تعود مصر مرة أخرى لصندوق النقد الدولي بحثًا عن الدعم لتنفيذ برنامجها الإصلاحي الشامل، حسب بيان رئيسة بعثة الصندوق إلى القاهرة، سيلين آلار، الصادر في 23 مارس/ آذار الجاري، وذلك بعد أقل من عامَين على آخر علاقة بينهما، حين طلبت الحكومة قرضًا لمجابهة تداعيات جائحة كورونا.
ويعدّ هذا الطلب الذي تقدمت به الحكومة المصرية هو الثالث من نوعه خلال السنوات الست الأخيرة، بداية من قرض الـ 12 مليار دولار عام 2016، أعقبه قرض آخر عام 2020 لمواجهة الجائحة بمقدار 2.7 مليار دولار، ثم الثالث في نهاية العام ذاته بقيمة 5.2 مليارات دولار، ليصل حجم القروض التي حصل عليها المصريون من الصندوق خلال هذه الفترة 20 مليار دولار.
أحدث البيان الصادر عن الصندوق حالة من الارتباك لدى الشارع المصري الذي لم يتعافَ بعد من الإجراءات الاقتصادية الصعبة التي اتخذتها الحكومة إرضاءً للمؤسسة المالية العالمية عام 2016، ضمن البرنامج الإصلاحي القاسي الذي قدمته القاهرة للحصول على ذلك القرض الذي يعدّ الأكبر في تاريخ البلاد.
لماذا تلجأ مصر للصندوق؟
التبعات الجيوسياسية الناجمة عن التطورات التي شهدتها الساحة الدولية خلال الآونة الأخيرة، وفي المقدمة منها الحرب الروسية الأوكرانية، تأتي على رأس الأسباب التي دفعت القاهرة لطرق أبواب الصندوق هذه المرة، هذا ما ذكرته آلار في بيانها، لافتة إلى أن مصر تعدّ من أكثر الدول تأثرًا بتداعيات تلك الحرب التي أحدثت قفزة كبيرة في الأسعار كما هو الحال في مختلف دول العالم.
الزيادات الكبيرة في أسعار النفط والسلع الاستراتيجية وعلى رأسها الحبوب جرّاء الأزمة الأوكرانية، أربكت الاقتصاد المصري بصورة كبيرة، ووضعت الحكومة في مأزق، إذ إنها ستنسف وبشكل لافت خطط الموازنة المقدمة سلفًا، والتي كانت تتعامل وفق أسعار أقل بكثير ممّا باتت عليه اليوم.
ففي موازنة العام المالي الحالي 2021-2022 كانت وزارة المالية المصرية قد خصصت ما يقارب الـ 50 مليار جنيه (3.2 مليارات دولار بسعر يناير/ كانون الثاني الماضي و2.7 مليار دولار بسعر اليوم) لدعم الخبز عن طريق شراء القمح من روسيا وأوكرانيا (يغطي البَلدان 80% من احتياجات مصر من القمح).
تستهدف القاهرة تحصيل نحو 983 مليار جنيه من الضرائب خلال 2021-2022 مقابل نحو 830.8 مليار جنيه متوقعة للعام الحالي بزيادة نحو 18.3%
وُضعت تلك الميزانية على أساس سعري في المتوسط لطن القمح 255 دولارًا العام الماضي، لكن بعد ارتفاع الأسعار الأخير من المتوقع أن تصل فاتورة استيراد القمح إلى 4 مليارات دولار بزيادة قدرها 25% تقريبًا عمّا كانت عليه، بعدما ارتفع سعر طن القمح إلى 350 دولارًا أي بزيادة قدرها 100 دولار للطن الواحد، وبحسب وزير المالية المصري فإن زيادة الأسعار العالمية ستكلف الدولة زيادة قدرها 47 مليار جنيه (2.5 مليار دولار).
وأشارت وكالة فيتش للتصنيف الائتماني في تقرير لها منتصف الشهر الحالي، إلى أن الحرب الروسية الأوكرانية من المتوقع أن تزيد من أوجاع مصر الاقتصادية، نتيجة تراجع عوائد السياحة وارتفاع أسعار السلع الغذائية، بجانب خروج الاستثمارات الأجنبية من السوق المصري، إذ تشير التقديرات إلى أن المستثمرين الدوليين سحبوا نحو 15 مليار دولار من مصر منذ نهاية يناير/ كانون الثاني وحتى اليوم، بحثًا عن أسواق أكثر أمانًا وأعلى في معدلات الفائدة، مرجّحة لجوء البنك المركزي المصري لتخفيض قيمة عملته المحلية.
وبالعودة إلى الطلب المصري، فلا يوجد هناك أي تفاصيل رسمية بشأن قيمة القرض المزمع، ولا آلية السداد والفائدة المتوقعة، كما كان الحال عام 2016، غير أن البعض ذهب إلى أن القيمة لا تقل عن مليارَي دولار، وذلك عبر التسهيلات المخصَّصة عبر صندوق مواجهة الطوارئ.
