أسدل الستار على جولة المفاوضات الجديدة التي عقدت الثلاثاء 29 مارس/آذار 2022، بين الوفدين الروسي والأوكراني في قصر “دولما بهتشي” الرئاسي بمدينة إسطنبول التركية، بحزمة من القرارات التي اعتبرها الوفدان والوسيط “إيجابية وبناءة” وسط حالة من التفاؤل بشأن تبريد الحرب التي دخلت يومها الـ37.
المباحثات التي استغرقت 3 ساعات فقط، وصفها وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، بأنها “التقدم الأهم منذ بدء المفاوضات”، لافتًا إلى أنها لن تستكتمل اليوم الأربعاء كما كان مقررًا لها سابقًا (يومي الثلاثاء والأربعاء 39-30 مارس/آذار حسب وكالة الأناضول) دون إبداء أسباب، فيما فُسر بأنها محاولة لإعطاء الطرفين فرصة لمناقشة ودراسة المقترحات المقدمة خلال تلك الجولة.
الأجواء الإيجابية التي شهدتها المفاوضات الأخيرة، سواء على مستوى لغة الخطاب المستخدم أم المخرجات النهائية، التي تختلف جملةً وتفصيلًا عن الجولات السابقة في بيلاروسيا وأنطاليا، رفعت بورصة التكهنات باحتمالية التوصل إلى قرار بوقف إطلاق النار قريبًا رغم نفي موسكو لهذه الخطوة حاليًّا دون إبرام اتفاق ملزم للجميع وبضمانات دولية، وسط تشكيك أمريكي أوروبي في نوايا الروس الحقيقية في إنهاء تلك الحرب.
بداية ماذا تريد موسكو وكييف؟
في تقرير مطول لها تساءلت صحيفة “إلبايس” الإسبانية عن دوافع كل من موسكو وكييف من وراء الدخول في تلك المفاوضات، وماهي شروط كل منهما التي تسعى لتحقيقها من خلال هذه الجولة الجديدة من المباحثات، لافتة أن العقبة الرئيسية أمام تلك الجولة الجديدة من الحوار هي “وحدة الأراضي الأوكرانية وسيادتها” حيث تدور الكثير من الخلافات تحت هذا العنوان الكبير.
وأوضحت أن مطالب روسيا للاستجابة لدعوات وقف إطلاق النار لم تتغير كثيرًا عن تلك التي رددها الرئيس فلاديمير بوتين مع اليوم الأول للحرب، وتتمثل في قبول أوكرانيا وضعية الحياد والتخلي عن الانضمام لحلف الناتو، مع إقرار ذلك رسميًا في دستورها الوطني، بجانب الاعتراف الأوكراني بشبه جزيرة القرم كأرضي روسية، الأمر ذاته مع جمهوريتي دونيستك ولوغانسك الانفصاليتين، اللتين أعلنتا استقلالهما مؤخرًا بصورة منفردة.
وفي الجهة الأخرى تدخل كييف تلك المباحثات واضعة نصب عينينها ثلاثة شروط رئيسية لإبرام اتفاق سلام مع الروس، أولها الحصول على ضمانات أمنية لحمايتها من أي اعتداءات مستقبلية، ثانيها: الاعتراف بوحدة أراضيها داخل حدودها المعترف بها دوليًا ومنها بالطبع شبه جزيرة القرم وبقية إقليم دونباس كاملا، ثالثها: وقف إطلاق النار وانسحاب الجيش الروسي، بجانب فتح ممرات إنسانية لإجلاء السكان من المناطق المحاصرة من قبل القوات الروسية مع التزام صريح من موسكو بعدم مهاجمة المدنيين الفارين.
تقدم ملحوظ وتفاؤل نسبي
لأول مرة يُجمع الوفدان، الروسي والأوكراني، على إحراز المباحثات بينهما تقدم ملحوظ، فقد وصفتها موسكو بـ”المفيدة”، فيما أعلن رئيس الوفد الأوكراني أن ما أحرزته تلك الجولة من تقدم يسمح بعقد لقاء رسمي بين رئيسي البلدين، رغم استبعاد الجانب الروسي لهذا المقترح في الوقت الحاليّ، معتبرًا أنه سيأتي “بنتائج عكسية”.
ميدانيًا.. أعلن نائب وزير الدفاع الروسي ألكسندر فومين، تقليص النشاط العسكري في منطقتي كييف وتشيرنيهيف بشكل جذري، وهي الخطوة التي جاءت “نظرًا إلى أن المحادثات عن إعداد اتفاق بشأن وضع أوكرانيا المحايد وخلوها من الأسلحة النووية انتقلت إلى مرحلة عملية” على حد قوله.
سياسيًا.. كشف رئيس الوفد الروسي فلاديمير ميدينسكي، عما وصفه “خريطة طريق” للاتفاق المنتظر توقيعه بين الطرفين، لافتًا إلى أن الأمر يتطلب بداية إعداد وثيقة هذا الاتفاق التي يجب أن يتم التوافق عليها من الوفدين ثم يصادق عليها وزيرا خارجية البلدين، وبعدها يكون الحديث عن لقاء الرئيسين للتوقيع عليها رسميًا، وذلك بمشاركة بعض الدول الضامنة التي تم الإعلان عنها ابتداء وهي تركيا و”إسرائيل” وبولندا وكندا.
