ترجمة وتحرير: نون بوست
أُغلقت آخر حفرة في قرية “أوشي لي ماينز” بشمال فرنسا في سنة 1974، لكن ما زال الخراب يلوح من بعيد عبر الأراضي الزراعية المسطحة؛ حيث تشهد على الماضي القوي لحوض التعدين، والذي وفر منذ قرن فرص عمل لنحو 130 ألف شخص، بينما اليوم معدل البطالة في المنطقة أعلى من المعدل الوطني بعشر نقاط. وأصبحت ممرات المناجم المهجورة مواقع تراث صناعي؛ حيث يعيش واحد من كل خمسة تحت خط الفقر في فرنسا بدخل يبلغ 1100 يورو (1200 دولار) في الشهر.
كل أربعاء تتوقف شاحنة “ما بتيت إيبيس ريت” التطوعية للطعام، أمام كنيسة من الطوب الأحمر في “أوشي لي ماينز” لبيع الطعام المخفض الذي اقترب تاريخ انتهاء صلاحيته، ولشراء هذه المنتجات يجب على السكان إظهار ما يثبت أنهم يعيشون على أقل من 10 يورو في اليوم، بعد دفع التكاليف المنزلية، وتخدم الشاحنة حوالي ألف شخص في هذه المدينة وحدها، والمزيد في القرى المجاورة التي تزورها كل أسبوع؛ حيث يقول صاحب متجر يقع في الشارع الرئيسي: “الناس هنا مختنقون من الحياة اليومية”.
ويصف الجغرافي “كريستوف غيليو” القرية التي تتجاوزها القطارات مثلما تجاوزها نسيم الطموح بـ “فرنسا المهمشة”، فيما تقول بيجي بيليكي – التي أنشأت شاحنة طعام قبل سنة تملأها بالتفاح والبطاطس والملفوف وفطائر الشوكولاته وغيرها – أنها ترى أشكالًا مختلفة من الناس، من المتقاعدين للآباء الوحيدين، وتقول: “ما نقدمه هو نوع من الدعم المعنوي”.
لسنوات؛ تطلعت هذه القرية من الطبقة العاملة للحزب الشيوعي لتقديم الدعم المعنوي والحلول الأيديولوجية؛ حيث إن المحافظ الحالي “جان ميشيل ليجراند” من نفس الحزب، كما كان أسلافه الممتدين لنصف قرن، لكن الأحزاب القديمة لليسار الفرنسي خسروا بشكل متزايد العمال ذوي الياقات الزرقاء “عمال الأعمال الشاقة”، خاصًة في الانتخابات الوطنية، فيقول ديفيد جريجني، صانع الخِزانات السابق والذي ظل عاطلًا لمدة 13 سنة، أن الأحزاب السياسية “لم تعد تمثل الطبقة العاملة”، ولم يقرر إذا كان سيصوت هذه السنة.
لا يوجد نقص في الأحزاب التي تحتاج لصوته؛ حيث تعهد جان لوك ميلينشون من اليسار المتشدد وذو الـ 70 سنة، برفع الحد الأدنى للأجور، وخفض سن التقاعد إلى 60 سنة، وإلغاء الدين العام والانسحاب من الناتو، بينما المرشح الآخر هو إريك زامور، الذي أدين بالتحريض على الكراهية العنصرية، والذي كان آخر أزيز له هو “إعادة الهجرة”، أو السياسة المتمثلة في إعادة 1 مليون مهاجر “للوطن”.
“لقد فقدنا قيمنا. نحن نجرد بلدنا، ونجرد تاريخنا، ونجرد المجتمعات”.
في أحد أيام الأسبوع في الفترة الأخيرة، نجد إيمانويل دانجو – مديرة مبيعات – تصع المنشورات لمذيع تلفزيوني سابق في صناديق البريد لمنزل أنيق من الطوب مكون من طابقين، وتجادل بأن برنامج المرشح “يركز حقًا على استعادة بلدنا. لقد فقدنا قيمنا وجردنا بلدنا وتاريخنا”، وتضيف “إنه يقول بصوت عال ما يفكر به العديد من الفرنسيون في السر، حتى وإن لم يقدروا على قول هذا علنًا”، ويرى فريدريك ديويت، الذي يعيش في قرية مجاورة وينضم إليها في توزيع المنشورات، أن السيد زامور “رجل حضارة، رجل إلهي، يمكن أن ينقذ فرنسا”.