استعدادات قاسية
وأمام تلك الوضعية الحرجة، لجأت الحكومة المصرية إلى بعض الإجراءات القاسية تعاطيًا مع المشهد بدرجة حرارته المرتفعة حاليًّا، كان على رأسها بيع الأصول المملوكة للدولة في بعض القطاعات، كما ذكرت وكالة “بلومبيرغ” الأمريكية، بهدف سد العجز وتوفير السيولة الدولارية المناسبة للوفاء بالالتزامات التي في أغلبها تتعلق بسداد أقساط وفوائد الدين الخارجي.
كشفت الوكالة عن اتفاق بين الحكومة المصرية وصندوق الثروة السيادي “القابضة (ADQ)” في أبوظبي، على بيع أصول مملوكة لها في عدد من الشركات هي الأكبر في مصر من حيث الاستثمارات ومعدلات الأرباح؛ وهي أبو قير للأسمدة والصناعات الكيماوية، مصر لإنتاج الأسمدة “موبكو”، والإسكندرية لتداول الحاويات والبضائع، بقيمة مليارَي دولار، إلى جانب شراء 18% من أسهم البنك التجاري الدولي (CIB)، وحصة في شركة فوري للمدفوعات الإلكترونية.
وفي الإطار ذاته، اضطرت القاهرة لتخفيض قيمة العملة المحلية (الجنيه) أمام الدولار بنحو 15%، ليصل سعر العملة الأمريكية 18.40 للجنيه مقارنة بـ 15.6 للجنيه قبل التخفيض، فيما تمَّ رفع سعر الفائدة بنسبة 1%، وهي الإجراءات التي رغم إرباكها للسوق النقدي المصري إلا أنها وبحسب محافظ البنك المركزي، طارق عامر، كانت حتمية لحماية موارد البلاد.
ما الثمن هذه المرة؟
بصرف النظر عن موافقة الصندوق على القرض من عدمه، فإن تبعات هذه الخطوة على الشارع المصري ستكون مؤلمة للغاية، إذ إن التفكير في اللجوء لهذا الكيان (سيّئ السمعة للمصريين) يعني وبمنتهى الوضوح عجزًا كبيرًا في الموازنة وعدم القدرة على الوفاء بالالتزامات الضرورية، ومن ثم إن أول نتيجة محتملة هي زيادة معدلات التضخم وارتفاع جنوني في أسعار السلع والخدمات، وهو ما حدث بالفعل.
فمنذ بداية الحرب الأوكرانية والإشارة إلى تأثر خبز المصريين وما قبل ذلك من ارتفاع الأسعار عالميًّا، كان الحديث عن ارتفاع الأسعار تلميحًا لا تصريحًا، لكن بعد التعويم الجديد وتراجع قيمة العملة المحلية أمام الأجنبية، شهدت خارطة الأسعار زيادات كبيرة وصلت في بعض السلع إلى أكثر من 100% فيما ترواحت بين 20-60% في المتوسط.
تعود العلاقة بين مصر وصندوق النقد إلى قرابة 77 عامًا حين انضمت القاهرة لعضويته بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945، غير أن التعامل المالي الأول بينهما كان عام 1977
وعلى الجانب الآخر من تلك الزاوية، تسعى الحكومة قدر المستطاع إلى تخفيض ميزانيتها وتوفير السيولة المالية قدر المستطاع، وبالطبع ليس هناك سوى بند “الدعم” للتغول عليه لتحقيق هذا المسعى، فترفع الدولة يدها تدريجيًّا عن السلع الاستراتيجية للمواطنين، في محاولة لتصفير هذا البند الذي كان في السابق يمثل عصب الميزانية السنوية، وتتركهم في مواجهة التجّار وجشعهم فيما أشبه بالنظام الرأسمالي البحت، رغم عدم توفر البنية التحتية المؤهِّلة له مصريًّا.
وفي السياق ذاته، من المتوقع أن تفرض السلطات المصرية حزمًا جديدة من الضرائب، وهو التوجه الذي تتبنّاه الدولة خلال السنوات الأخيرة كأحد أبرز مرتكزات السياسة الاقتصادية الجديدة، وتستهدف الحكومة بحسب الموازنة العامة للعالم المالي الحالي تحصيل نحو 983 مليار جنيه من الضرائب خلال عام 2021-2022، مقابل نحو 830.8 مليار جنيه متوقعة للعام الحالي بزيادة نحو 18.3%، لتشكل نحو 78.5% من إجمالي إيرادات الدولة المصرية
ويأتي على رأس تلك التبعات ارتفاع الدين الخارجي، والذي يعتبر “أمّ الكوارث” لما يلتهمه من حصة الموازنة العامة للدولة بما يفرغها من مضمونها، وتشير الأرقام الرسمية الصادرة عن البنك المركزي أن ارتفاع حجم هذا الدين ليسجّل نحو 137.859 مليار دولار في نهاية العام المالي 2021-2020، مقابل نحو 123.490 مليار دولار في نهاية العام المالي 2019-2020 بزيادة سنوية قدرها 14.369 مليار دولار، وفي المجمل ارتفع الدين الخارجي المصري خلال السنوات الست الماضية بنسبة تقترب من 150%.
