أساتذة مضربون عن العمل، مدارس مغلقة، مناهج متعثرة.. هكذا يمرّ العام الدراسي في لبنان، فالأزمة الاقتصادية التي عصفت فيه منذ صيف 2019 لم تستثنِ قطاع التعليم الذي ناله نصيب كبير من انعكاساتها السلبية.
وفي خضمّ العقبات، أصدرت وزارة التربية والتعليم اللبنانية إعلانًا بأن دولة قطر تحتاج إلى أساتذة في مختلف المواد، شارحة في الإعلان كيفية التقديم، وهو بذلك دعوة علنية للهجرة ومغادرة لبنان، فلبنان الذي نقص كادره الطبي بشكل ملحوظ، يشهد اليوم مغادرة المعلمين والأساتذة بتشجيع ومباركة من الدولة اللبنانية، في الوقت الذي يعاني فيه القطاع التعليمي من مشاكل عديدة والأساتذة ينتظرون حلولًا.
هكذا وبكل بساطة الحل كان بمثابة دعوة للهجرة، الهجرة التي رافقت اللبناني منذ القرن الماضي ودفعت به نحو الشتات وفراق الأوطان، حيث يقدَّر الشتات اللبناني بين 12 وما يزيد عن 18 مليون شخص، أي أكثر من تعداد سكان لبنان نفسه الذي يبلغ تعدادهم اليوم حوالي 6 ملايين نسمة.
دعوة الهجرة تلك لم تكن الأولى، بل جاءت سابقًا في تصريح للرئيس اللبناني ميشال عون أثناء حوار تلفزيوني من قصر بعبدا، إبّان الثورة اللبنانية عام 2019، إذ قال باللهجة العامية: “إذا ما في عندن أوادم بهالدولة يروحوا يهاجروا”.
لا يصل الإنسان إلى قرار الهجرة إلا بعد أن تنقطع به السبل، وعلى ما يبدو أن الدولة اللبنانية توجِّه رسالة واضحة بأن الأزمة خرجت عن السيطرة وهي عاجزة أمامها، فمعظم القطاعات تأثّرت بما فيها التعليم.. فما هي أبرز المشاكل التي تواجه القطاع؟ وكيف وصل المعلم إلى هذا الوضع المزري؟
التسرُّب المدرسي
مع ازدياد نسبة الفقر لم يعد بمقدور عدد كبير من اللبنانيين تسجيل أولادهم، سواء في الجامعات أو في المدارس، فحتى كلفة نقل أبنائهم تحتاج إلى ميزانية ليس باستطاعتهم تأمينها، لا سيما مع ارتفاع أسعار المحروقات التي وصلت إلى حدود خيالية، عدا عن المستلزمات الدراسية من قرطاسية وغيرها، والحاجات اللوجستية (كهرباء وإنترنت).
وحسب تقييم صادر عن مكتب اليونيسف في لبنان، دفعت الأزمة في البلاد 4 من كل 10 شباب وشابات إلى تخفيض الإنفاق على التعليم، في سبيل شراء المستلزمات الأساسية من غذاء ودواء ومواد أساسية أخرى، وانقطع 3 من كل 10 عن التعليم كليًّا.
التقييم الذي صدر تحت عنوان “البحث عن الأمل”، يشير إلى أن 31% من الشباب والشابات خارج دائرة العمل أو التعليم أو التدريب (NEET)، وأن نسبة الالتحاق بالمؤسسات التعليمية انخفضت من 60% عام 2020-2021 إلى 43% في السنة الدراسية الحالية حسب تقرير اليونيسف.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي سلّط استطلاع لليونيسف أيضًا الضوء على وضع الأطفال الذي يزداد سوءًا، في ظل تدهور فظيع طال مختلف ظروف العيش، إذ ظهر أن نحو 12% من الأُسر أرسلت أطفالها إلى العمل في سبتمبر/ أيلول الماضي، مقارنة بنحو 9% في أبريل/ نيسان.
في ظل غياب الكهرباء وانقطاع الإنترنت المتكرر، حتى الوصول إلى المدرسة صار جهادًا في ظل ارتفاع البنزين وأحيانًا كثيرة اختفائه من الأسواق
أشار منسّق الشؤون التربوية في اتحاد لجان الأهل، نعمة نعمة، إلى تقرير لمنظمة “أنقذوا الأطفال” جاء فيه أن “أكثر من 737 ألف تلميذ من أصل مليونين من اللبنانيين والأطفال اللاجئين، لم يلتحقوا بالمدرسة عن عام 2020-2021، أي ما يعادل ثلث عدد الأطفال في سنّ الدراسة”.
