علم الحيل
لم تقل إسهامات العرب والمسلمين في مجال علم “الميكانيكا” أو كما يطلقون عليه “علم الحيل” عن نظيره في العلوم الأخرى، دينية كانت أو دنيوية، إذ نجح المسلمون في تقديم أنفسهم كأصحاب حضارة راقية ورسالة سامية تولي العلم المكانة الكبيرة وتسير في مسارات متوازية جنبًا إلى جنب في المسار الشرعي والفقهي.
وفي هذا الشأن يقول العالم الإنجليزي “ج كراوثر” (مدير القسم العلمي بالمجلس البريطاني سابقًا) في كتابه الشهير “قصة العلم” مستعرضًا تأثير المسلمين في الحركة العلمية التاريخية: “كان من الطبيعي بعد أن اطمأنوا إلى قوتهم العسكرية ومعتقداتهم الإيمانية – يعني المسلمين – أن يتجهوا لتشييد المدن الرائعة ودراسة ثقافة الحضارات التي دانت لهم”، وأضاف “كان العرب المسلمون أمة جديدة بلا تراث علمي سابق، فقرأوا التراث الفكري للقدماء بعقول متفتحة بلا خلفيات تعوقهم، ولذلك وقفت الثقافات اللاتينية والإغريقية والهندية والصينية جميعًا بالنسبة لهم على قدم المساواة، وكان من نتائج هذه العقلية المتعطشة للمعرفة عند المسلمين أنهم أصبحوا بالفعل المؤسسين الحقيقيين لمفهوم العالمية في المعرفة أو وحدة المعرفة الإنسانية، وهي إحدى السمات بالغة الأهمية بالنسبة للعلم الحديث”.
وقد سجلت المكتبة الإنسانية عشرات الإسهامات التي قدمها المسلمون في مجال علم الحيل أو كما يسمى حديثًا “علم الهندسة الميكانيكية”، إذ وصلت الحضارة الإسلامية لأعلى نقطة يمكن الوصول إليها في هرم التقدم التكنولوجي، مستندة في ذلك إلى خلفية إنسانية بحتة، إذ لم تكن الميكانيكا وسيلة ترفيه أو لتحقيق أهداف دينية كما كانت في الصين والحضارات الأخرى، فقد كان ينظر علماء المسلمين إلى هذا العلم على أنه “الحصول على الفعل الكبير من الجهد اليسير”، توفيرًا لجهد ووقت الإنسان ومن أجل الحصول على أكبر قدر ممكن من الاستفادة التي تصب في صالح البشرية جمعاء.
علم دراسة حركة الأجسام
تعرف الميكانيكا بأنها “علم الآليات” و”علم القوى المحركة والساكنة” بجانب “علم الحيل”، وتندرج تحت إطار علوم الفيزياء المعنية بحركة الأجسام، وقد بدأت إرهاصاتها الأولى في اليونان القديمة، حيث كتابات أرسطو وأرشميدس، فيما وضع نيوتن وكيبلر وغاليليو النواة الأولى لما يعرف حاليًّا بـ”الميكانيكا الكلاسيكية” وهي ذلك العلم الذي يتعامل مع الأجسام التي تكون في حالة سكون أو يكون تحركها أقل بكثير من معدل سرعة الصوت.
وعليه يمكن القول إن الميكانيكا علم تجريدي تجريبي في آن واحد، تجريدي في تطوراته، وتجريبي في مبادئه الأساسية، هذا بخلاف أنه في المقام الأول علم رياضي بحت له فرضياته ومسلماته، ومن ثم ينسحب بنظرياته ومعادلاته على العديد من المجالات التي تهتم بدراسة حركات النجوم والأجرام السماوية كالشمس والأقمار والكواكب.
كان الهدف ابتداءً من الرعاية الكبيرة لهذا العلم “الحصول على الفعل الكبير من الجهد اليسير”
وينقسم هذا العلم إلى قسمين أساسيين وفروع عدة: الأول قسم “الإستاتيكا” وهو المهتم بدراسة الأجسام الثابتة أو الساكنة، الثاني قسم “الديناميكا” وهو الذي يدرس طبيعة القوى المؤثرة على الأجسام المتحركة، الذي ينقسم إلى جزئين: الميكانيكا الكلاسيكية (دراسة حركة الأجسام تحت تأثير قوة واحدة أو أكثر من قوة) والميكانيكا الكمية (دراسة وتفسير الظواهر على مستوى الذرة والجسيمات دون الذرية).
