تشهد خريطة الدراما الرمضانية المصرية هذا العام العديد من التغيرات عما كانت عليه في السنوات السابقة، لعل أبرزها تراجع هيمنة الدولة على السوق الإنتاجي واحتكار منافذ الدخول والخروج في المنظومة الفنية والإعلامية برمتها، لتظهر على الساحة العديد من الشركات الخاصة الأخرى التي تم إزاحتها عن الخريطة خلال السنوات الخمسة الماضية.
غير أن تراجع هيمنة شركة “إعلام المصريين” وذراعها الإنتاجية شركة “سينرجي” (المملوكة لجهاز المخابرات السيادي بحسب وسائل إعلام مصرية) لم يغير كثيرًا في خريطة المضمون، فقد سيطر التسييس على الكثير من الأعمال، فضلًا عن تراجع الدراما الدينية للعام السابع على التوالي، وإن شهد السباق الحاليّ عودة الدراما الاجتماعية وبعض النفحات الكوميدية.
ويعد شهر رمضان الموسم الأبرز لتقديم شركات الإنتاج العربية أوراق اعتمادها دراميًا، إذ يتسابق الجميع لعرض أعمالهم الفنية بأفضل حلة ممكنة، فيما تتصدر مصر خريطة الدراما العربية للماراثون الحاليّ، بإجمالي أعمال بلغت 36 مسلسلًا، ليس من بينها أي عمل تاريخي وهي “علامة الاستفهام” الكبيرة التي يتجاهل القائمون على الدراما المصرية تقديم تفسير لها.
تراجع احتكار الدولة
في أدنى إنتاج لها منذ 2017 تشارك شركة “المتحدة للخدمات الإعلامية” إحدى شركات مجموعة “إعلام المصريين” بـ14 مسلسلًا فقط مقارنة بأكثر من 30 عملًا خلال السنوات الماضية، بما نسبته قرابة 40% من إنتاج العام الحاليّ، بينما هناك 22 عملًا آخرين موزعين على شركات الإنتاج الأخرى.
تراجع الهيمنة لا يتعلق بانخفاض حصة الإنتاج الدرامي هذا السباق على المستوى الكمي، لكنه يتعلق بعرض تلك الأعمال على فضائيات غير تلك المملوكة للشركة المتحدة وجهاز المخابرات التي كانت تستأثر بنصيب الأسد الأعوام الخمس الأخيرة، فهناك نحو 16 مسلسلًا يتم عرضهم على قنوات خليجية وعربية بجانب منصة “شاهد” وبعض القنوات المصرية مثل “النهار”.
كانت شركة إعلام المصريين عبر ذراعها الإنتاجية “سينرجي” تسيطر على السوق الدرامي منذ 2017 حتى 2021، بل كانت تحدد نوعية الفنانيين المشاركين والشركات التي تتعامل معها، ما أدى إلى توقف العديد من الشركات عن العمل وزج مئات الممثلين والكتاب إلى أتون البطالة، كونهم ليسوا من المحظيين بالقرب من صاحب “سينرجي” السابق، تامر مرسي الذي كان يتعامل مع السوق الدرامي المصري كأنه “وسية” يختار لها من يعمل بها ويزيح الآخرين وفق هوى ومزاج شخصي، ما أدى في النهاية إلى زيادة الاحتقان لدى الكثير من الفنانيين، عبروا عن ذلك عبر منشورات لهم على منصات السوشيال ميديا، ما زاد من غضب الشارع ضد الشركة، لذا كان لا بد من التراجع خطوة للخلف امتصاصًا لحالة الاحتقان الشعبي.
سبب آخر وراء كسر حالة الاحتكار السلطوي على خريطة الإنتاج الدرامي المصري هذا العام، تتعلق بمحاولة وقف نزيف الخسائر المتتالية للشركة، فعلى مدار سنوات الهيمنة الخمسة لم تحقق أي أرباح إلا في العام الخامس فقط، تكبدت الشركة المملوكة للمخابرات خلالها خسائر إجمالية تجاوزت 380 مليون جنيه.
وضمت قائمة المسلسلات التي أنتجتها الشركة المتحدة والشركات المنضوية تحت لوائها: الاختيار، جزيرة غمام، الكبير قوي الجزء السادس (شركة سينرجي)، العائدون، المشوار (Media hub)، أحلام سعيدة، فاتن أمل حربي، يوتيرن (العدل جروب)، سوتس بالعربي، راجعين ياهوى، ملف سري، دايما عامر، مكتوب عليا، في بيتنا روبوت2.
