للمرة الثانية على التوالي يُخفق مجلس النواب العراقي في إكمال النصاب الدستوري من أجل تمرير عملية انتخاب رئيس الجمهورية، وتكليف مرشح الكتلة الأكبر لتشكيل الحكومة المقبلة، وهذا الإخفاق مردّه إلى حالة الخلاف السياسي التي أطّرت الواقع العراقي بعد انتخاب رئاسة مجلس النواب، وتحديدًا بين قوى الإطار التنسيقي والتحالف الثلاثي، إذ فشل التحالف الثلاثي حتى اللحظة في إكمال نصاب الثلثين لعقد الجلسة، فيما تمكّن الإطار التنسيقي من تثبيت ما يُعرَف بـ”الثلث المعطِّل”، ومن ثم أصبح المشهد السياسي الحالي يعاني من معضلة دستورية لم يجد الدستور العراقي نفسه مخرجًا حقيقيًّا لها.
ممّا لا شكّ فيه أن حالة الانسداد السياسي الحالي جعلت من الصعوبة الحديث عن انفراجة سياسية قريبة، خصوصًا أن هذا الانسداد يُعرف في أحد جوانبه أنه يأتي كصراع إرادات بين زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، وزعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي، اللذين يحاول كل منهما إسقاط رؤيته السياسية على واقع تشكيل الحكومة المقبلة.
ففي الوقت الذي يتحدث فيه الصدر عن حكومة أغلبية وطنية قائمة على أساس الحكومة والمعارضة، يطرح المالكي رؤية مخالفة تتضمّن أن يشترك أغلبية “المكون الشيعي” في الحكومة دون الحاجة للذهاب نحو المعارضة، ما يعني ضربة رئيسية لفكرة التحالف الثلاثي الذي يقوده الصدر.
يشير الواقع السياسي الحالي ألّا جلسة لمجلس النواب حتى يتحقق التوافق العام، فإلى جانب غياب التوافق الداخلي، هناك غياب أيضًا للتوافق الإقليمي، إذ إن قاعدة التوافق الداخلي تأسست منذ عام 2003 على أساس لعبة محاور إقليمية وجدت طريقها إلى الداخل العراقي، ومن ثم إن هذا الواقع جعل من الصعوبة الحديث عن حكومة عراقية دون أن يكون هناك إجماع داخلي وإقليمي عليها.
فالراعي الإقليمي ينظر إلى المعادلة السياسية التي يشترك فيها الطرف الداخلي المرتبط به، من منظار معادلة صفرية لا تقبل القسمة على اثنين، وهو ما جعل حتى خيار المعارضة خيارًا مستبعدًا في الوقت الحالي، والذي يفسَّر على أنه خيار للتفريق بين الأغلبية والأقلية، لأن الذهاب نحو المعارضة يعني خسارة الراعي الإقليمي في معادلة التنافس السياسي داخل العراق، لصالح الراعي الإقليمي الذي سينجح الطرف المرتبط به بتشكيل الحكومة.
الصدر يرفض التوافق والمالكي يردّ
أعلن الصدر رفضه التوافق مع الإطار التنسيقي بشأن انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل حكومة جديدة، وجاء ذلك وفق تغريدة عبر حسابه على تويتر، عقب ساعات على إخفاق مجلس النواب في عقد الجلسة المخصصة لانتخاب رئيس الجمهورية، وقال الصدر: “لن أتوافق معكم، فالتوافق يعني نهاية البلد، لا للتوافق بكل أشكاله”.
وأضاف: “ما تسمونه بالانسداد السياسي أهون من التوافق معكم، وأفضل من اقتسام الكعكة، فلا خير في حكومة توافقية محاصصاتية”، كما تساءل الصدر: “كيف ستتوافقون مع الكتل، وأنتم تتطاولون ضد كل المكونات، وكل الشركاء الذين تحاولون كسبهم؟”.
