منذ رمضان الثورة الأول في عام 2011، لم يرَ الحاج أبو أحمد بيته في ريف حمص، ومذ ذاك الوقت لا يشعر الحاج الحمصي بفرحة رمضان كتلك التي كان يشعرها في أرض داره وبين أولاده، إذ إنه نزح من بيته مع بداية المعارك بين النظام والجيش الحر في محافظة حمص وسط سوريا، حيث في البداية ذهب أبو أحمد إلى بيت قريب من حيّه على أمل بالعودة إلى الديار قريبًا، لكن هذا الأمل لم يتحقق.
تنقّل الحاج أبو أحمد من منزل إلى آخر، حتى عام 2016 وصل إلى محافظة إدلب التي ليس له فيها قريب ولا رفيق عدا بعض الناس الذين حاولوا مساعدته، وألقى بعد ذلك حماله في مخيمات منطقة أطمة، استشهد من أولاده ثلاثة، اثنان في المعارك وواحد في المعتقل، وهاجر اثنان وبقيَ هو مع زوجته وطفلَين آخرَين.
“هذه الخيمة ليست حنونة” يقول أبو أحمد لـ”نون بوست”، ويضيف: “هذه الخيمة من النايلون لا تقي حر الصيف ولا برد الشتاء، ولا تشعرنا بمواسم الأفراح كرمضان والعيد، فمهما فعلنا من أجل إسعاد أنفسنا والأولاد، نظل في الخيمة أبأس مكان في هذه الأرض”.
تتهافت في هذه الأيام الذكريات على أبو أحمد، بيته المزهو بالورود وشجرات الليمون، ولمّة الجيران قبل أذان المغرب، وضوضاء الأطفال في أرض الديار، والولائم التي يُدعى إليها الأقارب، وأهازيج المنشدين المحتفين برمضان والحزينة على فراقه.
يقول أبو أحمد إن الانهماك بالتجهيز لرمضان كان له لذة خاصة لم يعد يشعر بها مذ ترك أرضه، كما يتذكر أولاده الشهداء بأسى إذ إنهم قُتلوا في معارك رمضان 2015، فلا يمكن لهذه الأيام أن تمرَّ دون عبرات الفقد.
عدا عن الحنين إلى الوطن والأرض وزهور الدار، يشكو أبو أحمد حالة العوز التي تصيب أهل الخيام في هذه الأيام، فقليل من يعمل، والذي يعمل لا يكفيه مرتّبه أيامًا من الشهر، ويكمل: “كما تعرف فإن رمضان عند السوريين لا يجب أن يمرَّ كأي شهر، فلا بدَّ أن تُقام الولائم ونرسل بصحون السكبة قبل كل فطور، أما هذه الأيام لم نعد نتمكّن حتى من إرسال المشروبات لبعض الأقارب”.
أزمة اقتصادية خانقة
يمرُّ شمال سوريا بالعموم ومنطقة المخيمات بالخصوص بأزمة اقتصادية كبيرة، تلقي بظلالها على السكان الذين تزداد معاناتهم يومًا بعد يوم وسنة بعد سنة.
لم يعد رمضان كغيره من الشهور بالنسبة إلى أهل الخيام، فالأزمة باتت تتنقّل من ساعة إلى أخرى على مدى العام، ولكن الإحساس بها في رمضان يكون أكبر، وفي هذه السنة بالذات زادت الأزمة الاقتصادية من وتيرتها بسبب الأزمة العالمية، حيث تأثر الشمال السوري بما يجري عالميًّا من ارتفاع الأسعار وشحّ المواد كالقمح والزيوت وغلاء اللحوم والوقود، لتزداد معاناة أهل الخيام أضعافًا مضاعفة.
مع حلول شهر رمضان يذكر “المرصد السوري لحقوق الإنسان” أن السوريين في المخيمات “تضاعفت معاناتهم وتفاقمت مأساتهم بعد طول فترة النزوح وارتفاع أسعار معظم السلع والمواد الأساسية وشحّ المساعدات الإنسانية، ويضاف إلى ذلك تجاهل الجهات المسؤولة والتضييق على أرزاقهم ولقمة عيشهم”.
ويضيف المركز أن “الأزمات المتتالية تثقل كاهل النازحين وتمنعهم من ممارسة عاداتهم وتحضيراتهم لشهر رمضان، حيث بدأ النازحون في مخيمات النزوح في ريف إدلب استقبال أيام شهر رمضان دون أن يتمكّنوا من تأمين مستلزماتهم من المواد الغذائية والتموينية التي طالما اعتادوا عليها في السابق، بسبب ارتفاع أسعارها لحدّ كبير، فضلًا عن النقص الحاد الذي تعاني منه الأسواق في بعض المواد الأساسية، مثل السكر والطحين والزيت والسمن وغيرها من المواد”.
تواصلنا في السياق مع تاجر الأغذية عبد الإله العمر، ليخبرنا أن القدرة الشرائية للناس هذه السنة كانت ضعيفة، ويقول: “هذه أسوأ سنة يشهدها متجري بالنسبة إلى الشراء، فلم أرَ حركة في الأسواق كتلك التي كنا نراها في غير سنوات”.
ويروي العمر أن “السنوات التي كانت المعارك على أشدها كان الإقبال على شراء المواد للتموين للشهر الكريم أكبر، ولم يكن كثير من الناس يشكو مثل ما يشكو السوريون في هذه الأيام نتيجة الأزمة الاقتصادية العالمية”.
