ترجمة وتحرير: نون بوست
في أوائل كانون الأول/ ديسمبر 2021، تراجع تقدّم الحكومة الإثيوبية بشكل كبير في حربها الأهلية التي استمرت عامًا مع المتمردين من منطقة تيغراي. وقد تمكّنت القوات الإثيوبية، بفضل تسليحها بترسانة جديدة من الطائرات دون طيار وأشكال أخرى من الدعم العسكري من إيران وتركيا والإمارات العربية المتحدة، من صد هجوم شنته الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، التي كانت مدعومة من قبل مقاتلين صوماليين، الذين كانوا مدعومين بدورهم من قبل قطر.
فوجئ العديد من المراقبين الأمريكيين بالمشاركة المباشرة لما لا يقل عن أربع دول شرق أوسطية فيما بدا أنه صراع أفريقي، لكن هذا الاهتمام ليس حديث العهد. ففي السنوات الأخيرة، أنشأت تركيا أكثر من 40 قنصلية في إفريقيا وقاعدة عسكرية رئيسية في الصومال، وأعلنت إسرائيل “عودتها إلى إفريقيا” لإيجاد تحالفات جديدة في الوقت الذي تواجه فيه ضغوطا دولية متزايدة بسبب احتلالها للضفة الغربية.
اشترت المملكة العربية السعودية مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية في إثيوبيا والسودان سعيا وراء تحقيق أمنها الغذائي، وبنت الإمارات قواعد بحرية في جميع أنحاء القرن الأفريقي، بينما نشب صراع بين مصر وإثيوبيا بشأن خططها لبناء سد في مقدّمة نهر النيل.
لا تقتصر هذه التشابكات على إفريقيا فقط، إذ لطالما اعتبرت عُمان نفسها إحدى دول المحيط الهندي وتحافظ على علاقات اقتصادية قوية مع الهند وإيران وباكستان، ولطالما تدخلت المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى بشكل كبير في شؤون أفغانستان وباكستان. أصبحت تركيا أيضًا منخرطة بشكل متزايد في شؤون آسيا الوسطى، بما في ذلك التدخل العسكري في أذربيجان، بينما قامت كل دول الخليج تقريبا مؤخرًا بتحديث شراكاتها مع الصين ودول آسيوية أخرى.
وسط هذه الروابط القائمة والمتنامية والعابرة للأقاليم، تظل السياسة الخارجية للولايات المتحدة مرتبطة بخريطة ضيقة عن الشرق الأوسط. منذ السنوات الأولى للحرب الباردة، نظرت واشنطن إلى الشرق الأوسط على أنه العالم العربي، الذي يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه يشمل مجموعة الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية (باستثناء دول جزر القمر وموريتانيا والصومال)، بالإضافة إلى إيران وإسرائيل وتركيا، وهي مقاييس قد تبدو طبيعية للكثيرين.
استنادًا إلى الاستمرارية الجغرافية والمفاهمات المنطقية للمنطقة وتاريخ القرن العشرين، هذا هو الشرق الأوسط وفقًا لما صوّرته أقسام الجامعات الأمريكية ومراكز الأبحاث وكذلك وزارة الخارجية الأمريكية. لكن هذه الخريطة قديمة بشكل متزايد، حيث أصبحت القوى الإقليمية الرائدة تعمل خارج الحدود التقليدية للشرق الأوسط بنفس الطريقة التي تعمل بها داخله، بينما تُقام الآن العديد من المنافسات الأكثر أهمية بالنسبة للمنطقة خارج تلك الحدود المفترضة.
إن البنتاغون على علم بهذا الواقع، وإلى حين إنشاء القيادة الأمريكية في إفريقيا في سنة 2007، لم تقتصر المنطقة التي تغطيها القيادة المركزية الأمريكية، وهي القيادة المقاتلة التي تتعامل مع الشرق الأوسط، على مصر وإيران والعراق ودول الخليج فحسب، بل شملت أيضًا أفغانستان وجيبوتي وإريتريا وإثيوبيا وكينيا وباكستان والصومال والسودان وهي مجموعة كانت على خلاف مباشر مع الشرق الأوسط التابع لوزارة الخارجية.