لكن المرشحة التي بذلت الكثير لتغترف الأصوات هي الوطنية الشعبية مارين لوبان، وهي الآن في وضع يتيح لها الترشح لجولتي إعادة الانتخابات الفرنسية في 10 و24 نيسان / أبريل، وعلى مر عقد من الزمان وعلى رأس الحزب الذي أسسه والدها جان ماري لوبان، نأت لوبان عن وحشية النازية الجديدة المرتبطة بحُكمه، وهذه الأيام تمزج الخطاب الصارم لمعاداة المهاجرين مع وعود بالمساعدة في تخفيف ارتفاع تكاليف المعيشة.
في الانتخابات الرئاسية الأخيرة في 2017، وجدت السيدة لوبان الدعم من الفقراء، في الأماكن الأكثر هامشية مثل أوشي لي ماينز، وفي جولة الإعادة، أيد 65 بالمائة من الناخبين السيدة لوبان، فيما أيد 35 بالمائة منهم فقط إيمانويل ماكرون.
إذا فاز ماكرون على لوبان للمرة الثانية، سيكون ذلك “جزئيًّا” بالإجماع، وفي حالة كان عدد الناخبين منخفضًا، فإن هذه الاتهامات ستتزايد، وسيكون حكم فرنسا الممزقة أصعب حتى على ماكرون في مرته الثانية.
وتقع ليل وهي عاشر أكبر مدينة فرنسية على بعد 30 كيلومترًا إلى الشمال الشرقي من أوشي لي ماينز، وكانت أنماط التصويت فيها تعطي صورة معاكسة لتلك التي في أوشي لي ماينز؛ حيث أيد نحو 78 بالمائة من الناخبين السيد ماكرون في جولة الإعادة.
وبنت ليل ثروتها من غزل القطن وصناعة الأقمشة، قبل أن تنتقل تلك الوظائف للأماكن منخفضة التكلفة في الخارج، ومؤخرًا اتكأت على هذا التاريخ لإعادة اختراع نفسها كمكان للابتكار؛ حيث يحتشد الشباب في الحانات في مركز البلدة القديمة، مع واجهتها الفلمنكية جديدة الطلاء ودارها للأوبرا، ومقهى “نوتينج هيل” ودروس اليوغا.
“لم أتخيل بالضرورة بناء شركة اليوم، لكن أدهشني التزام “ماكرون” بدوافعه”
يتحدث السيد ماكرون عن بناء ثقافة ناشئة، وتغيير النظام القديم، ويروج للذكاء التكنولوجي؛ حيث يقول فيكتور جينيون – البالغ 24 سنة – المؤسس المشارك لشركة “أوكتافيو” التقنية الناشئة في ليل، والذي يصمم منتجات صوتية لاسلكية، إنه ينسب الفضل للسيد ماكرون لدعمه في الابتكار، وكونه “قادرًا على دفع الناس لتقديم أفضل ما عندهم”. وقد وعد الرئيس الحالي بأن فرنسا ستنشئ 25 “وحيد قرن” أو شركات ناشئة تقدر قيمتها بأكثر من مليار دولار، بحلول سنة 2025، وتم الوصول لهذا الرقم في كانون الثاني / يناير هذا العام.
بالتأكيد في سنة 2017؛ كلما اقتربت من المدن الكبرى أو كلما زاد الارتباط بهم، زاد التصويت لماكرون، ففي إقليم باريس الخارجي وجد جيروم فوركيه، أستاذ العلوم السياسية، أنه في البلديات التي بها محطة سكة حديد، أيد ماكرون 77 بالمائة من الناخبين في الجولة الثانية، وكلما ابتعدت عن شبكة النقل العام في العاصمة في اتجاه الأماكن شبه الريفية التي تقع على بعد 20 كيلومترًا من المحطة، كان التفضيل للسيدة لوبان.
