حملت الأيام الأخيرة تطورات كثيرة إلى تونس، بدأت بفشل الاستشارة الإلكترونية التي أطلقها الرئيس قيس سعيّد، والتي كان يُمني النفس بأن تكون قاطرته نحو تغييرات جذرية في النظام السياسي للبلاد، مرورًا بقلق الإدارة الأمريكية حيال المسار الديمقراطي في تونس، ووصولًا -وهو الأهم- إلى قرار مجلس النواب عقد جلستَين عامتَين للمجلس هذا الأسبوع للنظر في وقف إجراءات سعيّد ووضع البلاد الاقتصادي والاجتماعي.
تحرك البرلمان
بعد نحو أكثر من 8 أشهر من انقلاب قيس سعيّد على دستور بلاده ومؤسساته الشرعية، قرر مجلس النواب التونسي المجمدة أعماله عقد جلسة عامة غدًا الأربعاء، لإلغاء الإجراءات الاستثنائية التي أعلنها سعيّد في 25 يوليو/ تموز الماضي.
كما قرر مكتب المجلس المنعقد أمس تنظيم جلسة ثانية يوم الثاني من أبريل/ نيسان المقبل، للنظر في الأوضاع المالية والاقتصادية التي تعيشها تونس وأهمية مساهمة مجلس النواب في إنقاذ البلاد وضمان كرامة الشعب التونسي، وفق بيان صادر عن مكتب البرلمان.
يُذكر أن الرئيس قيس سعيّد قد أعلن نهاية يوليو/ تمّوز الماضي تعليق أعمال البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه، كما أقال حكومة هشام المشيشي، في خطوة قال إنها لتصحيح المسار الديمقراطي المتعثر في البلاد، فيما وصفه أغلب الفاعلين في الشأن العام التونسي بـ”الانقلاب”.
جاء قرار مكتب البرلمان، عقب دعوة 27 نائبًا من مختلف الكتل في البرلمان زملائهم لتحمُّل مسؤولياتهم التاريخية بغية الإسهام في إيجاد مخرج للأزمة التي تشهدها البلاد، من خلال عقد جلسة عامة تشاورية ونقاش الحلول الدستورية الممكنة بقصد وضع حدّ للإجراءات الاستثنائية ووضع إطار للحوار الوطني.
فشلت الاستشارة الإلكترونية رغم شيطنة الرافضين لها والتشكيك في وطنيتهم واستنفار محيط الرئيس لإنجاحها، وتسخير كل مقدرات ومؤسسات الدولة للترويج لها
للتصويت على أي قرار في البرلمان، يجب اكتمال النصاب القانوني وهو 109 أصوات من أصل 217، ويفترض حصول توافقات بين أغلب الكتل البرلمانية ونواب مستقلين، ما يعني أن الجلسة القادمة ستتمكّن من إصدار قرارات فيما يتعلق بالوضع في البلاد، من شأنها عودة المسار الديمقراطي واستئناف العمل بالدستور وعودة المؤسسات الدستورية لسالف نشاطها.
في ظل تواصل غلق مقرّ البرلمان ومنع النواب المنتخبين من الوصول إليه منذ يوليو/ تموز الماضي، سيضطر النواب لعقد الجلستَين العامتَين بشكل افتراضي، وهو ما يخوّله لهم القانون، وسبق أن عقد البرلمان التونسي جلسة عامة افتراضية احتفالًا بذكرى المصادقة على الدستور.
ويرى غالبية الطيف السياسي في تونس أنه بعد مضيّ نحو 8 أشهر من إعلان قيس سعيّد إجراءاته الاستثنائية، لم يتحقق شيء من وعوده بل انحرف عن الأهداف المعلنة لها، واستحوذ على جميع السلطات، وسخّر مؤسسات الدولة للدعاية لمشروعه السياسي.
قلق أمريكي
الضغط الممارَس على سعيّد لم يكن من الداخل فقط، إذ أعربت الولايات المتحدة، أمس الاثنين، عن قلقها بشأن “المسار الديمقراطي في تونس”، وأكّدت على “أهمية إطلاق عملية إصلاح سياسي واقتصادي تشاركية يدلي فيها المجتمع المدني بصوته”.
