الصورة: بداية اشتباكات محمد محمود، 19 نوفمبر 2011، تصوير: حسام الحملاوي @3arabawy
ترجمة وتحرير نون بوست
منذ ثلاث سنوات بالضبط، انضمت سالي توما إلى المئات من المتظاهرين بطول شارع محمد محمود بميدان التحرير، في معركة استمرت ستة أيام بمواجهة قوات الأمن المصرية، خلّفت 51 شهيدًا. أتت سالي مجددًا هذا العام، ولكنها كانت وحيدة في نفس الشارع.
تقول سالي، الناشطة البالغة من العمر 36 عامًا، وواحدة ممن نزلوا إلى الشوارع منذ بدايات الثورة، “أشعر بالحزن لأن كل من شاركوا في هذه الملحمة وعاشوها وكانت الثورة بداخلهم، ليس بإمكانهم اليوم أن ينزلوا بحرية إلى نفس المكان. هناك دعوات مختلفة للنزول للتظاهر، ولكن أحدًا اليوم لا يستطيع تأمين أي مظاهرة بالنظر للوضع الحالي. إذا ما أصيب الناس، لمن سنوجه اللوم: قوات الأمن، أم قانون التظاهر، أم من دعوا إلى التظاهر من الأصل؟”
يوم الأربعاء الماضي، تم اعتقال 48 شخصًا من وسط البلد أثناء مسيرة متجهة لمحمد محمود تفرقت على يد قوات الشرطة، والتي أطلقت الغاز المسيل وضرب النار في الهواء لتفريقهم. منذ إزاحة الرئيس السابق محمد مرسي بقيادة الجيش العام الماضي، تضاءلت مساحات التظاهر والتعبير عن الرأي بشكل كبير، وتم منع الآلاف من التظاهرة، وقتل آلاف غيرهم. مررت السلطات الجديدة قانون تظاهر مثير للجدل يمنع أي تجمّعات غير تلك التي تسمح بها الشرطة، وقد تم إغلاق الكثير من منابر حقوق الإنسان مخافة الإضرار بهم تحت طائلة ذلك القانون.
تقول سالي، “الشعور بالهزيمة شديد. محمد محمود هي الذكرى الوحيدة لنصر قوي لنا. لقد كانت الثورة الحقيقية، حتى أكثر من 25 يناير، لأن الإخوان خذلونا فيها، ولم يتبقى على الأرض سوى كل من آمن بالثورة قلبًا وقالبًا.”
بدأت المعارك يوم 19 نوفمبر حين حاولت قوات الأمن فض اعتصام لأهالي المصابين والشهداء في ميدان التحرير بالقوة المُفرطة، وكان الاعتصام يطالب بمحاكمات عادلة لمن قتلوا على مدى 9 أشهر دون أن يطالهم القانون. هجمت القوات المدججة بالهراوات على المتظاهرين ودمّرت خيامهم، وهو ما أشعل نيران الانتفاضة منذ ثلاثة سنوات مضت، خاصة بعد نشر صور سحل الشرطة للمواطنين، وإلقائها لجثث القتلي منهم في صفائح القمامة.
كنت أجلس يوم السبت بالتحديد، على بعد بضعة أمتار من الميدان، أشاهد مجموعة من المخرجين المستقلين الذين ولدوا بعد الثورة، وكانوا يتحدثون عن كيفية تصوير التظاهرات بشكل مباشر. كنا نتابع تويتر كعادتنا، وسمعنا فجأة عن العنف الجاري فهرولنا جميعًا إلى هناك، حاملين كاميراتنا وأوراقنا.
قمت بتغطية التظاهرات لأيام لصالح النسخة الإنجليزية من المصري اليوم آنذاك، وكنا في الميدان لوقت متأخر من الليل نتابع الكر والفر بين المتظاهرين والشرطة. كل ما كنا نراه آنذاك كانت وجوه الناس البيضاء من أثر الخل وهم يهرولون هربًا من قنابل الغاز المسيل، وأزمات التنفس الحاصلة بسببها.
اشتهرت ضمادات الأعين آنذاك نظرًا لاستهداف الضابط محمد الشناوي — يُعرف أيضًا بقناص العيون — لأعين الشباب، وهو ما تبعه فيه كثيرون من الضباط ليفقد الكثيرين أعينهم، ومنهم أحمد حرارة الذي فقد عينه الثانية بعد أن فقد الأولى في أيام الثورة الأولى.
الانقسام الأول
يعتبر الكثيرون محمد محمود أول لحظات انفسام الشارع لسبب رئيسي: تجلي الانقسام بين معسكر استمرار الثورة بمواجهة قمع أجهزة الدولة، ومنها الشرطة والجيش والقضاء، ومعسكر المستعدين للجلوس والحوار لمصالحهم السياسية الخاصة؛ تحديدًا الإخوان المسلمين. على مدار ستة أيام، كان قرار جماعة الإخوان الرسمي هو الانسحاب من الشارع وعدم التواجد بين المتظاهرين، وكان هذا متوقعًا، كما يقول أشرق شريف، أستاذ بالجامعة الأمريكية، من الجماعة التي تعتبر نفسها إصلاحية بالأساس لا ثورية، والتي شغلتها آنذاك الانتخابات البرلمانية، معتقدة أنها ستحملها بسهولة إلى سدة الحكم بعد انهيار حزب الوطني إبان الثورة وبقائها كقوة سياسية منظمّة وحيدة على الأرض. نزل العديد من شباب الإخوان بمبادرة شخصية، ولكن قوة الحشد الإخوانية لم تكن بجانبهم.