ويشير هذا الاختلال الدراماتيكي في صنع السياسات والمؤسسات العسكرية الأمريكية إلى مخاطر التمسك بالنموذج القديم للمنطقة. فهذا المفهوم خارج عن نطاق السياسة والممارسة العسكرية الحالية، ويُعيق محاولات مواجهة العديد من أكبر تحديات اليوم، مثل أزمات اللاجئين المتسلسلة وحركات التمرد الإسلامية والاستبداد الراسخ. ومن شأن الاستمرار في تقديم المنح الدراسية وبناء السياسة على تعريف محدد لإرث الشرق الأوسط أن يهدد بإبعاد استراتيجية الولايات المتحدة عن الديناميكيات الفعلية التي تشكل المنطقة، والأسوأ من ذلك، قد يجعل ذلك واشنطن أكثر عرضة لمواصلة ارتكاب أخطاء فادحة في المنطقة.
الرسم التخطيطي الخاص بالحرب الباردة
مع أن المفهوم الأمريكي للشرق الأوسط يبدو مصيريًا الآن، إلا أنه يفتقر للأسس في تاريخ ما قبل الحداثة. على امتداد قرون، كانت المقاطعات العربية في شمال إفريقيا والشام جزءا من الإمبراطورية العثمانية الشاسعة متعددة الجنسيات، وكانت المجتمعات الساحلية للخليج مرتبطة جغرافيا بالقرن الأفريقي عبر البحر الأحمر، كما ربطت الشبكات الإسلامية مصر وبقية شمال إفريقيا بمناطق في أعماق إفريقيا جنوب الصحراء. بدلا من العودة بالتاريخ للوراء، تبنت الولايات المتحدة نسختها الخاصة بالمنطقة من مصدر أحدث، وهو الاستعمار وسياسات القوة العظمى في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في أوروبا.
في القرن التاسع عشر، كشفت مشاريع الإمبراطورية البريطانية والفرنسية عن فكرة وجود منطقة متميزة حددتها شمال إفريقيا والشام. في سنة 1830، احتلت فرنسا الجزائر ثم تونس في سنة 1881، وبحلول سنة 1912 سيطرت على المغرب أيضًا. ساهمت الموروثات الاستعمارية الفرنسية المتمثّلة في التصنيف العرقي وليس الحاجز الطبيعي للصحراء في التمييز بين إفريقيا السوداء الفرنسية والمغرب العربي الفرنسي الذي يضمّ العرب والأمازيغ ذوي البشرة الفاتحة.
إلى جانب ذلك، خلقت العنصرية ذاتها حاجزا متينا بين السكان المتشابهين ثقافيا في حوض البحر الأبيض المتوسط، مع تمييز جنوب أوروبا الأبيض بالقوة عن شعوب الشرق الأدنى في شمال إفريقيا وشبه الجزيرة العربية.
أطلق البريطانيون على المنطقة اسم “الشرق الأدنى” بسبب الدور الذي تضطلع به كنقطة عبور على طول الطريق إلى مصالحهم الاستعمارية الأساسية في الهند و”الشرق الأقصى” أو آسيا. بعد افتتاح قناة السويس سنة 1869، اكتسبت المنطقة أهمية جديدة، حيث ربطت المصالح الإمبراطورية البريطانية الآن شبه الجزيرة العربية بمصر والشام مع تمييز تلك المناطق من خلال النقاط الشمالية والشرقية والجنوبية.
ظلت سلسلة من المحميات على طول شبه الجزيرة العربية خاضعة للسيطرة البريطانية إلى غاية سنة 1971، مما عزز الحدود الاستعمارية القديمة بعد فترة طويلة من بدء القوات الأخرى في إعادة تشكيل المنطقة. ساعدت مجموعة من الافتراضات الأيديولوجية حول الغرابة المزعومة للعرب والفرس والأتراك، التي أطلق عليها الباحث الأمريكي الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد اسم “الاستشراق”، في تشكيل الفكرة التي تفيد بأن هذه المنطقة الشاسعة تشترك في ثقافة متخلفة موحدة.
في السنوات الأولى من الحرب الباردة، عززت الوحدة العربية للرئيس المصري جمال عبد الناصر صورة الشرق الأوسط كوحدة ثقافية سياسية بدلا من بنية مصطنعة.