وفي سياق كسر الجمود في الملفات الصلبة بين الطرفين، أكد الوفد الأوكراني أن كييف لن تنضم لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، تلبيةً للمطلب الروسي لتحقيق ضماناته الأمنية، فيما أكد رئيس الوفد أن بلاده لن تستضيف قواعد عسكرية أجنبية على أراضيها، ولن تدخل في أي تحالفات عسكرية سياسية، لكن في الوقت ذاته لن تتخلى أوكرانيا عن فكرة الانضمام للاتحاد الأوروبي وهو الطلب الذي لم تبد موسكو أي اعتراض عليه خلال المباحثات، بجانب تعهد أوكراني بمحاسبة المتجاوزين بحق الأسرى الروس.
اللافت هنا أن المفاوضات بين موسكو وكييف بدأت لأول مرة تنتقل من الإطار الدبلوماسي البحت الذي يكتفي بالتصريحات الإعلامية والسياسية إلى الشق العملي، حيث الإجراءات والقرارات على أرض الواقع، وهو ما يجعل مفاوضات 29 مارس/آذار أرضية مشتركة يمكن الوقوف عليها لتدشين هدنة أولى تمهد لوقف التصعيد ومن ثمّة التوصل لاتفاق ينهي الحرب.
أبراموفيتش.. حضور يثير الجدل
يبدو أن الإعداد لتلك الجولة كان أكثر موضوعية وتركيزًا من الجولات السابقة، هذا بخلاف التنسيق المسبق بين القوى الداعمة لطرفي المفاوضات، فضلًا عن محاولة أنقرة استثمار كل قدراتها الدبلوماسية لإنجاح تلك المباحثات، وهو ما يمكن قراءته مثلًا في حضور الملياردير الروسي رومان أبراموفيتش في تلك المفاوضات، وذلك بعد ساعات من خروج تقارير تفيد بتعرضه للتسمم واثنين من المفاوضين الأوكرانيين، بعد محادثات في أوائل مارس/آذار الحاليّ.
الصور التي التقطت للملياردير الروسي مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تشير إلى وجود تنسيق مسبق في ضوء ما أثير بشأن قيام أبراموفيتش بدور الوساطة بين موسكو وكييف خلال الأيام الماضية، خاصة وهو أحد المتضررين من تلك الحرب التي تسببت في تجميد أرصدته في بريطانيا ونزع رئاسة نادي “تشيلسي” الإنجليزي منه.
مشاركة أبراموافيتش جاءت بصفته وسيط محايد، حسبما ذكرت وسائل الإعلام الأوكرانية، فيما أكد المتحدث باسم الكرملين أنه ليس عضوًا رسميًا في الوفد الروسي في إسطنبول، غير أن السفير الأوكراني في بريطانيا، فاديم بريستايكو، انتقد وجود الملياردير الروسي لافتًا إلى أنه ليس طرفًا في تلك المفاوضات.
Erdogan and Abramovich are photographed together in Istanbul’s Dolmabahce Palace where Ukraine talks are underway. Picture is Ria via @maxseddon pic.twitter.com/7cFqFXKTHu
— Ragıp Soylu (@ragipsoylu) March 29, 2022
شكوك غربية
من الواضح أن التصريحات الروسية بشأن تخفيف التصعيد العسكري والاستجابة للمسار الدبلوماسي لم تحظ بالثقة الكاملة لدى الرئيس الأوكراني ذاته، الذي قال في خطاب متلفز له تعليقًا على مخرجات جولة الأمس: “يمكننا القول إن الإشارات التي نسمعها من المفاوضات إيجابية، لكن تلك الإشارات لا تخفي الانفجارات أو القذائف الروسية”، معربًا عن شكوكه بشأن النوايا الروسية قائلًا: “لن نخفض جهودنا الدفاعية”.
الشكوك ذاتها خيمت على رد الفعل الغربي، فقد علق الرئيس الأمريكي جو بايدن، على التصريحات الروسية على هامش المباحثات، خلال مؤتمر صحفي له مع رئيس وزراء سنغافورة الذي يزور بلاده حاليًّا قائلًا: “سنرى. لن أقرأ أي شيء فيه (الإعلان الروسي) حتى أرى ما هي أفعالهم. سنرى ما إذا كانوا يتابعون ما يقترحونه”، وهي التصريحات ذاتها الصادرة عن وزير الخارجية أنتوني بلينكن الذي قال: “لم أر ما يشير إلى أن الأمور تتحرك بطريقة فعالة، لأننا لم نلمس مؤشرات جدية حقيقية”، وتابع “هناك ما تقوله روسيا وهناك ما تفعله. وهذا الأخير هو ما نركز عليه”.