تبعد أوشي لي ماينز كثيرًا عن ليل بحيث لا يمكن ربطها بشبكتها العامة للترام أو السكك الحديدية في الضواحي، والحافلات هي وسيلة النقل العام الوحيدة، ومعظم القرويين يعتمدون على السيارات، والعديد من قاطني المنازل الطوبية ذات الطابقين لديهم أماكن لوقف سياراتهم في الشارع أو المرآب، وبينما يدعو ارتفاع أسعار الوقود للقلق، يتعامل السكان مع الحملات المناهضة للسيارات من قبل السياسيين الداعمين للبيئة على أنها إهانة. وفي أوشي لي ماينز؛ حيث تمتلك 85 بالمائة من الأسر سيارة واحدة على الأقل، يستاء المحليون من فكرة أنه يجب معاقبتهم على استخدامهم إياها، مثلما وجد ماكرون بتجربته السلبية عندما اندلعت انتفاضة السترات الصفراء “جيليتس جاونز” في أواخر سنة 2018.
من المرجح أن يكون التوفيق بين فرنسا المترابطة وأطرافها المهمشة التحدي الأعظم الذي يواجهه السيد ماكرون، إذا – كما يبدو محتملًا – فاز بفترة ثانية، فعندما تم انتخاب السياسي المبتدئ لأول مرة، وعد بتوحيد الدولة المنقسمة، وبعد خمس سنوات، حول ماكرون فرنسا؛ حيث أصبحت صديقة أكثر للأعمال التجارية، وارتفع الدخل للأغنياء والفقراء، وانخفضت البطالة من 9.2 بالمائو إلى 7.2 بالمائة، وهناك مزيد من التدريبات المهنية أكثر من ذي قبل، وفي المناطق التي تعاني، خفض رسوم المدارس الابتدائية المبكرة للنصف وأدخل الفطور المجاني. وحتى في أوشين لي ماينز يوجد مدافعين للرئيس، فيقول أحدهم البالغ 70 سنة، مرتديًا نعلًا مطاطيًا “اعذرني، لكن لم تكن مهمة ماكرون سهلة منذ انتخابه”. وفي الشارع الرئيسي للقرية، حيث يوجد مطعم “أفضل كباب” للمأكولات السريعة بالقرب من وكالة تأمين مستقلة، يتفق أحد التجار أنه من “غير العادل” الحكم على الرئيس بقسوة، ماذا إذًا عن الوباء والحرب في أوكرانيا.
مع ذلك؛ لا تزال هناك حالة من عدم الثقة المستمرة في مخفض الضرائب والاستثماري المصرفي السابق، والذي يسميه السيد جرينجي – صانع الخِزانات السابق – بـ “رئيس الأثرياء”، فالكثيرين في أوشي لي ماينز يكافحون من أجل تفهمه، ويرون أنه لم يحكم أشخاص مثلهم، وهذا الأمر مهم لماكرون، ليس لأنه يحتاج للأصوات؛ حيث تشير الاستطلاعات أنه سيهزم أي مترشح في الإعادة، لكن لأن أي رئيس لفترة ثانية سيكون عليه حكم بلد ساخط ومتقلب، والذي يُظهر كيف يأخذ تعاسته تلك للشوارع بسهولة؛ فهي المكان الذي يسخر فيه الفرنسيون، من الجولة الثالثة من الانتخابات الرئاسية، وتتسم بعض مقترحات حملة ماكرون بكونها مثيرة للجدل، وليس أقلها وعده برفع سن التقاعد من 62 سنة إلى 65 سنة.
لا يزال السيد ماكرون في وضع يسمح له بالفوز ليس فقط بالرئاسة في نيسان /أبريل، لكن ربما أيضًا بالأغلبية في الانتخابات البرلمانية المقررة في حزيران/يونيو، والذي سيعطيه تفويضًا كافيًا للإصلاح، وبينما يهتم بتوضيح التغيرات التي يطمح إليها قبل التصويت للانتخابات، إلا أن هناك أصوات بالفعل تشكك في مدى القوة التي يمكن أن يكون عليها هذا التفويض، حيث تقول أجاثا جرين، وهي طالبة في ليل، أنه إذا فاز ماكرون على لوبان للمرة الثانية، سيكون ذلك “جزئيًّا” بالإجماع، وفي حالة كان عدد الناخبين منخفضًا، فإن هذه الاتهامات ستتزايد، وسيكون حكم فرنسا الممزقة أصعب حتى على ماكرون في مرته الثانية.
المصدر: الإيكونوميست