بعد الحرب العالمية الثانية، وفي الوقت الذي انغمست فيه الولايات المتحدة في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي، قامت وزارة الخارجية الأمريكية بتعديل المفهوم الأنجلو-فرنسي للمنطقة بما يتناسب مع غاياتها الخاصة. بُني تعريف ما تسميه الولايات المتحدة الآن “الشرق الأوسط” لغاية تحقيق أهداف صانعي السياسة المتمثّلة في استمرارية الحصول على النفط من شبه الجزيرة العربية، وحماية إسرائيل، والحيلولة دون وقوع المستعمرات البريطانية والفرنسية السابقة في شمال أفريقيا تحت النفوذ السوفيتي.
خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ساعدت الأولويات الاقتصادية والسياسية الخاصة بالولايات المتحدة على إضفاء الطابع المؤسسي على هذه الخريطة في المجالات الأكاديمية وصنع السياسات. كرّس قانون تعليم الدفاع الوطني لسنة 1958 الموارد الفيدرالية لإجراء دراسات للمنطقة لدعم أولويات الحرب الباردة، وهي مجهودات دعمتها المنظمات غير الربحية الكبيرة، مثل مؤسسة فورد.
قسّم النهج الجديد العالم إلى مناطق منفصلة من بينها الشرق الأوسط، ونتيجة لذلك طور علماء الشرق الأوسط خبرة عميقة حول ثقافات ولغات وتاريخ وسياسات البلدان في هذه المنطقة المحددة بإحكام، لكن لم يكن من المتوقع أن يعرفوا أي شيء عن أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى أو أفغانستان وباكستان، بغض النظر عن مدى أهمية تلك المناطق بالنسبة للقضايا التي كانوا يدرسونها.
في تلك السنوات الأولى من الحرب الباردة، عززت الوحدة العربية للرئيس المصري جمال عبد الناصر صورة الشرق الأوسط كوحدة ثقافية سياسية بدلا من بنية مصطنعة. أدت القضية الفلسطينية والنضال من أجل إنهاء الاستعمار إلى تنشيط العالم العربي وتوحيده، حيث أصبح تعريف رؤساء الدول مرتبطا بمواقفهم تجاه إسرائيل والوحدة العربية.
كان غزو العراق مُبررًا جزئيًا بحجّة التصميم على إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط، مع “أجندة الحرية” لإدارة جورج دبليو بوش التي أجّجت حرب أفكار تستهدف عالما عربيا كان يفترض أن يكون عرضة للاستبداد والعنف الطائفي
بالنسبة لمصر ودول شمال إفريقيا الأخرى، ساهمت المواقف العنصرية تجاه سكان أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى في تعزيز فكرة أن الشرق الأوسط يختلف عرقيا وثقافيا عن المناطق المحيطة به. في غضون ذلك، برر ضمّ جزء كبير من آسيا الوسطى إلى الاتحاد السوفيتي قرار استبعاد دول مثل أذربيجان وكازاخستان وتركمانستان من المنطقة التي حددتها منافسة الحرب الباردة.
قدمت هذه الفكرة المترسخة عن الشرق الأوسط ركيزة لإطلاق سلسلة من مذاهب السياسة الخارجية الأمريكية والتحالفات الأمنية، وهي العلاقات التي عملت لعقود عديدة على الحفاظ على تدفق النفط والحفاظ على الاستقرار، على الرغم من بعض الاضطرابات مثل الثورة الإيرانية، إلا أن هناك من دفع تكلفة ذلك.
دُرّب الأكاديميون وصانعو السياسات، الذين غالبا ما كانوا على اطلاع بآراء الاستشراق الموروثة من الحقبة الاستعمارية، على التفكير وفقًا لهذه الخريطة وكانوا يميلون إلى استخلاص استنتاجات حول المنطقة دون مراعاة القوى الاجتماعية والسياسية العديدة التي تجاوزت حدودها.
فعلى سبيل المثال، سرعان ما أنتجت هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر إجماعا على أنها نتيجة اختلالات معينة في الشرق الأوسط العربي. وغالبا ما تجاهلت الدراسات التي تشرح الجهاد من خلال الثقافة العربية البروز الموازي للتطرف الإسلامي وأشكال أخرى من التطرف الديني في إفريقيا وجنوب آسيا وأجزاء أخرى من العالم.