هناك بعض الشواهد الأخيرة على الجانب الروسي ربما تعزز من تلك الشكوك منها على سبيل المثال ما جاء على لسان وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، من أن بلاده حققت كل أهداف المرحلة الأولى من العملية العسكرية داخل أوكرانيا، ما يعني أن قرار تخفيض التصعيد قرار لوجستي بحت، بعد تحقيق الأهداف العسكرية الأولية، وليست التزامًا بالمسار الدبلوماسي الحاليّ، هذا بخلاف ما يثار بشأن استدعاء عدد كبير من قوات الاحتياط الروسية استعدادًا لعمليات قريبة.
وعن الانسحاب الروسي من كييف وحدودها، أو على الأقل تخفيض التصعيد هناك، قالت وزارة الدفاع الأمريكية إن السبب الرئيسي وراء هذا التحول هو فشل الروس في اقتحام العاصمة، أو السيطرة على مناطقها الإسترايتيجة في ظل المقاومة الشرسة من القوات الأوكرانية، وعليه كان الانسحاب إجباريًا وليس خياريًا أمام موسكو، بحسب البنتاغون.
وتتفق المخابرات العسكرية البريطانية مع الرؤية الأمريكية بشأن حقيقة وجدوى التحول الروسي الأخير، فأرجعت لندن تخفيف التصعيد في كييف إلى الخسائر التي تكبدتها القوات الروسية ما أجبرها على العودة إلى روسيا وبيلاروسيا المجاورة لإعادة تنظيم نفسها وإعادة التزود بإمدادات، فيما قالت وزارة الدفاع البريطانية: “تضع مثل هذه الخطوة مزيدًا من الضغط على اللوجستيات الروسية المرهقة بالفعل، وتوضح الصعوبات التي تواجهها روسيا في إعادة تنظيم وحداتها في المناطق الأمامية داخل أوكرانيا”.
إقليم الدونباس.. الهدف الأبرز حاليًّا
تذهب العديد من المؤشرات إلى أن إقليم “دونباس” الشرقي سيكون محور تركيز العمليات الروسية خلال الفترة المقبلة، وهو ما يمكن قراءته من خلال إعادة تموضع بعض الوحدات الروسية قرب كييف فيما يفهم منه على أنه تحضير للقيام بـ”هجوم كبير” في مكان آخر من البلاد بحسب “البنتاغون”.
التصريحات الواردة عن المسؤولين التنفيذين الأوكرانيين تشير إلى عدم انسحاب القوات الروسية من أماكنها، وأن ما حدث ليس إلا إعادة ترتيب للوحدات وتموضعاتها بعد الخسائر التي تلقتها على أيدي الجيش الأوكراني، فيما أكد حكام المدن الواقعة ضمن إقليم الدونباس تكثيف الروس لهجماتهم ضد مناطق متفرقة من الإقليم في محاولة لإحكام السيطرة عليه في أقرب وقت.
بحسب هؤلاء المسؤولين فإن الروس يخططون لتنظيم موجة جديدة من التعبئة اعتبارًا من 1 أبريل/نيسان القادم في لوغانسيك، بينما تكثف القوات الروسية انتشارها في زاباروجيا وخيرسون، وتعيد نشر معداتها العسكرية داخل الأحياء السكنية، هذا بخلاف نشر بعض نقاط التفتيش على أطراف مليتوبول لاختطاف الناشطين وعرقلة المقاومة ومناهضة الداعمين للجيش الأوكراني.
وزارة الدفاع الأوكرانية أشارت إلى أن قواتها تصدت لأربع هجمات للقوات الروسية في دونيتسك ولوغانسك وكبدتهم خسائر فادحة، فيما قال حاكم منطقة لوغانسك، سيرغي غايداي، على حسابه على “تيليغرام”، إنّ مدفعية ثقيلة قصفت مناطق سكنية في مدينة ليسيتشانسك صباح اليوم الأربعاء 30 مارس/آذار، قائلًا: “تضرر عدد من المباني الشاهقة. يجري التحقق من المعلومات بشأن الضحايا.. انهارت كثير من المباني. يحاول رجال الإنقاذ إنقاذ أولئك الذين ما زالوا على قيد الحياة”، مضيفًا “القصف تسبب في فصل 185 محطة كهرباء فرعية وانقطاع التيار عن 30 ألف شخص”.
في ضوء ما سبق، رغم الشكوك التي خيمت على الساحة فإن الأجواء الإيجابية التي شهدتها مباحثات إسطنبول والنتائج الأولية التي خرجت بها ربما تكون خطوة بناءة نحو تخفيف التوتر العسكري – إن كانت هناك إرادة حقيقية من موسكو وكييف -، لكن تبقى الأيام القادمة فترة تقييم واختبار ميداني لجدية الروس في قرارتهم المعلنة، وما إذا كانت رضوخًا لفشل ميداني ومحاولة لكسب الوقت لإعادة تموضع جديد أم ميل نحو التهدئة وتغليب الدبلوماسية على صوت الانفجارات بعدما ثبت أن تلك الحرب لا رابح فيها وأن الجميع بلا استثناء خاسر، وإن كان بنسب متباينة.