يقول المستشرق الإنجليزي المعروف، رام لاندو: “المسلمون قدموا كثيرًا من الابتكارات في حقل الرياضيات، ومع ذلك فإن معظم الأمريكان والأوروبيين لم يعودوا يتذكرون من أي مخزن اكتسب العالم المسيحي الأدوات التي لا يمكن أن تصل الحضارة الغربية إلى مستواها الحاليّ إلا بها”، مضيفًا “حساب المثلثات في أوروبا كان مأخوذًا من علم حساب المثلثات عند المسلمين”، حسبما نقل عنه المؤرخ علي عبد الله الدفاع في كتابه “الموجز في التراث العلمي العربي الإسلامي“.
قدم علماء المسلمين خلال القرنين التاسع والعاشر الميلادي خدمات جليلة للعالم في حقول العلوم الرياضية بشتى أنواعها، فبينما كانت أوروبا تعاني في ذلك الوقت من تعثر واضح في مدادها العلمي، كانت الحضارة الإسلامية تحيا أوج قمتها وأعلى نقطة في هرم تفوقها في مختلف العلوم.
ورغم ادعاء بعض المستشرقين بحصر الإسهامات التي قدمها المسلمون علميًا في مجال النقل والترجمة، فإن الإنجازات التي تحققت على أيدي علماء الأمة وبشهادة الجميع حتى اليوم، ظلت صخرة تتحطم عليها كل تلك الاتهامات الباطلة التي تكشف عن حقد دفين للحضارة الإسلامية وما قدمته، ولعل هذا يفسر أسباب تجاهل الكثير من أبناء المجتمعات الغربية لدور العرب والمسلمين في إثراء الإنسانية بإسهامات العلم والتقدم والرقي.
ومنذ نشأة الدولة عند المسلمين الأوائل احتل علم الرياضيات مكانةً كبيرةً لدى علماء الأمة ونخبتها الحاكمة، فقد أحدثوا حراكًا كبيرًا في مجال دراسة الرياضيات بشتى تفريعاتها، سواء على المستوى النظري من خلال الابتكارات التي تفوقوا في تحقيقها ولم يسبقهم إليها أحد، أم على المستوى التطبيقي العملي حيث الاستفادة من تلك الابتكارات في دعم العلوم الأخرى المرتبطة بالرياضيات كالفلك والفيزياء والتنجيم وعلوم المواريث الشرعية وخلافه.
الرياضيات.. ملكة العلوم
ليس هناك مفهوم واحد وثابت للرياضيات كعلم، إذ تختلف من عالم لآخر في ضوء ما يراه وما يسعى إليه من خلال دراسة هذا العلم، فقد عرّفها أرسطو بأنها “علم الكمية” وهو المفهوم الأكثر انتشارًا بين المهتمين بهذا الحقل حتى القرن الثامن عشر الميلادي، بينما أطلق عليها عالم الرياضيات الألماني، كارل فريدريش غاوس “ملكة العلوم”، وآخرون اعتبروها “القوة الدافعة الرئيسية وراء الاكتشاف العلمي”.
وتوصل علماء الرياضيات بعد عشرات التعريفات المختلفة على مدار عقود طويلة إلى تعريف شامل يستند إلى اللغة الوصفية للعلم أكثر من جوانبه القيمية، يتمحور حول أنها علم تراكمي البنيان (بمعنى أن المعلومة الأولى تقود إلى الثانية والثانية لا يمكن فهمها دون معرفة الأولى) يتعامل بصورة مباشرة وغير مباشرة مع العقل البشري، ويتكون من قاعدة مؤسسية مفاهيمية تشمل القواعد والنظريات والعمليات الحسابية وحل المشكلات الرياضية، مستخدمًا لغة الأرقام والرموز.
أبدع المسلمون في فرع الهندسة أواخر القرن الثامن وأوائل القرن التاسع الميلادي، إذ استطاعوا التفوق وبشكل لافت للنظر على التقليد الإغريقي والهلينستي والهندي
ويندرج تحت علوم الرياضيات 7 أفرع محورية: الحساب (يقوم على الأرقام وتطبيقاتها) والطوبولوجيا (دراسة التغيرات غير المألوفة في الأشكال الهندسية من تمدد والتواء) والإحصاء (علم يقوم على التنبوء بالأحداث من خلال تفسير منطقي يستخدم في العلوم التطبيقية والاجتماعية) والهندسة (دراسة أشكال وأحجام الأشياء والأبعاد بينها والمساحة) وعلم المثلثات (المعني بقياس الزوايا وجوانب المثلثات) والتفاضل والتكامل (دراسة معدل التغير، وليس قياس الأشياء الثابتة فقط، بل المتحركة) وأخيرًا الجبر بنوعيه: المعادلات والمجرد، الذي يهدف إلى معرفة المجهول من خلال العمليات الحسابية.