على نحو مماثل، تتجاهل الفكرة الراسخة بأن الدول الإسلامية تقاوم الديمقراطية بشكل فريد الدوافع الحقيقية للصمود الاستبدادي في الشرق الأوسط المتمثّل في ممالك النفط المدعومة من الغرب والقادة العرب الذين يخضعون للقليل من المساءلة أمام مواطنيهم يعيشون في ظلّ حكم سيئ، كما أنها تتجاهل المشاركة المنتظمة للمسلمين في العديد من الديمقراطيات خارج الشرق الأوسط، مثل الهند وإندونيسيا والولايات المتحدة. اُستخدمت الفرضية، القائلة إن المسلمين سيختارون بشكل حتمي الحكومات الإسلامية الراديكالية إذا أتيحت لهم الفرصة، لتبرير عقود من الفشل الأمريكي في دعم الإصلاح السياسي الحقيقي هناك.
من جميع هذه النواحي، لطالما مثّل المفهوم الأمريكي الخاص بالشرق الأوسط نوعا من القيود بدلا من أن يكون ميزة ومع ذلك فقد ثبت لعقود من الزمان أنه مفهوم صعب. حتى بعد أن كشفت أحداث 11 أيلول/ سبتمبر الروابط العالمية لتنظيم القاعدة، التي لها جذور في أفغانستان ومصر والمملكة العربية السعودية والسودان، استمرت السياسة الأمريكية في اعتماد النموذج القديم.
كان غزو العراق مُبررًا جزئيًا بحجّة التصميم على إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط، مع “أجندة الحرية” لإدارة جورج دبليو بوش التي أجّجت حرب أفكار تستهدف عالما عربيا كان يفترض أن يكون عرضة للاستبداد والعنف الطائفي. وفي الآونة الأخيرة، أدت افتراضات مماثلة إلى فشل الولايات المتحدة في توقع موجة الثورات الشعبية التي اجتاحت العالم العربي في 2010-2011 أو الرد عليها بشكل فعال.
السياسة خارج الحدود
قدمت الانتفاضات العربية درسا مخادعا لصانعي السياسة الأمريكيين. في البداية، بدا كما لو أن الانتشار السريع للاحتجاجات من تونس ومصر إلى معظم أنحاء المنطقة يظهر تجدد التماسك في الشرق الأوسط. وأكّد التنافس الذي أعقب ذلك على فكرة الساحة الجيوسياسية الموحّدة، حيث تدخلت قطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة في حروب في ليبيا وسوريا واليمن، إلى جانب التدخّل في التحولات التي حدثت في مصر وتونس.
مع ذلك، لم تكن دول المنطقة التي نما نفوذها أكثر، وهي إيران وإسرائيل وتركيا، جزءا من العالم العربي على الإطلاق. وسرعان ما اعتبر المستبدون العرب أن الترابط بين شعوبهم يمثّل تهديدا لبقائهم في السلطة، حيث سعى الكثيرون إلى قمع التحركات السياسية العربية مثل جماعة الإخوان المسلمين وشبكات النشطاء الليبراليين على حد سواء. وبدلا من ذلك، قُضي على آمال التغيير السياسي في جميع أنحاء المنطقة بسبب الانقسام الجديد، مع انزلاق كل من ليبيا وسوريا نحو حالة من الفوضى وبحث العديد من الملوك العرب عن مصادر جديدة للشرعية التي لا تمت بصلة للجمهور العربي الأوسع.
اليوم، تسبّبت التطورات السياسية في العديد من دول الشرق الأوسط في تلاشي الحدود التقليدية للمنطقة على نحو متزايد. أظهرت ثورة السودان في 2018 – والانقلاب العسكري الأخير، الذي دعمته مصر، القوة الرائدة في الشرق الأوسط، وعارضه الاتحاد الأفريقي وهو هيئة دولية تمثل 55 دولة أفريقية – مدى انقسام البلاد على منطقتين.
