ترفض العديد من الدول الأجنبية استعادة رعاياها وخاصة الأطفال من مخيمَي الهول وروج آفا شمال شرق سوريا، الواقعَين تحت إدارة “قسد”، فمنذ الإعلان عن هزيمة تنظيم “داعش” في سوريا في آخر تحصين له بمنطقة الباغوز في ريف دير الزور، مارس/ آذار 2019، ظهرت مشكلة عائلات عناصره المنتمين لجنسيات مختلفة.
منظمات إنسانية عديدة كانت قد حذّرت من مخاطر بقاء هؤلاء الرعايا، وخاصة الأطفال والنساء، وسط مخيمات تفتقر لأدنى مقومات الحياة، من بينها منظمة “أنقذوا الأطفال”، التي أكّدت أن الأطفال الأجانب في مخيمات شمال شرق سوريا بحاجة إلى 30 عامًا حتى يتمكنوا من العودة إلى ديارهم، في حال استمرت إجراءات عمليات إعادتهم البطيئة من حكوماتهم، داعية تلك الحكومات إلى تسريع إجراءات الإعادة، وأن 18 ألف طفل عراقي و7300 آخرين من 60 دولة عالقون في مخيمَي الهول وروج آفا وسط ظروف “مريعة وغير آمنة”، حسب وصفها.
في حين سُجلت وفاة 74 طفلاً في مخيم الهول خلال العام الماضي، بينهم 8 قتلوا بجرائم، كما قُتل طفل وأصيب 3 آخرين و3 نساء بإطلاق نار في المخيم الشهر الماضي، حسب إحصاءات المنظمة.
في 23 فبراير/ شباط من العام الحالي، سلّمت الإدارة الذاتية شمال شرق سوريا 9 أطفال روس من مخيم روج آفا لمساعد رئيس مفوضية حقوق الطفل الروسية، سيرغي إيجوريفيتش، بعد تأكيد هويات الأطفال عبر سحب عيّنات من الحمض النووي منهم.
وخلال مؤتمر صحفي بالتاريخ نفسه، جمع نائبة الرئاسة المشتركة لدائرة العلاقات الخارجية للإدارة الذاتية شمال شرق سوريا، عبير إيليا، مع إيجوريفتيش، أكّدت إيليا أن “الأطفال الذين تمّ تسليمهم إلى الحكومة الروسية هم يتامى الوالدَين ومن الحالات الإنسانية، تتراوح أعمارهم ما بين 5 سنوات و16 سنة”، مشيرة إلى أن “هذه الدفعة هي الثامنة، حيث وصل إجمالي عدد الأطفال المسلَّمين لروسيا 244 طفلًا منذ عام 2018”.
مخاطر صحية
وتثير قضية إعادة رعايا عائلات عناصر “داعش” من مخيمات تابعة لقوات “قسد” سجالات واسعة بين الحكومات الأوروبية ومنظمات حقوقية، ففي الوقت الذي حرصت فيه دول قليلة على إعادة الزوجات والأطفال فقط، تتردد أغلب الحكومات في استعادة باقي مواطنيها الجهاديين الذين قاتلوا في صفوف “داعش” خلال نشاط التنظيم وهيمنته على مناطق واسعة في سوريا والعراق، والذين وقعوا في أسر قوات “قسد” والتحالف بعد معارك عنيفة خلال السنوات الماضية.
هذا الأمر، دعا مفوضة مجلس أوروبا لحقوق الإنسان، دنيا مياتوفيتش، إلى إصدار بيان في يوليو/ تموز 2021، طالبت فيه الدول الأعضاء البالغ عددها 47 دولة بالسماح بعودة مواطنيها المعتقلين من سوريا بسبب التحاقهم بتنظيم “داعش”، لافتة إلى أن إخراج جميع الأطفال الأجانب من المخيمات أولوية مطلقة وإلزامية، وأنه يتعين ترحيل أمهاتهم معهم.
وتعاني عائلات المنتمين لـ”داعش” ظروفًا إنسانية سيّئة وخاصة الصحية في معسكرات احتجازها شمال شرق سوريا، حيث أشارت أرقام نشرتها منظمة “هيومن رايتس ووتش” في مارس/ آذار 2021 إلى أن 43 ألف رجل وامرأة وطفل أجنبي مرتبطين بعناصر “داعش” محتجزون في ظروف لا إنسانية ومهينة من قبل السلطات الإقليمية شمال شرق سوريا، بينهم 27500 طفل معظمهم في معسكرات مغلقة.