وقسم العلماء علم الرياضة إلى 3 مجالات رئيسية، الأول: “الرياضيات البحتة” التي تستخدم لحل المشكلات، الثاني “أسس الرياضيات” الخاصة بالأبعاد والمنطق الرياضي والجبر والبرمجة الخطية والتفاضل والتكامل، ثم “الرياضيات التطبيقية” التي تحاول تطبيق الإحصاء والبيانات والهندسة في المجالات الحياتية اليومية.
المسلمون والرياضيات
حتى وقت قصير كانت علوم الرياضيات حكرًا على علماء المسلمين، إذ كان لهم السبق، ابتكارًا وشرحًا وتطبيقًا، في مجالات هذا العلم بشتى أنواعه، فأرسوا القواعد الأولى للجبر والحساب والمثلثات والمقابلات والهندسة والإحصاء وغيرها من المجالات الأخرى المرتبطة من قريب أو بعيد بالرياضيات.
فعلى مستوى الحساب، يعد المسلمون والعرب أول من استخدموا أنماط الحساب التقليدية التي نقلتها أوروبا عنهم بعد ذلك، وأبرزها النظام الأصبعي (العد على الأصبع) والنظام الستيني (التعبير عن الأرقام بالحروف الأبجدية) والنظام العشري (العد من رقم 1 إلى الرقم 10)، كان ذلك في القرن العاشر الميلادي، بل برعوا في كتابة مؤلفات في هذه الأنماط استعانت بها كل الحضارات في الشرق والغرب.
وتولى نقل تلك الأنماط الحسابية لأوروبا عدد من العلماء الغربيين الذين تلقوا العلم على أيدي المسلمين، منهم البابا الفرنسي سيلفستر الثاني المعروف باسم “جيربرت” الذي درس تلك العلوم في قرطبة أواخر القرن العاشر ثم انتقل بها إلى روما، كذلك روبرت تشستر، صاحب التراجم الشهيرة لكتب الخوارزمي في الأعداد، الذي حملها إلى أوروبا في القرن الثاني عشر، وثالثهم ليورنادرو البيزي الذي نهل من بحار علوم الرياضيات في الجزائر في القرن الثالث عشر ثم نقلها إلى سكان أوروبا.
أول رسالة طبعت في أوروبا عن علم الرياضيات بصفة عامة، كانت الخاصة بفرع الجداول الذي أسسه العالم المسلم أبي عبد الله البتاني
ومن الحساب إلى الجبر، حيث يعود الفضل لعلماء المسلمين في إرساء قواعد هذا العلم وعلى رأسهم العالم المسلم محمد بن موسى الخوارزمي، صاحب الكتاب الشهير “الجبر والمقابلة” الذي يعد الموسوعة العالمية التي وضعت أسس وقواعد علم الجبر، الذي أتاح للإنسان التعامل بالأرقام والأحجام الهندسية بصفة عامة.
الإسهامات التي حققها المسلمون في فرع علم حساب المثلثات، لا تقل أبدًا عما تحقق في الفرعين السابقين، إذ أولى العلماء اهتمامًا كبيرًا بهذا العلم الذي يعتبره البعض فرعًا من فروع علم الفلك، وقد اهتم به المسلمون بداية الأمر لصلته بتحديد أوقات الصلاة والشعائر الدينية، لكنهم أثروه بعد ذلك بالعديد من الإسهامات التي توثقها مؤلفات المستشرقين الثقات.
وقد أبدع المسلمون في فرع الهندسة أواخر القرن الثامن وأوائل القرن التاسع الميلادي، إذ استطاعوا التفوق وبشكل لافت للنظر على التقليد الإغريقي والهلينستي والهندي، وهي الأشهر والأعلى صوتًا في ذلك الوقت في مجال الهندسة، حيث تميزوا بالتصميمات الهندسية الجميلة، وأدخلوا عليها تطورات كبيرة في مسائل قياس النقاط والزوايا والخطوط والأشكال ثنائية وثلاثية الأبعاد.