من الصعب الحفاظ على نماذج مكافحة الإرهاب القائمة على مشكلات يُقال إنها عربية بشكل فريد في الوقت الذي تنكشف فيه أكثر حركات التمرد الجهادية نشاطا في مالي ونيجيريا والصومال
وفي أماكن أخرى من إفريقيا، أدت الهجرة وتنامي حركات التمرد الإسلامية عبر منطقة الساحل إلى تحويل المصالح السياسية والأمنية والاقتصادية لدول المغرب العربي إلى الجنوب. ولقد غذت الحرب الأهلية في ليبيا تدفق المهاجرين والأسلحة والمخدرات والتطرف في جميع أنحاء وسط إفريقيا، مما زاد من طمس الخط الفاصل بين الشمال وبقية القارة. ينحدر العديد من المهاجرين الذين يصلون إلى أوروبا عبر الشرق الأوسط من بلدان جنوب الصحراء. وفي استجابة للأهمية الاستراتيجية المتزايدة لمنطقة الساحل، ركز المغرب على نشر سلطته الدينية في غرب إفريقيا، في الوقت الذي شاركت فيه الجزائر في العمليات الأمنية في مالي.
كشفت ديناميكيات سياسية أخرى أيضا عن القيمة المحدودة لتعريف الشرق الأوسط كمنطقة جغرافية واحدة. فمثلا، لا يمتلك التنافس الإيراني السعودي أي أهمية تُذكر في شمال إفريقيا. وقد كانت المعركة السياسية التي اندلعت بين قطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بعد الحصار الذي تعرضت له قطر سنة 2017 من قبل عدة دول في المنطقة سببا في التنافس على الدعم الذي لم يقتصر على الدول العربية المجاورة فحسب، بل شمل جميع أنحاء القارة الأفريقية وحتى في واشنطن. كما كان تنظيم الدولة أكثر جاذبية من القاعدة ومنظمة عالمية أكثر منها إقليمية، وهو ما تجلى في تدفق المقاتلين الأجانب إلى سوريا وانتشار الحركة عبر إفريقيا وآسيا.
ومن الصعب الحفاظ على نماذج مكافحة الإرهاب القائمة على مشكلات يُقال إنها عربية بشكل فريد في الوقت الذي تنكشف فيه أكثر حركات التمرد الجهادية نشاطا في مالي ونيجيريا والصومال.
تحدت بعض أكبر الصراعات الأخيرة الجغرافيا المُفترضة في المنطقة، حيث أدت الحرب الأهلية في ليبيا إلى زعزعة استقرار مالي وغيرها من الدول الأفريقية المجاورة. وعندما أقامت المملكة العربية السعودية تحالفا لدعم تدخلها ضد المتمردين الحوثيين في اليمن في سنة 2015، لم تطلب المساعدة من الدول العربية ذات التفكير المماثل فحسب، بل طلبت الدعم من إريتريا وباكستان والسودان، التي ساهمت بقواعد وقوات مسلحة. وفي الوقت نفسه، أدى فرض الإمارات العربية المتحدة حصارا بحريا ضد الحوثيين إلى قيامها ببناء وجود عسكري عبر القرن الأفريقي وتحصين جزيرة سقطرى ذات الموقع الاستراتيجي، والتي تُعد أقرب إلى إفريقيا من شبه الجزيرة العربية. وعلى الرغم من أنه كثيرا ما يُنظر إلى الصراع في اليمن على أنه حرب نموذجية في الشرق الأوسط، إلا أنه قد ظهر بطرق تثير التساؤل حول الحدود المفترضة للمنطقة.
الأسواق تتحرك شرقا
مثلما جعلت الديناميكيات السياسية الأخيرة الخريطة القديمة للشرق الأوسط بالية، كذلك فعلت التغييرات الاجتماعية واسعة النطاق؛ فمنذ الخمسينات وحتى الثمانينات، أدت الهجرة الجماعية للعمال من الدول العربية الأكثر فقرا إلى دول الخليج سريعة النمو إلى خلق روابط قوية داخل المنطقة. ولعبت التحويلات المالية دورا رئيسيا في الاقتصادات غير الرسمية في مصر ومعظم دول المشرق العربي، ومكَّنت الإقامة الطويلة للعمال في دول الخليج من انتشار الأفكار الإسلامية المحافظة التي لم تجد الكثير من الإقبال خارج المملكة العربية السعودية.