وشددت وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية للأمن المدني والديمقراطية وحقوق الإنسان، عُزرا زِيّا، في بيان على “ضرورة احترام حقوق الإنسان، بما في ذلك حرية التعبير وحرية النظم لجميع التونسيين، على النحو المنصوص عليه في الدستور والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية”.
كما أكدت المبعوثة الأمريكية على أن “القضاء المستقل أساسي لنظام ديمقراطي متماسك وسليم”، وحثّت الحكومة التونسية على “الكف عن محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية ومقاضاة الأفراد من أجل ممارسة سلمية لحرية التعبير”، وفق البيان ذاته.
مساعدة وزير الخارجية عزرا زيا:اجتمعت مع وزير الخارجية عثمان الجرندي لمناقشة القلق الأمريكي بشأن المسار الديمقراطي التونسي وأهمية عملية إصلاح سياسي واقتصادي شاملة تعطي المجتمع المدني صوتا قويا. ناقشنا أيضا التأثير الرهيب للغزو الروسي لأوكرانيا الذي عرض أكثر من1000 تونسي هناك للخطر https://t.co/2WnPILi3Ti
— U.S. Embassy Tunis (@usembassytunis) March 27, 2022
يأتي ذلك، عقب زيارة استمرت 5 أيام لوكيلة وزارة الخارجية الأمريكية للأمن المدني والديمقراطية وحقوق الإنسان عُزرا زِيّا، التقت فيها بـ”كبار المسؤولين الحكوميين التونسيين، بمن فيهم رئيسة الحكومة نجلاء بودن، ووزير الخارجية عثمان الجرندي، ووزير الداخلية توفيق شرف الدين، وممثلين عن المجتمع المدني”، وداعية إلى إجراء انتخابات حرة ونزيهة في تونس، وشددت على أهمية حماية حقوق الإنسان وحرية التعبير في البلاد، وأكّدت دعمها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس في وقت اشتدّ فيه الضغط الممارس على الهيئة من قبل الرئيس وحاشيته.
وسبق أن عبّرت الإدارة الأمريكية عن قلقها من تراجع الحقوق والحريات في ظل التدابير الاستثنائية للرئيس قيس سعيّد، والتي تسبّبت في تعطيل أغلب فصول الدستور، فضلًا عن تجميد عمل البرلمان وأغلب المؤسسات الدستورية في البلاد.
فشل الاستشارة
في الأثناء فشلت الاستشارة التي راهن سعيّد عليها كثيرًا، إذ لم تصل نسبة المشاركة، بانتهاء الآجال التي حدّدها لها الرئيس (20 مارس/ آذار)، سوى نسبة 5% من مجموع المواطنين الذين تجاوزت أعمارهم 16 سنة، كما نصت شروط المشاركة.
ولم يبلغ عدد المشاركين في هذه الاستشارة عدد الذين انتخبوا المرشح الرئاسي قيس سعيّد في الدور الأول من الانتخابات (بلغ عدد المشاركين 534915 شخصًا، بينما بلغ عدد من انتخب السيد قيس سعيّد في الدور الأول 620711).
فشلت الاستشارة الإلكترونية رغم شيطنة الرافضين لها والتشكيك في وطنيتهم واستنفار محيط الرئيس لإنجاحها، وتسخير كل مقدرات ومؤسسات الدولة للترويج لها بعيدًا عن القانون، حيث عملت مختلف الوزارات والمحافظات والبلديات والمعاهد الدراسية على تخصيص فرق كاملة للترويج للاستشارة وإنجاحها.
بنى سعيّد أطروحته للسيطرة على كل السلطات في تونس على ما اعتبره فساد البرلمان والخطر الداهم على البلاد من داخل الدولة نفسها
مثّل هذا الفشل صدمة لقيس سعيّد والمحيطين به، فقد كان الرئيس حريصًا على نجاح الاستشارة ذلك أنها تُعتبر قلب رحى مشروع سعيّد السياسي الشخصي الذي يريد المضيّ قدمًا في تحقيقه، ويربط سعيّد نجاح مشروع السيطرة على البلاد وفرض إرادته وبرنامجه المستقبلي للحكم بنجاح الاستشارة، لكن خاب ظنه.