إسهامات أثبتت نفسها
تعد علوم الرياضيات والطب تحديدًا الأكثر تأثرًا بالإسهامات الإسلامية حتى اليوم، رغم التطورات التي شهدتها خلال القرون الماضية، لكن تبقى الصبغة العربية والإسلامية الأكثر حضورًا، واللبنة الأولى التي بنت عليها الحضارة الإنسانية علومها في العصور الحديثة والمعاصرة.
ويُنسب الفضل للمسلمين والعرب في العديد من الإسهامات الرياضية أبرزها أنهم أول من ابتكروا الرقم (صفر) وهو التحول الذي نقل علوم الرياضيات عمومًا إلى منطقة أخرى من التطوير والإبداع، وقد نهل الغرب عنهم هذا الابتكار، شكلًا ومضمونًا، حتى في طريقة كتابة الأرقام، إذ إن قيمة كل رقم عربي يقابلها زاوية في الأرقام الإنجليزية.
أبرز الإنجازات التي قدمها الخوارزمي كتابه “الجبر والمقابلة” الذي يعد أول محاولة علمية ممنهجة لتطوير علم الجبر على أسس منطقية
كما أن المسلمين أول من استعلموا لفظ “الجبر” ووضعوا أصوله وقوانينه كما تمت الإشارة سابقًا، وأول كذلك من أدخلوا علامة الكسر العشري والجذر التكعيبي والتربيعي، فضلًا عن ريادتهم في استعمال الأسس السالبة، بالإضافة إلى أنهم أول من استعلموا الرموز والمجاهيل أمثال (س) و(ص) وعوضوا عنها بقيم حسابية عددية.
وتوثيقًا لتلك الإسهامات، فإن أول رسالة طبعت في أوروبا عن علم الرياضيات بصفة عامة، كانت الخاصة بفرع الجداول الذي أسسه العالم المسلم أبي عبد الله البتاني، وطبعت تلك الرسالة لأول مرة في اليونان عام 1493م، وقد ترجمت إلى عدة لغات ونقلت دول أوروبا عنها بعد إدخال بعض التطورات عليها.
العلماء المسلمون.. حضور وريادة
يزخر التاريخ بعشرات العلماء المسلمين الذين قدموا لعلوم الرياضيات ما لم يقدمه غيرهم، إذ حفروا أسماءهم بأحرف من نور في سجلات هذا العلم، مهما أنكرها رواد الحضارة الغربية العصرية، على رأسهم:
– محمد بن موسى الخوارزمي (780- 850م).. احتضنته بغداد ميلادًا ووفاةً، فكان العالم المقرب من الخليفة المأمون الذي عينه رئيسًا لبيت الحكمة لما له من قيمة علمية كبيرة.
من أبرز الإنجازات التي قدمها الخوارزمي كتابه “الجبر والمقابلة” الذي يعد أول محاولة علمية ممنهجة لتطوير علم الجبر على أسس منطقية، كما يعود له الفضل في العديد من الإسهامات الأخرى منها تطويره لجدول الجيب وعلم المثلثات، وأول من وضع مبدأ النظام العشري، بجانب أنه أول من رسم خريطة الكرة الأرضية مع بعض العلماء الآخرين، ويعود له الفضل في نقل الأرقام العربية إلى أوروبا عبر إسبانيا.
– ثابت بن قرة (836- 901م).. هو ثابت بن قرة بن عرفان الحراني، وكنيته أبو الحسن، ولد في حران بتركيا، وساهم بشكل كبير في علم المثلثات وتطويره، كما ترجم نتاج نظريات إقليدس في الهندسة، وله مؤلفات جليلة في الفلك والتفاضل والتكامل، تعد مراجع للعديد من الجامعات العربية والإسلامية حتى اليوم.