ولكن إثر الغزو العراقي للكويت في سنة 1990، الذي كان يُنظر من خلاله إلى العمال الفلسطينيين واليمنيين على أنهم غير مُخلصين، اُستبدل العمال المهاجرون العرب في البلاد بعمال من جنوب آسيا باعتبارها الأكثر أمانا من الناحية السياسية. وقد أدت هذه النزعة إلى إضعاف الروابط الاقتصادية والاجتماعية بين منطقة الخليج وبقية دول الشرق الأوسط إلى حد كبير، في حين ساهمت في تعزيز الروابط بين الخليج ودول المحيط الهندي.
وبالمثل، فقدت وسائل الإعلام العربية الكثير من موضوعيتها. فقد كانت الفضائيات العربية إلى حد سنة 2011 تفعل الكثير من أجل تشكيل ثقافة مشتركة على المستوى الشعبي، حتى أثناء الانتفاضات العربية. ولكن في العقد التالي، أصبح المشهد الإعلامي مجزءًا، وهو ما يعكس الاستقطاب السياسي في المنطقة؛ حيث عملت الجزيرة كمنصة مشتركة للسياسة العامة العربية في التسعينات وفي السنوات الأولى من هذا القرن، وقد أصبحت بعد سنة 2011، واحدة من بين العديد من المنصات الإعلامية الحزبية، بما في ذلك مجموعة روتانا الإعلامية التي تتخذ من السعودية مقرا لها، وقناة العربية التي تتخذ من الإمارات مقرا لها، وقناة العالم الناطقة بالعربية والتي تُبث من إيران.
تقوم مثل هذه المحطات بتعزيز الاستقطاب السياسي، حيث تدعم من هم في نطاقها السياسي وتسخر ممن خارجه. وقد تم تسليح وسائل التواصل الاجتماعي، التي كانت ذات يوم قوة لتكامل الجمهور العربي، من قبل أنظمة مثل تلك الموجودة في مصر والمملكة العربية السعودية عن طريق استخدام جيوش من الروبوتات والرقابة على نطاق واسع، والمجزأة بمعزل عن بعضها البعض.
وفي حين تحظى القضية الفلسطينية اليوم بدعم غير مسبوق في الغرب، فإنها تحظى اليوم بتعاطف أقل من دول المنطقة العربية، وهو ما اتضح من خلال قرار البحرين والإمارات تطبيع العلاقات مع إسرائيل في اتفاقية أبراهام لسنة 2020
وعلى مدى العقدين الماضيين، أعادت الأسواق المالية العالمية تشكيل توجهات بعض أغنى دول الشرق الأوسط، بما في ذلك الكويت وقطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. ونظرا لاستثماراتها العميقة في العقارات والأندية الرياضية الغربية، وروابطه الاقتصادية المتنامية مع آسيا، وعدد سكانها الضخم المكون من عمال الخدمات غير العرب والمغتربين الغربيين، من المنطقي بشكل متزايد أن ننظر إلى هذه الأماكن على أنها مراكز للرأسمالية العالمية أكثر من كونها دولا في الشرق الأوسط، حيث تمتلك دبي أوجه تشابه مع سنغافورة وهونغ كونغ أكثر مما لديها مع بيروت أو بغداد.
يعكس استخدام المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة لأدوات المراقبة الرقمية إسرائيلية الصنع نموذج الصين بقدر ما يعكس نموذج الأنظمة العربية الأخرى. وقد تلعب مثل هذه الروابط العالمية في الاقتصاد والتكنولوجيا قريبا دورا كبيرا في السياسات الخارجية لهذه الدول كما تفعل أي أولويات إقليمية تقليدية – دفعها إلى الاقتراب من آسيا، على سبيل المثال، أو توفير حوافز جديدة لها تمكنها من التلاعب بالانتخابات في الديمقراطيات الغربية.
في المقابل، تلاشى الاهتمام بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني الذي كان ذات يوم قضية موحدة في العالم العربي. وجذبت حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، التي تهدف إلى التنديد بتزايد عدد المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، اهتماما أكبر في حرم الجامعات الأمريكية وفي قاعات الكونغرس أكثر من الشرق الأوسط. وتعتبر أوروبا والأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية ساحات معركة مركزية للنزاعات الإسرائيلية الفلسطينية أكثر من أي عاصمة عربية.