جرعة سياسية مكثفة
كعادة الدراما المصرية منذ 2014 تسيطر الجرعة السياسية على المناخ العام في مجمله، حيث تخدم الأعمال المقدمة أجندات سياسية بعينها، وتستهدف في المقام الأول تجميل صورة المؤسسة الأمنية بشقيها، الجيش والشرطة، وشيطنة جماعة الإخوان المسلمين والتيار الإسلامي عمومًا مع بعض الانتقادات الهامشية للمعارضة.
ورغم أن المتحدة للخدمات الإعلامية لم تنتج هذا الماراثون أعمالًا سياسيةً مباشرةً إلا الجزء الثالث من “الاختيار”، فإن الشركات الأخرى المنضوية تحت لوائها – ضمنيًا – عوضت هذا النقص بإنتاج 3 أعمال أخرى هي: العائدون وبطلوع الروح وملف سري، وتعزف الأعمال الأربع كلها على ذات الوتر.
ففي “الاختيار 3” يتعرض العمل إلى بعض الأحداث السياسية التي وقعت في أثناء عزل الرئيس الراحل محمد مرسي وسيطرة الجيش والمؤسسات الأمنية الأخرى على الحكم، حيث تدور الأحداث حول ثلاث شخصيات لضباط مصريين أحدهم يعمل في الأمن الوطني وهو زكريا يونس (يقوم بدوره الفنان كريم عبد العزيز) والثاني ضابط في المخابرات الحربية، واسمه مصطفى خليفة، والثالث في المخابرات العامة واسمه مروان العدوي، ويهدف العمل كما في الجزئين السابقين إلى التأكيد على الدور الذي قامت به تلك المؤسسات للدفاع عن البلد في مواجهة مخطط الإخوان، كما يقول منتج ومؤلف العمل، وهو عمل يندرج تحت إطار “الشؤون المعنوية” التابعة للقوات المسلحة في المقام الأول.
أما “العائدون” (وهو من إنتاج “Media hub” التي يقال إنها البديل الأقرب والجاهز لخلافة “سينرجي”)، يقوم ببطولته الفنان أمير كرارة، بطل الجزء الأول من مسلسل “الاختيار”، فتدور أحداثه حول إحدى القصص المستوحاة من ملفات المخابرات المصرية خلال الفترة من 2018/2020، ويهدف إلى إبراز دور الأمن المصري في مكافحة مخططات الإرهاب عبر التصدي لمؤامرات بعض العائدين من أوكار الإرهاب الدولي والعالمي لتخريب مصر والدول العربية.
وفي السياق ذاته يأتي مسلسل “بطلوع الروح” الذي أحدث ضجةً على منصات السوشيال ميديا قبل أيام حين نشرت بطلة العمل الفنانة إلهام شاهين صورةً لها من داخل المسلسل على صفحتها على فيسبوك، ومرتدية زي تنظيم الدولة “داعش”، بجانب منة شلبي وأحمد السعدني.
العمل تدور أحداثه حول صناعة الإرهاب وكيفية تجنيد الشباب والفتيات للانضمام إلى الجماعات المسلحة، العمل يميل نسبيًا إلى خدمة الأجندة المصرية في الترويج لسردية مسؤولية بعض الدول الإقليمية التي على خصومة سياسية مع مصر خلال السنوات الأخيرة الماضية عن انتشار مثل تلك الجماعات.
وأخيرًا يأتي “ملف سري” بطولة هاني سلامة وتأليف محمود حجاج وإخراج حسين البلاسي، وهو المسلسل الذي يتطابق في منهجه وأهدافه مع مسلسل “الاختيار” حيث استهداف الإخوان وشيطنتهم وإبراز دور الأمن المصري في حماية الدولة من مخططاتهم، وتدور أحداثه حول تفشي الفساد داخل أركان مصر خلال تولي الإخوان الحكم ودور الجماعة في زعزعة استقرار الدولة المصرية حسب القائمين عليه.
الدين والتاريخ خارج دائرة الاهتمامات
رغم عودة الكوميديا مرة أخرى من خلال بعض المسلسلات وإن كانت ضئيلة بما كانت عليه في السابق، فإن السمة الأبرز والأكثر حضورًا طيلة الماراثونات الماضية هي تراجع الأعمال الدينية والتاريخية للعام السابع على التوالي، التي يبدو أنها سقطت بالكلية من حسابات صاحب القرار ابتداء، وبالتبعية المنتجين والممولين.