وحول تلك الظروف المأساوية التي يعيشها المنتمون للتنظيم وأطفالهم، وصف همام عيسى، وهو صحفي سوري مطّلع، لـ”نون بوست” حجم الكارثة الحقيقية التي يشهدها مخيم روج، والناجمة عن الأوضاع الصعبة التي يمرُّ بها المخيم، حيث قال: “هناك كمّ هائل من رعايا الدول الأجنبية المنتمين لـ”داعش” وخاصة الأطفال ترفض دولهم استعادتهم، يواجهون نقصًا في المساعدات التي تقدّمها الأمم المتحدة”.
وتابع عيسى: “توفي 50 طفلًا في المخيم العام الفائت نتيجة سوء الأحوال الصحية ونقص الأدوية والأغذية والنقص الحاد في الرعاية الصحية من جهة، وتقاعس المنظمات الدولية وتباطؤ الكثير من الدول في العالم في إعادة رعاياها، وخاصة الأطفال العالقين في مخيمَي روج آفا والهول، من جهة أخرى”.
تعليق المحاكمات بالمكان أو غياب القضاء
وفي ظل عجز قوات “قسد” عن إجراء محاكمات للمحتجزين المنتمين للتنظيم، تغضّ الحكومات الطرف عن معالجة أوضاعهم، ونقلهم من مرحلة الحبس التعسفي إلى محاكمات عادلة على الأقل بحقّ المحتجزين المشتبه بارتكابهم جرائم خطيرة، وبالتالي نقلهم إلى سجون ليبدأوا إمضاء محكومياتهم بدلًا من الاحتجاز غير القانوني، واتخاذ أسلوب العقاب الجماعي لآلاف الأشخاص معظمهم من النساء والأطفال الصغار.
وفيما يتعلق بهذا الأمر، رأى رائد الحامد، باحث في أربيل وخبير في شؤون الجماعات الجهادية، في حديثه لـ”نون بوست”، أن “هناك الكثير من الإشكالات القانونية المتعلقة باستمرار احتجاز الآلاف من أطفال ونساء عوائل تنظيم الدولة لسنوات في مخيم الهول أو مخيم روج، فـ”قسد” في الحقيقة هي ليست دولة، ورغم وجود مناطق إدارة ذاتية خاضعة لسلطتها أمنيًّا وعسكريًّا وإداريًّا، إلا أن هذا لا يعطيها الحق القانوني في إجراء محاكمات للمعتقلين الأجانب المنتمين للتنظيم”.
ويكمل الحامد: “إلى جانب ذلك، فإن وجود هذه الأعداد الكبيرة من المحتجزين يثقل كاهل قوات “قسد””، فضلًا عن أن “هناك دولًا أخرى تطالب بمحاكمة مواطنيها في سوريا، البلد الذي اُعتقلوا فيه، على اعتبار الاختصاص المكاني لكون الاتهامات الموجَّهة إليهم تتعلق بمكان ارتكاب الجرائم”.
وأضاف الحامد أنه “منذ بدايات عام 2021 كانت هناك دعوات جدّية لاستعادة الدول الأوروبية وجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق مواطنيها المحتجزين في مخيمَي الهول وروج، وقد تكون هناك استجابة لكنها تظلّ دون تلبية الحد الأدنى، كما أن معظم هذه الدول تختلق المزيد من الذرائع لعدم عودة مواطنيها، بل إن بعضها سحبت جنسيات أعداد منهم لمنع عودتهم، وهو ما أضاف إشكالات قانونية أخرى تزيد من أوضاع هؤلاء تعقيدًا، وتصعّب مهمة قوات “قسد” في إيجاد مخرج لمشكلة المحتجزين الأجانب”.
وعن سبب تباطؤ الدول في الوقوف أمام مسؤولياتها تجاه رعاياها، أجاب الحامد: “الدول التي تضع المزيد من العراقيل التي تحول دون عودة مواطنيها من مخيمات قوات “قسد”، تتخوّف من مستقبل هؤلاء بعد عودتهم، واحتمالات نشر الفكر المتطرف أو الجنوح ثانية نحو تنفيذ أعمال إرهابية في بلدانهم الأصلية”.