طالب الكثيرون في الميدان بإلغاء الانتخابات، والتي اعتبروها دون جدوى طالما ظل المجلس الأعلى للقوات المسلحة المتهم بالقمع والقتل منذ تنحي مبارك. “كانت تلك أسوأ وأكبر خطيئة قام لها الإخوان في تاريخهم كله، ونحن الآن كلنا ندفع الثمن،” هكذا حمزة، واحد ممن عملوا بمكتب الرئيس السابق محمد مرسي، “إذا قمنا بتوثيق الثورة، سيكون قرار الإخوان عدم النزول هو شرارة الاستقطاب الذي تلى ذلك بين الإسلاميين وغير الإسلاميين.
أجبرت الصدامات المجلس العسكري على إعلان جدول زمني لنقل السلطة، وهو ما تم بالفعل بعد ٩ أشهر في انتخابات رئاسية أوصلت مرسي إلى سدة الحكم، كأول رئيس مدني منتخب ديمقراطيًا في تاريخ مصر. عم الفرح حينها، ولكن قرار المضي قدمًا في الانتخابات كان ليثبت بعد حين أنه القرار الخاطئ. بعد عام واحد فقط، قام الجنرال الذي عيّنه مرسي بنفسه بإزاحته ووضعه بالسجن، وأصبح هو الآن الرئيس بعد انتخابات بعيدة عن الشفافية كما قال كثيرون، في مايو المنصرم.
أثناء توليه لوزارة الدفاع، أشرف السيسي على أكبر مجزرة في تاريخ مصر المعاصر، قُتِل فيها ما لا يقل عن 800 في 14 أغسطس 2013، أثناء فض الجيش والشرطة لاعتصام رابعة العدوية المعارض للانقلاب والمطالب بعودة مرسي. منذ ذلك الحين أيضًا والحكومة تقمع كافة التيارات الأخرى.
“لا شيء نخسره”
كان من المتوقع أن تكون الأعداد ضئيلة في إحياء ذكرى محمد محمود هذا العام، بالنظر لدبابات الجيش المتواجدة في كل مكان حول مداخل ميدان التحرير، وفي مواجهة محمد محمود. كانت الحكومة في العام الماضي قد وضعت نصبًا تذكاريًا في وسط الميدان لتكريم شهداء الأحداث، ونصب مُضحِك بالنظر لأن قواتها هي من قام بقتلهم وإصابتهم آنذاك، وقد قام المتظاهرون بتكسير النصب ولم تبقى منه سوى أجزاء.
على الناحية الأخرى، دعا أنصار مرسي إلى تظاهرات يوم 28 نوفمبر، في ذكرى أول نتخابات برلمانية منذ ثلاث سنوات. تقول سالي أن نوفمبر لا يمثل شيئَا سوى ذكرى كل من صحوا بأنفسهم في محمد محمود، والذي يتذكرهم كل من يسير في الشارع، “الشارع كالمتحف المفتوح، هو معقل ذكرياتنا، وعلينا أن نبقيها حية بزيارتها. أظل أفكر فيما ماتوا من أجله وما يجب أن نظل نكافح لأجله. ما يدفعني الشارع للتفكير فيه هو أيضًا حياتي وكيفية البقاء. فقط البقاء. نحن الآن في مرحلة الصراع من أجل البقاء.”
الكثير من المتظاهرين، تحديدًا النساء، تم اغتصابهن والاعتداء عليهن جنسيًا على أيدي ضباط، ورجال مجهولين يقول النشطاء أنهم مدفوعين من النظام لإسكات وإخافة الناس في الشارع والسجون. حين نتحدث عن النشطاء تأتي إلى الأذهان دومًا عائلة بعينها، والتي تضم علاء عبد الفتاح، المدوّن والناشط المُطارد في عصور مبارك والمجلس الأعلى ومرسي والسيسي، والذي كان في السجن منذ ثلاث سنوات وهو في السجن اليوم أيضًا.
تم اعتقال علاء لتظاهره ضد قانون التظاهر، وهو الآن مضرب عن الطعام، كما كانت أمه أيضًا في 2011 اعتراضًا على محاكمة ابنها عسكريًا. هذا العام، أضربت أخته منى سيف وأمه عن الطعام، وهما نشاطتان معروفتان، لمدة 75 يومًا دعمًا له، وقد أنهيا إضرابهما اليوم. سناء، أخت علاء الثانية، تقبع هي الأخرى في السجن نظرًا لتلقيها حكم بثلاث سنوات اعتراضًا على قانون التظاهر.
أنجبت زوجة علاء طفلها الأول أثناء سجنه عام 2011. وهذا العام، توفي أبوه وهو أيضًا مع أخته سناء خلف القضبان. تقول أهداف سويف، خالة علاء وأخواته، أن كل ذلك سينتهي يومًا ما، وأن المستقبل حتمًا سيكون للشباب.
بيد أن البعض لا يشاركها هذا التفاؤل.
يقول حمزة، البالغ من العمر 24 عامًا، أنه سيتظاهر بغض النظر عن المخاطر، لأنه لم يعد هناك شيئًا ليخسره، “لقد خسرت أخي شخصيًا، وخسرنا جميعًا بلدنا وأصدقاءنا.” أحمد، أخو حمزة، أستاذ جامعي، وتم اعتقاله من منزله في سبتمبر العام الماضي بتهمة تشكيل نظام عصابي لسرقة المنازل وتوريع الأهالي، وهي اتهامات مُضحكة، كما يقول حمزة.
يقول أشرف الشريف، أنه ليس متفائلًا أيضًا بما يجري، وأنه لن يشارك في تظاهرات ذكرى محمد محمود. “ربما تتغير موازين القوى على المدى البعيد، ولكن في المستقبل القريب، الوضع سيء للغاية. لن أشارك في إحياء الذكرى. إنه أمر بلا معنى في هذه اللحظة.”
المصدر: ميدل إيست آي