وفي حين تحظى القضية الفلسطينية اليوم بدعم غير مسبوق في الغرب، فإنها تحظى اليوم بتعاطف أقل من دول المنطقة العربية، وهو ما اتضح من خلال قرار البحرين والإمارات تطبيع العلاقات مع إسرائيل في اتفاقية أبراهام لسنة 2020. وعلى الرغم من محدودية الآثار الملموسة لهذه الاتفاقية، بدا أن الإسرائيليين يتبنونها بشعور خال من الضغائن، ويرجع ذلك جزئيا إلى إشارتها إلى الشرق الأوسط كميدان أساسي للمخاوف الأمنية أو السياسية – بالنسبة للعرب والإسرائيليين على حد سواء.
خريطتهم، وليست خريطتنا
على مدى 75 سنة، كان الشرق الأوسط إلى حد كبير على قائمة الأولويات الأمريكية. وفي معظم ذلك الوقت، كانت خريطة الولايات المتحدة منطقية لأن أولويات واشنطن في المنطقة كانت التأثير على سياستها. وقد شكلت المذاهب الإستراتيجية للحرب الباردة لواشنطن التحالفات والتدخلات منذ أزمة السويس سنة 1956، عندما أزاحت الولايات المتحدة فرنسا والمملكة المتحدة كقوة غربية أساسية في المنطقة، إلى حين سقوط جدار برلين في سنة 1989. وما بين 1990 و1991 رسخت حرب الخليج نظاما إقليميا أمريكيا بدا فيه أن كل الطرق تؤدي إلى واشنطن. واحتكرت الولايات المتحدة الإشراف على عملية السلام العربية الإسرائيلية، بدءا من مؤتمر مدريد مرورا باتفاقيات أوسلو، وحدد احتواءها المزدوج لإيران والعراق الجغرافيا السياسية للخليج.
لكن المكانة العالمية للولايات المتحدة تراجعت بسرعة، مع تزعزع تماسك منطقة تخدم إلى حد كبير المصالح الأمريكية. وفي خضم التداعيات المترتبة عن القرار الكارثي بغزو العراق في سنة 2003، سعى ثلاثة رؤساء أمريكيين متعاقبين إلى تقليص التزامات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط والتحول نحو آسيا. ومع الأخذ بعين الاعتبار تراجع الولايات المتحدة، أكدت القوى الإقليمية تعريفاتها الخاصة للمنطقة؛ كنظام يتمحور حول المحيط الهندي لدول الخليج، وتوجه عبر الساحل ودول شمال إفريقيا. وهو ما لا يعني اختفاء مناطق الصراع التقليدية، فعلى سبيل المثال، قامت إيران بنشر شبكاتها بالوكالة ونفوذها في جميع أنحاء الدول الممزقة في العراق ولبنان وسوريا واليمن، وهي تخوض منافسة متزايدة مع إسرائيل والمملكة العربية السعودية. ولكن شأنها شأن منافسيها الإقليميين، كثفت إيران أيضا أنشطتها في إفريقيا وبدأت في بناء شراكات مع دول آسيا، وخاصة الصين.
أما بالنسبة للولايات المتحدة، فقد جعل بروز حركات التمرد الجهادية في أفريقيا جنوب الصحراء عقيدة مكافحة الإرهاب التي تركز على الشرق الأوسط والتي ظهرت بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر بالية. ورغم انسحاب القوات الأمريكية من العراق وسوريا، تستمر ضربات الطائرات من دون طيار الأمريكية وعمليات مكافحة الإرهاب من الصومال عبر منطقة الساحل. ومما يدعو إلى الارتباك، أنه رغم إشارة الولايات المتحدة إلى خروجها من الشرق الأوسط، إلا أنها تحافظ على نفس البنية العسكرية في تعاملها مع العديد من المخاوف الأمنية في منطقة الساحل وشرق إفريقيا.