وتزامن فشل الاستشارة مع تراجع الاقتصاد التونسي وفشل الحكومة في الحصول على تمويلات إضافية للموازنة العامة للدولة وتنامي الغليان الشعبي، فأغلب المواد الأساسية مفقودة من الأسواق، كما تشهد أسعار عدة مواد ارتفاعًا كبيرًا في ظل عجز السلطات على التحكم في السوق.
ارتباك سعيّد
أربكت هذه التطورات الرئيس قيس سعيّد، وهو ما جعله يُسارع لعقد اجتماع مجلس الأمن القومي -الذي يُعقد عادة فقط للنظر في الأوضاع الطارئة والعاجلة التي تمرّ بها البلاد التونسية- وذلك لبحث كيفية مجابهة هذه الضغوط.
عقب الاجتماع، نشرت صفحة رئاسة الجمهورية مقطع فيديو في وقت متأخر ليل الاثنين، حذّر فيه سعيّد من “محاولات البرلمان المعلقة أعماله عقد جلسات”، قائلًا إن “المساس بوحدة الدولة هو مسّ بأمنها وبأمن الشعب التونسي”، وأضاف: “الدولة والقوانين موجودان ولا مجال للتطاول عليهما”.
وشدّد الرئيس التونسي على أن “الدولة ليست دميةً تحرّكها الخيوط من الداخل والخارج (دون تقديم تفاصيل أخرى)، ومؤسسات الدولة التونسية لا تقوم على الإرساليات القصيرة”، وأضاف: “ما حصل اليوم، وما اُعتبر اجتماعًا افتراضيًّا، هو أمر غير قانوني لأنّ عمل المكتب (مكتب مجلس البرلمان) أيضًا مجمّد كما هو حال المجلس (البرلمان)”، وفق تعبيره.
يعقد #مكتب #مجلس_نواب_الشعب غدا الاثنين 28 مارس 2022 جلسة عن بعد على الساعة الحادية عشرة صباحا استجابة لدعوة #رئيس_البرلمان. وسيتباحث المكتب في مقترح عقد جلسة عامة للتداول في الكثير من المسائل الدستورية والقانونية المتعلقة بشؤون البلاد.#تونس #برلمان
— wassim khadraoui dalil ?? (@DalilWassim) March 27, 2022
أكد سعيّد وجود قوات ومؤسسات ستصدّ من يريد أن يعبث بسيادة تونس أو أن يصل إلى الاقتتال الداخلي، في إشارة إلى نواب البرلمان الذين يعتزمون عقد جلسة عامة غدًا الأربعاء لوقف العمل بإجراءات الرئيس الاستثنائية التي قررها ليلة 25 يوليو/ تموز الماضي.
يخشى قيس سعيّد أن يرجع البرلمان لسالف نشاطه وينازعه السلطة، بعد أن ظنَّ أنه تخلّص منه للأبد في يوليو/ تموز الماضي بعد تأويله النص الدستوري لصالحه، ومن شأن الجلسات العامة إن تمَّ عقدها في موعدها وإصدار قرارات عنها أن تمثل ضغطًا كبيرًا على سعيّد، وتحرجه أمام الرأي العام الداخلي والخارجي.
#تونس الرئيس قيس سعيد يصف اجتماع مكتب مجلس النواب المعلقة أعماله بأنه “محاولة انقلاب على الدستور”.
— Bassam Bounenni بسام بونني (@bbounenni) March 28, 2022
وبنى الرئيس التونسي أطروحته للسيطرة على كل السلطات في تونس على ما اعتبره فساد البرلمان والخطر الداهم على البلاد من داخل الدولة نفسها، إلا أن 8 أشهر من جمعه لكل السلطات كانت كفيلة حتى تؤكد للرأي العام المحلي والخارجي زيف ادّعاء سعيّد ومساهمته في تأزيم الوضع أكثر في تونس.
لا يمكن توقع ما يمكن أن يقوم به سعيّد في حال نجاح البرلمان في عقد جلسة عامة وإصدار قرار بإبطال قرارات ليلة 25 يوليو/ تموز الماضي، لكن ما هو مؤكد أن الضغط يزداد بشكل مطّرد على الرئيس، وأن مساحات المناورة المتاحة له بدأت تتقلص في ظل تنامي حالة الغليان الشعبي.