وبحسب تقديرات البنك الدولي، ما يقارب الـ 40 ألف عائلة لم تسجِّل أبناءها، وإذا كان لدى كل عائلة ولدين يعني أن 80 ألف ولد بقُوا خارج مقاعد الدراسة”.
وفي ظل غياب الكهرباء وانقطاع الإنترنت المتكرر، حتى الوصول إلى المدرسة صار جهادًا في ظل ارتفاع البنزين وأحيانًا كثيرة اختفائه من الأسواق، كل تلك المعوقات أدّت إلى تحول الكثير من الطلاب عن الدراسة والتوجُّه نحو سوق العمل.
سلسلة إضرابات
شهد العام الدراسي الحالي سلسلة من الإضرابات، فمن بدايته كان متعثرًا يمرّ بالكثير من المطبّات، حيث أعلن وزير التربية والتعليم العالي عباس الحلبي تأجيل فتح العام الدراسي أسبوعَين بسبب عدم توفر المحروقات من جهة، ولإفساح المجال لمتابعة الحوار البناء مع ممثلي المعلمين المطالبين بحقوقهم من جهة أخرى، حيث مرَّ العام الدراسي السابق ثقيلًا على المعلمين الذين بات مرتبهم لا يكفي فاتورة البنزين.
ويمكن اختصار إضراب المعلمين في 3 نقاط متعددة الأبعاد، وهي: الخلل في منظومة التأمين الصحي؛ وعدم زيادة الرواتب؛ وعدم تلقي بدل نقل، وهي تعدّ من أبرز الأسباب التي دفعت برابطة المعلمين في لبنان بإعلان الإضراب عدة مرات خلال العام الدراسي الحالي.
وهناك تقصير واضح ظهر من قبل وزارة التربية، حيث تأخرت الكتب التي توزَّع على الطلاب، ناهيك عن حاجتهم إلى مواد التعقيم والتنظيف وسط استمرار جائحة كورونا، كما طالب الأساتذة دعم صناديق المدارس بالعملة الأجنبية لتتمكّن من شراء مادة المازوت، ناهيك عن المستحقات المتأخرة التي لم تُدفع حتى الآن للعاملين في الدوام المسائي الخاص بتعليم اللاجئين السوريين.
ففي ديسمبر/ كانون الأول الماضي جرى إضراب دعت إليه روابط المعلمين، حيث تناقل الأساتذة عبر منصات التواصل الخاصة بهم حال مدارسهم، فبسبب استمرار العديد من الأساتذة بمقاطعة العام الدراسي لم تنجح المدارس بتنظيم الدروس كما يجب، بل أدّى غياب الأساتذة إلى إقفال العديد من الثانويات والمدارس أبوابها في مختلف المناطق اللبنانية، ولم يتعلم فيها الطلاب.
في ظل غياب حكومة قاصرة عن المعالجة ووقف الانهيار، أصبح اليوم أكثر من 75% من الشعب اللبناني تحت خط الفقر وسيدفع طلاب المدارس الرسمية خاصةً الثمن في فشل التعليم للعام الثالث على التوالي
لم يصل الأساتذة إلى نتيجة بعد الإضراب، حيث لم يتغير شيء وكان الطالب هو الخاسر الأكبر في معركة الكرّ والفرّ بين الوزارة والمعلم، وسط الأجواء المتوترة جاء إضراب آخر بعد عطلة رأس السنة والأعياد الطويلة، حيث دخل الأساتذة إضرابًا طويلًا، ووفق صحيفة “المدن” اللبنانية يعود السبب الرئيسي إلى فشل وزير التربية في إقناع رئيس الجمهورية ميشال عون بتوقيع مراسيم المساعدات الشهرية للقطاع العام، ورفع بدل النقل.
ومن أبرز مطالب الأساتذة هو تصحيح الأجور أو احتسابها وتدويرها وفقًا لسعر صرف الدولار الرسمي، وهذا ما أدّى إلى الموقف التصعيدي من الروابط، التي أعلنت عن عدم العودة إلى المدارس في شهر يناير/ كانون الثاني الماضي قبل دفع المساعدات التي وُعدوا بها، ووضع إطار زمني لتصحيح الأجور، وما زالت المراسيم المتعلقة بالمنحة الشهرية وزيادة بدل النقل وأجر ساعة التعاقد معلقة بتوقيع الرئيس.