كما لفت إلى أن “استمرار وجود هؤلاء في المخيمات وفي بيئة تشجّع على التطرف نتيجة الشعور بالظلم من المجتمع الدولي، وعدم قبول إدماجهم في مجتمعاتهم الأصلية، ونبذهم وعزلهم عن محيطهم الاجتماعي، كل هذا وغيره سيجعل منهم بيئة خصبة لإنتاج نسخة أكثر توحُّشًا من تنظيم الدولة الذي خسر الكثير من حاضنته الاجتماعية، وسيشجّع على المزيد من القبول بالتنظيم والتجنيد في صفوفه”.
واعتبر الحامد أن “قبول الدول باستعادة مواطنيها ومحاكمتهم على أراضيها، وإعادة تأهيل الأطفال والنساء من مواطنيها فكريًّا وإعادة إدماجهم في مجتمعاتهم الأصلية، يمثّلان الحلَّ الأمثل لحلِّ مشكلة النساء والأطفال في الجانبَين الإنساني والأخلاقي، ومنع انتشار الفكر المتشدّد ثانية في الجانب الأمني”.
من دون حلول
مع ازدياد القلق من عودة ظاهرة “أشبال الخلافة” إلى الواجهة مجددًا في مخيمات الاحتجاز، بعد ملاحظة ترديد الأطفال شعارات التنظيم المتطرفة وإنشاد بعض أناشيده التي ظهرت في مقاطع مرئية خلال فترة سيطرته على مناطق واسعة في سوريا والعراق، تبقى الحلول الإسعافية من كل الأطراف وخاصة الأطراف السورية غائبة، وسط احتمالية تحول الأطفال بعد عدة سنوات وبشكل تلقائي إلى مقاتلين جدد مشبعين بأفكار التنظيم، بسبب غياب البرامج التأهيلية وتصحيح مفاهيم الأفكار المتطرفة، وإخراجها من عقول هؤلاء الرعايا وخاصة الأطفال.
وفي إشارة إلى ذلك، تقول نور الخطيب، عضو “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، لـ”نون بوست”، إنه “طالما لم يكن هناك برامج لدمج وإعادة تأهيل الأطفال وذويهم، فمستقبلهم سيكون كارثيًّا ليس فقط باحتمالية تطرفهم واستغلالهم من قبل تنظيم “داعش”، بل حتى على كافة الصعد الاجتماعية والتعليمية”.
لافتة إلى أنه إذا لم تقُم أية دولة باستعادتهم مستقبلًا، فيجب على الأطراف السورية إنشاء الآليات القانونية لتنظيم أوضاعهم وتأهيلهم، و”هذا أعتقد أنه غير متاح على المدى القريب”، حسب وصفها.
وطالبت “الشبكة السورية” الدول الأجنبية باستعادة رعاياها ومحاكمتهم وعدم تركهم محتجزين لدى “قسد”، وأن يتمَّ معالجة ملف الأطفال بوصفهم ضحايا أولًا، بصرف النظر عن هويتهم وانتماءات أهاليهم، إذ اعتبرت الخطيب أن “بقاءهم في المخيمات بأوضاعهم الحالية واستمرار احتجازهم لأمد أطول هو بمثابة عقوبة جماعية، خاصة أن الدول التي لديها مواطنين كانوا مرتبطين بتنظيم “داعش” لم تبذل جهودًا حقيقية لإعادتهم ومحاكمتهم أو إعادة دمجهم، بل على العكس لاحظنا تبرُّؤ الدول منهم ونزع الجنسية عنهم وعدم الرغبة في إعطاء الأطفال الجدد الجنسية، ما تسبّب في خلق المئات من مكتومي القيد”.
ومع تلك الظروف المحيطة برعايا التنظيم وأطفالهم في المخيمات وغياب برامج التأهيل، لا بدّ أن تدفعهم بشكل أو بآخر نحو التطرف أكثر فأكثر فعليًّا، ما لم تقدَّم طرق من شأنها إعادتهم إلى أوطانهم الأصلية، وإعادة دمجهم في المجتمع، ومع وجود البيئة الخصبة لتطرفهم في تلك المخيمات فسيكون هناك مشكلة أكثر تعقيدًا، تتمثل في مقاتلين جدد بعد 5 أو 7 سنوات من الآن.