الكاتب الصحفي نور الدين قلالة، في تقرير له، استعرض رؤى النقاد في أسباب العزوف عن الأعمال الدينية والتاريخية على حد سواء، أبرزها أنها ليست مربحة مقارنة بالأشكال الأخرى، بجانب عدم جرأة المؤلفين والمنتجين للخوض في القضايا الدينية والتاريخية محل الجدل خشية الصدام مع السلطة أو الشارع على حد سواء، هذا بجانب الوقت المطلوب لإنتاج مثل تلك الأعمال قياسًا بالمسلسلات “التيك أواي” الأخرى.
لكن على الجانب الآخر هناك من يرد على تلك المبررات ويفندها بلغة الأرقام، لا سيما ما يتعلق بعدم ربحية الأعمال الدينية، مستشهدًا بمسلسل “يوسف الصديق” الإيراني، فقد تجاوزت أرباحه 70 مليون دولار، كذلك مسلسل “قيامة أرطغرل” التاريخي التركي الذي تجاوزت أرباحه مليار دولار.
قلالة في تقريره كشف عن بعد ثقافي آخر وراء هذا التراجع اللافت للنظر للجانب الديني والتاريخي في دراما رمضان، لافتًا إلى تجاهل الثقافة الإسلامية في قائمة أولويات صناع الدراما المصرية مقابل الترويج لثقافات أخرى لا علاقة لها بالثقافة العربية الإسلامية، فهذه النوعية من المسلسلات تعزز الهوية الإسلامية والعربية للشارع المصري وفي نفوس النشء الجديد، إذ تستلهم قوتها من هذا التاريخ النضالي الكبير وشخصياته البطولية الخالدة، وهو ما يتحفظ عليه المزاج السلطوي الحاكم في الآونة الأخيرة، مقارنة بالمطالب المستمرة لتعزيز المسار الاجتماعي والإعلاء من شأن المرأة وثقافة المساواة والطعن بين الحين والآخر في ثوابت الدين وتراثه ورموزه.
سيطرة توجه تجميل صورة رجال الشرطة والجيش وشيطنة المعارضة والإسلاميين لا يمكن اعتباره نوعًا من الدراما الوطنية كما يسميه بعض النقاد في مصر، لكن الوصف الأكثر موضوعية ودقة يتمحور حول “دراما البروباغندا”
في تقرير لها في 8 أبريل/نيسان 2021، تحت عنوان “كيف تغير الترفيه المصري تحت الحكم العسكري: التلميحات الجنسية ذهبت، وجاء التجسيد البطولي للضباط”، كشفت مجلة “الإيكونوميست” البريطانية عما أسمته “هوس” الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بالسيطرة على صناعة الترفيه، لافتة إلى أن مصر قديمًا كانت موضع حسد العالم خلال القرن العشرين لما كانت تمتلكه من ثروة وحضور فني غير مسبوق، وكانت الأفلام والدراما أكبر صادرات الدولة المصرية، لكن سرعان ما انهارت تلك الريادة بحكم التغيرات التي شابت الخريطة الترفيهية والإنتاجية.
المجلة كشفت أن سيطرة توجه تجميل صورة رجال الشرطة والجيش وشيطنة المعارضة والإسلاميين لا يمكن اعتباره نوعًا من الدراما الوطنية كما يسميه بعض النقاد في مصر، لكن الوصف الأكثر موضوعية ودقة يتمحور حول “دراما البروباغندا” التي يحاول بها السيسي الإبقاء على الصورة الجميلة والمشرقة للمؤسسة العسكرية في أذهان المصريين بما يساعده في التغلب على التحديات الاقتصادية والمعيشية التي يواجهها المصريون جراء السياسات المتبعة.
ردود الفعل الشعبية إزاء الخريطة الرمضانية الجديدة والمحاولات المستميتة لتسليط الضوء على الجزء الثالث من “الاختيار” لتصديره كجرعة تخديرية مركزة تسحب البساط من تحت الملفات الأخرى، تشير إلى تصاعد مشاعر الاحتقان الجماهيري جراء الوضع المعيشي المتدني والأسعار الجنونية وتحميل المواطنين أعباء تفوق قدراتهم ودخولهم، ما أدى في النهاية إلى فقدان شريحة كبيرة من المصريين فرحة رمضان التي بلا شك لا يمكن للدراما أيًا كانت قوتها أن ترمم شروخها وتُسكت أنينها المتصاعد، لتقف دراما رمضان هذا العام عند حاجز البروباغندا الضيق كما قالت “الإيكونوميست”.