يقول العمر إن من حقّ المشترين انتقاد الغلاء الحاصل ونحن لا نلوم أحدًا، ولكن أيضًا لا أحد يتفهّمنا نحن التجار، إذ إن الأزمة تلقي بظلالها علينا، فمن جهة نحن في الشمال السوري محاصرون وليس لدينا طريق إلا تركيا، وأجور الشحن غالية والمواد الأساسية تضاعفت أسعارها، فماذا نفعل؟”.
مضيفًا: “لا ألوم أهل الشمال إذ إن أكثر الناس لا تعمل، ومن يعمل يأخذ يوميًّا ما يقارب الـ 40 ليرة أي ما يقارب الـ 3.5 دولارات”، مشيرًا إلى أنه لولا بعض المنظمات التي توزِّع بعض طرود الإغاثة لكانت المنطقة تقبع في مجاعة تقتل الآلاف يوميًّا.
وعطفًا على ما قاله العمر بشأن البطالة، تذكر الإحصاءات أن 89% من شباب الشمال السوري يقبعون تحت ظل البطالة، وهو ما يزيد الأزمة ويعمّق هوتها، ويدفع هذا الأمر بالشباب إلى الهجرة لكسب المال ومساعدة أهاليهم، بعيدًا عن منطقة لم تعرف الاستقرار منذ 10 سنوات.
في هذا السياق، يقول الشاب عبد المجيد الحمصي، وهو طالب في جامعة إدلب، لـ”نون بوست” إنه وعائلته باتوا يعيشون معاناة كبيرة هذا العام، وليس هناك فرق بين رمضان وغيره من الشهور، ويشير إلى أنه ووالده يعملان بمعدل 80 ليرة تركية يوميًّا وأحيانًا من دون عطلة لتأمين حاجة عائلتهم، كما يقول الحمصي إنهم عائلة مؤلفة من 6 أشخاص ويحتاجون يوميًّا لـ 3 ربطات خبز، ما يقدَّر بـ 15 ليرة يوميًّا، هذا إن لم نحسب الحاجيات الأساسية والدواء والطبابة.
باتت الحالة في المخيمات أزمة مزمنة بالنسبة إلى الكثيرين، فلم يعد يوجد جدّية لحلّ هذه المعضلة كما يقول الحمصي، ويشير إلى أن الحل معلوم للجميع، وهو “إزالة بشار الأسد وكل عائلة ترجع إلى بيتها، وإن لم يتبقَّ بيت فيرجع الناس إلى ركامهم بعيدًا عن هذه الخيام”، وينتقد الحمصي التجّار الذين “لا يرحمون الناس في هذه الظروف”، مضيفًا: “نعلم أن الأزمة على الجميع ولكن التجار باتوا يتربّحون بشكل هائل ويستغلون الأزمات واحتياجات السكان”.
ليس بعيدًا عن ذلك، نشر تلفزيون سوريا قوائم لبعض أسعار السلع وكيف ازدادت أسعارها على أعتاب الشهر الكريم، ننقلها في الجدول التالي، ويقول التقرير المنشور إن “المواد التموينية شهدت ارتفاعًا ملحوظًا، لكن أخفّ من المواد الرمضانية، إلا أنّ المسبِّب الرئيسي في ارتفاعها تبعات الغزو الروسي، على اعتبار أنّ أوكرانيا مصدر لمعظم المواد التموينية التي تعتمد عليها السوق المحلية في شمالي غربي سوريا”.
مساعدات لا تكفي
إلى ذلك، تبرز العديد من الجهات التي تحاول المساعدة في مواسم رمضان منذ سنوات عديدة، فتعمل المنظمات الإنسانية على إنجاز مشاريع إغاثية كتوزيع وجبات الإفطار المؤلفة من عدة عناصر غذائية مطبوخة، أو توزيع سلال غذائية تحتوي على المواد الأساسية مثل الأرز والبرغل والعدس والزيت.
وفي السياق، يقول عبد الرزاق عوض، مدير منظمة “سيريان ريليف” في إدلب، خلال حديثه لـ”نون بوست”: “إن الأعمال الخيرية تزداد في رمضان، ونحاول من خلال أهل الخير رصد المبالغ والهبات لإنجاز المشاريع التي تخفِّف الأعباء عن أهالي الخيام والناس بشكل عام، مثل مشاريع وجبات الإفطار”.
ويشير عوض إلى أن “دعم المنظمات الإنسانية بات يتناقص سنة بعد أخرى، والخوف الآن من إغلاق معبر باب الهوى بوجه المساعدات الإنسانية وعدم التمديد له في الأمم المتحدة”، مضيفًا أن “انصراف أنظار المانحين الدوليين إلى أزمة أوكرانيا أثّر بشكل سلبي على مساعداتهم لسوريا، ما أدّى إلى قلة في الواردات”.
يُذكر أن أعداد النازحين السوريين عام 2021 بلغت رغم الهدوء النسبي في الأعماء القتالية، نحو 2.1 مليون نازح، من أصل أكثر من 4 ملايين سوري يسكنون مناطق المعارضة السورية، في حين يبلغ عدد سكان المخيمات مليونًا و43 ألفًا و869 نازحًا، يعيشون ضمن 1293 مخيمًا، من بينها 282 مخيمًا عشوائيًّا أُقيمت في أراضٍ زراعية، ولا تحصل على أي دعم أو مساعدة إنسانية أممية.
إلى ذلك، إن معاناة أهل الخيام مستمرة، ليس في رمضان فحسب إنما في موسم الشتاء الذي يقتلع الخيام، وفي موسم الصيف الذي لا يمكن للخيمة أن تردّ لهبه، وينتظر السوريون حلًّا يعيدهم إلى بيوتهم ولو كانت ركامًا بدلًا عن هذه الخيام التي باتت عبئًا ثقيلًا على سكانها.