وتعتبر الروابط أنه في ظل غياب حكومة قاصرة عن المعالجة ووقف الانهيار، أصبح اليوم أكثر من 75% من الشعب اللبناني تحت خط الفقر، وسيدفع طلاب المدارس الرسمية خاصة الثمن في فشل التعليم للعام الثالث على التوالي. ويستمر العام الدراسي وسط تلويح آخر بالإضراب، ما يجعلنا نقف أمام سؤال هام: ماذا تعلم الطلاب هذه السنة؟
تراجُع جودة التعليم وتأخُّره
يسجِّل لبنان رقمًا قياسيًّا في الإغلاق ما أدّى إلى تدهور التعليم، حيث سُجِّل للمدارس الخاصة إغلاق بنحو 21 شهرًا والرسمية 25 شهرًا (بسبب الجائحة وإضراب المعلمين).
لبنان الذي يتمتع بمناهج قوية وبرامج تعليمية أجنبية تتحدث بـ 3 لغات، أصبح اليوم في الحضيض حيث لم تطبّق تلك المناهج، وبات الطالب مشتَّت، وتدنى المستوى الثقافي عند التلاميذ، وظلت تلك المناهج والبرامج حبيسة الكتب والملفات، كل هذا بسبب تقليصها واختصارها بطريقة عشوائية، ولا يتمّ شرحها بشكل وافٍ وكافٍ.
ففي خطة العودة إلى المدارس للوزير السابق طارق المجذوب، قلِّصت السنة الدراسية بعد أن كانت 26 أسبوعًا و5 أيام تدريس أسبوعيًّا، إلى 18 أسبوعًا و4 أيام تدريس أسبوعيًّا في التعليم الرسمي، وهو ما يعادل 72 يوم تدريس فعلي.
ومع إضرابات المعلمين، أُغلقت المدرسة الرسمية لنحو 4 أشهر، أي ما يعادل 30 يوم تدريس من أصل 72 يومًا، وبالنسبة إلى الوزارة والمسؤولين التربويين، يكون الحلّ بزيادة يوم تدريس وربما اثنين للتعويض، وتكون الحصيلة أن يدرس التلاميذ في التعليم الرسمي نحو 50 يوم تدريس فعلي من أصل 170 يومًا المقررة في التصميم الأساسي للمناهج عام 1996، ما يعني تكثيف الدروس والمرور عليها بسرعة لإنجاز المنهاج المقرر.
ويعدّ هذا كارثة في تاريخ التعليم اللبناني، حيث صار التعليم شكلي لا يزيد من معارف الطلاب ولا تطورهم علميًّا، وهذا ما يؤكّد تراجع جودة التعليم في لبنان، فالمعلم يعاني من إهدار حقوقه والطالب صار مظلومًا والعلم أصبح حبرًا على ورق.
يمكن وصف العام الدراسي اليوم بالكارثة الحقيقية التي تهدِّد أجيال لبنان، فالطالب يعيش عصر الانحطاط التعليمي، فلا مدرّس موجود ولا مدارس تفتح أبوابها في بلد ينتظر معجزة حقيقية لتحلّ مشاكله
وذكر البنك الدولي في تقريره بعنوان “جيل كامل يواجه خطر الضياع: الآثار المدمرة لجائحة كورونا”، أن العبء الأكبر لهذه الأزمة سيقع على الأطفال والشباب الذين تراوحت أعمارهم بين 4 أعوام و25 عامًا في عامَي 2020 و2021، ما سيؤدي إلى خلق تفاوت هائل من جيل إلى آخر، إذ إن بقاء الأطفال والشباب خارج الفصول الدراسية هذه المدة الطويلة لا يعني فحسب أنهم توقفوا عن التعلُّم، بل أنهم نسُوا الكثير ممّا تعلموه.
في الختام، يمكن وصف العام الدراسي اليوم بالكارثة الحقيقية التي تهدِّد أجيال لبنان، فالطالب يعيش عصر الانحطاط التعليمي، فلا مدرّس موجود ولا مدارس تفتح أبوابها في بلد ينتظر معجزة حقيقية لتحلّ مشاكله.