وفي مقابل ذلك، قال المالكي، زعيم ائتلاف دولة القانون في الإطار التنسيقي، إن الإطار التنسيقي سيبدأ اليوم أو غدًا الحوار مع حلفائه في الثلث الضامن -المعطل- في مجلس النواب لحماية العراق من الفوضى والانهيار، وقال المالكي عبر حسابه الشخصي على تويتر: “إن تحالف الإطار التنسيقي أعدّ ورقة مبادرة لإيجاد حل لحالة الاختناق، بعدما تأكد أن التحالف الثلاثي لم يتقدم بمبادرة إيجاد حلول واقعية تضمن العملية السياسية من الانهيار”، وأضاف: “اليوم أو غدًا يبدأ الحوار بين القوى المتحالفة لإنضاج المبادرة والانطلاق بها إلى باقي القوى والمكونات السياسية، ونأمل النصر لحماية العراق من الفوضى والانهيار”.
خيارات عديدة وأفق معقّد
وفي هذا السياق، فإنه رغم تلويح رئيس مجلس النواب الحالي محمد الحلبوسي باعتماد إجراءات عقابية ضد النواب المتغيّبين عن جلسات مجلس النواب، باعتباره أحد أبرز أسباب تعطيل الجلسات في الفترة الماضية، إلا أنه تنبغي الإشارة إلى أننا نواجه قصورًا دستوريًّا واضحًا في معالجة هذه الحالة.
فقد نصَّ الدستور العراقي في موادّه على معاقبة النواب الذين يتخلفون عن حضور جلسات مجلس النواب بصورة متتالية أو منقطعة، إلا أنه لم يعالج حالة التغيُّب الجماعي، التي انعكست سلبًا على التوقيتات الدستورية الخاصة بانتخاب رئيس الجمهورية وتكليف رئيس الوزراء، وهو ما أدخل البلاد في مأزق دستوري واضح، في ظل انتظار توقيت دستوري جديد لعقد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية في الأيام المقبلة، وإلا سنكون أمام خيارَين لا ثالث لهما؛ إما حلّ البرلمان وإما حكومة الطوارئ.
كلا التحالفين يدركان خطورة هذه الجلسة، ويحاولان بناء التحرك السياسي لكل منهما على أساس هذه الخطورة وتداعياتها الداخلية والخارجية
يمكن القول إن هناك خيارات عديدة أمام التحالف الثلاثي الذي يقوده الصدر لإنهاء هذا الواقع المتأزِّم، فهناك الخيار السياسي عبر فتح باب الحوار مع القوى السياسية التي ما زالت معترضة على حضور جلسات مجلس النواب، وتحديدًا المستقلين الذين أصبح لهم ثقل برلماني في المجلس الحالي.
كما أن هناك خيارًا قانونيًّا يتمثل بتعديل النظام الداخلي لمجلس النواب، وهو خيار بدأت تلوّح به قوى التحالف الثلاثي، كونها تملك الأغلبية المطلقة لتحقيق هذا المطلب، فضلًا عن تمكنها من السيطرة على اللجنة القانونية لمجلس النواب، ومن ثم إنه خيار يمكّنها من إلزام باقي الكتل السياسية من حضور جلسات مجلس النواب، وإلا ستواجه خيار فصل أعضائها أو فرض عقوبات مالية عليهم.
إجمالًا، يوضّح الخلاف السياسي الحالي حقيقة المخاوف التي تعتري قوى التحالف الثلاثي والإطار التنسيقي، فإلى جانب الاستحقاقات الداخلية التي ستتأسس على جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، هناك استحقاقات إقليمية أيضًا ستأتي على أساس هذه الجلسة، فالمسألة أكبر من عملية انتخاب رئيس للجمهورية، ولذلك إن كلا التحالفين يدركان خطورة هذه الجلسة، ويحاولان بناء التحرك السياسي لكل منهما على أساس هذه الخطورة وتداعياتها الداخلية والخارجية.