في الوقت الراهن، يتعين على الولايات المتحدة التعامل مع بكين التي تختلف نظرتها تجاه الشرق الأوسط بشكل مختلف عن واشنطن، حيث تتبع خريطة الصين للمنطقة مصالحها الإستراتيجية الخاصة وليس مصالح واشنطن. وقد وسعت بكين مصالحها في مجال الطاقة في الخليج ووجودها في إفريقيا من خلال مبادرة الحزام والطريق، ووقعت سلسلة من الاتفاقيات مع دول الخليج لسد الفجوة بين إيران ودول الخليج العربي من خلال التقليل من أهمية السياسة والتركيز على البنية التحتية وموارد الطاقة. كما فتحت المشاركة الصينية المتزايدة آفاقا جديدة لتحقيق الاستقرار في إنتاج النفط وأشكال أخرى من التعاون الإقليمي، لكنها ضاعفت فرص حدوث سوء التفاهم الخطير، حيث تسعى واشنطن إلى تحقيق التوازن بين مصالحها الإقليمية وتنافسها المتزايد مع الصين.
تخاطر واشنطن بتعطيل فهمها لسلوك ومصالح اللاعبين الرئيسيين في الشرق الأوسط، وإساءة فهم تصرفات القوى العالمية الأخرى هناك مثل الصين، والمبالغة في تقدير آثار الانسحاب الأمريكي
وإذا ما بدأ الخبراء والمحللون وصناع القرار الأمريكيون في فهم الشرق الأوسط كمجموعة مرنة من الدول التي تتدفق من خلالها القوى الاجتماعية الأوسع نطاقا والمنافسة المتغيرة نحو السلطة بدلا من كونها منطقة جغرافية منفصلة، ستبدو العديد من هذه التطورات الأخيرة أقل إثارة للدهشة. سيكون للتفكير فيما وراء الشرق الأوسط التقليدي فوائد تحليلية واستراتيجية مباشرة لواشنطن، ليس فقط لأن ذلك يستوجب استعادة التاريخ المنسي وإنما أيضا لأنه سيؤدي إلى فهم أفضل للحقائق سريعة التغير على أرض الواقع.
ولكن هناك مخاطر على النهج العابر للأقاليم، حيث أن مجرد تبني تعريف البنتاغون الأوسع نطاقا للمنطقة قد ينتهي به الأمر إلى استنساخ العديد من السياسات الأمريكية الفاشلة في أفغانستان والشرق الأوسط على مدى العقدين الماضيين. وهو ما يمثل مأساة.
ينبغي للعدسة عبر الإقليمية أن تسمح لكل من الأكاديميين وصانعي السياسات بتجاوز النماذج القديمة وإعادة التفكير في كيفية تعزيز الولايات المتحدة للتنمية والحكم الرشيد في الخارج. وهو ما يمكن أن يساعد واشنطن أيضا على توليد استجابة أكثر فاعلية لأزمة الهجرة في إفريقيا وأوروبا، وتحسين رد القوى العالمية على الحروب الكارثية في ليبيا واليمن، وتجنب الصراع غير الضروري مع الصين في المجالات والقضايا التي سيكون التعاون بشأنها أكثر منطقية.
كما أن التخلي عن الافتراضات الثقافية والسياسية القديمة حول الشرق الأوسط والنظر إلى المنطقة في سياق عالمي أوسع نطاقًا من شأنه أن يمكّن الولايات المتحدة وحلفاءها أيضًا من أن يصبحوا أخيرا جادين في الدفاع عن حقوق الإنسان وتعزيز التغيير الديمقراطي الحقيقي هناك.
من خلال بقائها حبيسة مفهوم عفا عليه الزمن، تخاطر واشنطن بتعطيل فهمها لسلوك ومصالح اللاعبين الرئيسيين في الشرق الأوسط، وإساءة فهم تصرفات القوى العالمية الأخرى هناك مثل الصين، والمبالغة في تقدير آثار الانسحاب الأمريكي. وسيكون من الصعب التفكير فيما وراء الشرق الأوسط فيما يتعلق بالخبرة المتراكمة، وأنماط التفكير الداخلية العميقة، والهياكل البيروقراطية الراسخة التي تقف جميعها في الطريق. ولكن الديناميكيات المتغيرة للقوى العالمية والممارسات الإقليمية تعمل على إعادة توجيه العديد من الدول الرائدة في الشرق الأوسط التي لم تعد تتبع خريطة واشنطن، بل أصبحت تتبع خريطة خاصة بها، والأمر متروك لواشنطن لتتعلم قراءتها.
المصدر: فورين أفيرز