– محمد بن جابر البتاني (885-929م).. أبو عبد اللّٰه محمد بن جابر بن سنان، المكنّى بـ”البتاني”، ولد في تركيا ويعد أبرز علماء الفلك والرياضيات المسلمين، قضى العديد من سنوات حياته في تسجيل ملاحظاته الفلكية التي جمعها في كتابه المعروف باسم “الزيج الصابئ” المكون من 57 فصلًا، وهو الكتاب الذي أوصى ملك قشتالة وليون، ألفونسو العاشر، بترجمته إلى الإسبانية في القرن الثالث عشر الميلادي، رغم عداوة الملك للمسلمين، وبات هذا الكتاب المرجع الأهم لعلماء الفلك والرياضيات في أوروبا، هذا بجانب إسهاماته الخالدة في تطوير علم حساب المثلثات، خاصة الجزئيات المتعلقة بدراسة النسب المتعلقة بأضلاع وزوايا المثلثات القائمة.
– أبو الوفاء البوزجاني (940 – 998م).. هو أبو الوفاء محمد بن محمد بن يحيى بن إسماعيل بن العباس البوزجاني، ولد في خراسان، ثم انتقل إلى بغداد عام 959 واستقر بها حتى وفاته، وله الفضل في تطوير علم المثلثات، حيث أوجد طريقة لحساب الجيب، وأنشأ مخططًا لتجميع جداول الجيب، كما برع في علم الهندسة وحل المعادلات الهندسية، ودرس البناء الهندسي للسداسي، بالإضافة إلى جوانبه المتمثّلة في المثلثات متساوية الأضلاع.
– الحسن بن الهيثم (965- 1040م).. أبو علي الحسن بن الحسن بن الهيثم، المولود في العراق والمتوفي في مصر، له العديد من الإنجازات في العلوم البصرية والفلكية والهندسية، هذا بجانب إبداعاته في مجال الفيزياء الذي ساهم في تطويره بشكل وثقته العشرات من الكتب التاريخية، ومن أشهر مؤلفاته في مجال الرياضيات المختصر في علم الهندسة (إقليدس)، الكتاب الجامع في الحساب، كتاب في الجبر والمقابلة، وغيرهم الكثير.
– محمد بن أحمد البيروني، أبو الريحان (973 – 1048م).. بحّاثة موسوعي، كان فيلسوفًا وفلكيًا وجغرافيًا وجيولوجيًا ورياضياتيًا وصيدلانيًا. ولد في بيروني حين كانت عاصمة سلالة آل آفريغ التي حكمت أجزاءً واسعة في وسط آسيا، وتقع في أوزباكستان حاليًا، يُعد من بين أعظم العقول التي عرفتها البشرية. درس الرياضيات على يد العالم منصور بن عراق وعاصر ابن سينا وابن مسكوويه. له مساهمات في حساب المثلثات والدائرة وخطوط الطول والعرض، ودوران الأرض والفرق بين سرعة الضوء وسرعة الصوت، خصص البيروني جل كتبه من أجل دراسة علوم الفلك والرياضيات والمواضيع المتعلقة بها.
– عمر الخيام (1048- 1131م) هو غياث الدين أبو الفتوح عمر بن إبراهيم الخيام النيسابوري، المولود في نيشابور بإيران، وله باع طويل في علوم الرياضيات والفقه واللغة، بجانب الفلك، ومن أبرز إسهاماته إيجاده لطريقة استخراج الجذور من الدرجة الثالثة، وطور نظرية إقليدس بشأن الأعداد النسبية، بجانب حلّ المعادلات التكعيبية عن طريق حساب المقاطع المخروطية.
– نصير الدين الطوسي (1201-1274م).. هو أبو جعفر محمد بن محمد بن الحسن الطوسي، المعروف باسم نصیر الدین الطوسي، المولود في إيران، ورغم ما تناقلته الروايات التاريخية عن خيانته للعباسيين لصالح المغول حتى إنه لقب بـ”الفيلسوف الخائن” فإن إسهاماته في علوم الرياضيات لا ينكرها أحد، فترجمته وتعليقه على كتاب “أصول الهندسة” لإقليدس تعد الأدق عربيًا، هذا بجانب جهده الملموس في علم حساب المثلثات.
وهكذا يمتلك العرب والمسلمون سجلًا حافلًا من الإنجازات العلمية التي أثروا بها الحضارة الإنسانية، فكانوا ضلعًا أصيلًا في مدادها الذي ينهل منه البشر حتى اليوم، وهو الدور الذي لا يتناسب مطلقًا مع ما وصلوا إليه حاليًّا، لتبقى تلك الإسهامات بذرة الخلود التي تبقيهم على قيد الحياة الحضارية حتى إشعار آخر.