وMubi بالإضافة لموقع الطماطم الفاسدة، بجانب ذلك فقراءة النقد تحمل أهميةً كبيرةً للمشاهد المهموم بالسينما، سواء كان النقد في سياقه الأكاديمي أم حتى كمجرد هواية، سيتعرف المشاهد من خلاله على الحالة العامة للسينما، ومن الضروري الإلمام بالحالة العامة للصناعة، فهذا عامل مؤثر على الأفلام وسياقها، ولكل مقال قيمته الخاصة وخصوصيته، على عدة مستويات، منها الأدبية ومنها المعرفية، ولكل قراءة فيلمية جمالها وتفردها في التعاطي مع الموضوع ذاته، وهذا ما يضمن تنويعات في رصد الظاهرة ذاتها.
لذلك فقراءة المزيد من النقد المحترم تنمي الحس النقدي والقدرة التفكيكية للمشاهد العادي، أضف إلى ذلك تعريفه بأنواع فيلمية جديدة ستفتح له مجالًا لتشكيل ذائقة سينمائية مثالية له، فحصر العين في الأفلام التجارية وتغذيتها بنوعية واحدة من الأفلام ستجردها من إمكاناتها الفائقة في التذوق السينمائي، وستكبح المخيال في منطقة أغلبها نمطية وفارغة من التجريب، لهذا على المشاهد محاولة قراءة الأفلام، ليخلق الذائقة السينمائية المثالية له، ويكشف المنطقة المحجوبة وراء الهالة الإعلامية والرواج التجاري ويستكشف نوعًا جديد من الأفلام، مستوى آخر من الفن، عوامل أخرى ومعايير جمالية مختلفة تمامًا، أنا لا أقصد إزاحة الأفلام التجارية بشكل كامل عن الساحة، لكن أحاول الإفصاح عن مساحة هائلة غير مرئية، شديدة التنوع، متباينة المنهجيات، تحتاج إلى الاستكشاف أيضًا.
في النهاية أود أن أقول شيئًا: الكثير من الأشياء لا يمكن فهمها إلا حين وضعها في سياقٍ مفهوم، في بعض الأحيان لا يمكن فعل ذلك بشكل صحيح، فمن المرجح أن يقف المشاهد العادي أمام بعض الأفلام عاجزًا عن الفهم، عاجزًا عن إيجاد منطق، لذا كل ما يمكن فعله هو الشعور بعاطفة الفيلم، فمضاعفة الأحاسيس تستجلب حجة ما، استدلال مفهوم بالنسبة للفرد وحده، وربما تقع السينما بين محاولة إثارة عاطفة غير مفهومة ومحاولة وضع سياقٍ منطقي لتلك العاطفة.