مصر والصندوق.. 77 عامًا من التبعية
تعود العلاقة بين مصر وصندوق النقد إلى قرابة 77 عامًا حين انضمت القاهرة لعضويته بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945، غير أن التعامل المالي الأول بينهما كان عام 1977 حين طلبت مصر قرضًا بقيمة 185.7 مليون دولار ضمن برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي تبنّاه الرئيس الراحل أنور السادات، غير أن الطلب قوبل بالرفض بسبب عدم قدرة الدولة المصرية حينها على تطبيق بنود البرنامج في ظل موجة الاحتقان الشعبي إزاء ارتفاع الأسعار.
وبعد 10 سنوات تقريبًا من رفض الطلب الأول، تقدّمت مصر بطلب آخر عام 1987 في عهد حكومة عاطف صدقي في الولاية الأولى للرئيس الراحل حسني مبارك، بقيمة 375 مليون دولار، لإنعاش السوق الاقتصادي وتقوية البورصة المصرية، وبالفعل تمّت الموافقة وحصلَ المصريون على أول قرض لهم من الصندوق الدولي.
عاودت الحكومة المصرية الكرّة مرة أخرى عام 1996، حيث تقدمت بطلب للحصول على قرض بقيمة 434 مليون دولار، لكنها لم تسحب منه أي شريحة ما اُعتبر لاغيًا وقتها، لتكرر الطلب ذاته نهاية العام نفسه لكنها لم تستطع الحصول عليه لأسباب تتعلق بالظروف المالية التي كانت تمرّ بها مصر في ذلك الوقت.
بلغت نسبة الفقر في مصر قبيل قرض الصندوق الأول في 2016 قرابة 27.8% بنهاية عام 2015، ارتفعت إلى 32.5% لعام 2017-2018، وهي النسبة الأعلى تاريخيًّا
وبعد ثورة يناير/ كانون الثاني تقدمت مصر خلال فترة الرئيس الراحل محمد مرسي، عام 2012، بطلب رسمي للصندوق من أجل تمرير قرض بقيمة 4.8 مليارات دولار، غير أن الجدل الذي أثير حول هذا الطلب وقتها عرقل المفاوضات مع الصندوق الذي رفضَ الطلب بعد مباحثات استمرت قرابة عام كامل.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، وافق الصندوق على القرض المطلوب والبالغ قيمته 12 مليار دولار، والذي يعدّ الأكبر في تاريخ البلاد، وذلك على مدار 3 سنوات شريطة الالتزام بالبرنامج الاقتصادي المقدم، والذي كان من أولوياته تعويم الجنيه الذي فقد أكثر من ضعف قيمته في تلك الخطوة.
وها هي مصر تطرق باب الصندوق مرة أخرى لتصبح ثاني أكبر الدول حصولًا على قروض من الصندوق بعد الأرجنتين، التي نجحت بداية الشهر الجاري في التوصل إلى اتفاق للحصول على قرض بقيمة 40 مليار دولار بشأن تسديد وجدولة ديونها الخارجية والداخلية.
وأفرزت سياسة الاقتراض التي تنتهجها الدولة المصرية خلال السنوات الأخيرة تحريك مستويات الفقر بصورة كبيرة، وتهاوي المستوى المعيشي لأبناء الطبقتين، محدودة ومتوسطة الدخل، وهما السواد الأعظم من الشعب المصري، الأمر الذي يمكن قراءته في وجوه أصحاب الدخول الثابتة والمتدنية والعاطلين عن العمل وأرقام المتسولين المتصاعدة عامًا تلو الآخر.
بلغة الأرقام، بلغت نسبة الفقر في مصر قبيل قرض الصندوق الأول في 2016 قرابة 27.8% بنهاية عام 2015، ارتفعت إلى 32.5% لعام 2017-2018، وهي النسبة الأعلى تاريخيًّا، قبل أن تتراجع إلى 29.7% عام 2021، ما يعني أن هناك قرابة 30 مليون مصري دخلهم اليومي أقل من 18 جنيهًا (1 دولار)، فيما تكشف تقديرات أخرى أن العدد يتجاوز الـ 50% إن وضعنا في الاعتبار التقييم العالمي لنسب الفقر والتي تشير إلى من هم دون 2 دولار يوميًّا، هذا في الوقت الذي يتوقع فيه خبراء ارتفاع تلك النسبة حال استمرَّ التمسك بالسياسات الاقتصادية الراهنة.