انحصرت الاستخدامات الأولى لفروع الميكانيكا التي عرفتها الشعوب القديمة في مصر والصين والرومان والإغريق، في الأغراض الدينية البحتة أو ممارسة السحر والشعوذة لدى الملوك والحكام، فقد كان الصينيون يستخدمون العرائس المتحركة على المسرح الديني لإثبات حقائق دينية خاصة بالعقيدة وقدرة الإله الخاص بهم (كانت العرائس تصدر أصواتًا وكأن الإله يتحدث إلى شعبه)، الأمر كذلك عند قدماء المصريين، فيما يعود الفضل للإغريق تحديدًا في الانتقال تدريجيًا من الاستخدامات الدينية إلى وضع بذور علم الميكانيكا بشكله العصري.
المسلمون وعلم الميكانيكا
أولى المسلمون اهتمامًا كبيرًا بعلم الميكانيكا في إطار الاهتمام الإجمالي بكل أنواع العلوم التي تهدف إلى الارتقاء بالجنس البشري وتحقيق أقصى استفادة ممكنة من العقل الفردي والجمعي وتوظيف قدراته في خدمة الإنسانية، لذا كان الهدف ابتداءً من الرعاية الكبيرة لهذا العلم “الحصول على الفعل الكبير من الجهد اليسير”، كما ذكرت المراجع التاريخية، وهم بذلك يخرجون من عباءة التسلية وخدمة الطقوس الدينية التي كانت تخيم على الشعوب السابقة.
وفي إطار رحمة الإسلام بالإنسان والحيون معًا، من خلال القضاء على العبودية التي كانت منتشرة في ذلك الوقت لإنجاز الأعمال الشاقة، بجانب تقليل العبء على الحيوانات التي كانت تستخدم في الأنشطة القاسية التي كانت تكلفها حياتها في كثير من الأحيان، كان لا بد من توظيف الميكانيكا لتقليل تلك الأعباء، وعليه أصبح لعلم الحيل عند المسلمين هدف أكثر دقة وهو التحايل على ضعف الإنسان، من خلال التيسير عليه باستعمال الآلة المتحركة.
وخلال القرنين الحادي عشر والثالث عشر استطاع علماء المسلمين وعلى رأسهم ابن سينا وأبي البكات البغدادي والرازي، تطوير المنهجية العلمية للعديد من فروع الميكانيكا، فأثروا المكتبة العلمية بالعديد من الإسهامات القيمة في دراسة الحركات والقوى، فها هو الرازي يتوصل إلى أن الجسم تزداد قوته كلما كانت كتلته أكبر، وهي النتيجة التي أثبتها علماء الغرب بعد ذلك بمئات السنين.
أما ابن سينا فكان يرى “أن الجسم له ميل للاستمرار في حركته، يحس بها المانع الذي لا يتمكن من منع حركته إلا فيما يضعفها أولًا، إذ تأخذ الموانع الطبيعية والخارجية في إفنائها قليلًا”، فيما أسهم البغدادي إسهامات كبيرة في تعزيز مفهوم “التسارع” من خلال التوصل إلى أن “الجسم الذي يلازمه سبب حركته، تزداد حركته على التواصل لولا مقاومة الوسط، سواء كانت حركته طبيعية أم قسرية”، وهو ما تواصل إليه عالم الفلك الإيطالي غاليليو غاليلي (1564- 1642م) بعد ذلك بـ500 عامًا.
كما يُنسب للمسلمين أنهم أول من استخدموا “الدواليب المائية” لتدوير ماكينات الطحين وعصارات القصب والبذور، بجانب استخدامها في رفع مياه الري من الترع، فضلًا عن استخدامهم طاقة الماء والهواء على أكبر نطاق ممكن، ما أسهم في تقدمهم الزراعي تحديدًا، ومن ثم يمكن تلخيص أهداف تطوير المسلمين لعلم الميكانيكا في عباراة واحدة “الارتقاء بشأن الفرد والمجتمع وبناء الحضارات وتوفير الوقت والجهد ورحمة الإنسان والحيوان”.
أشهر علماء الميكانيكا المسلمين
تزخر سجلات التاريخ بالعديد من الأسماء اللامعة من علماء المسلمين الذين برعوا في تقينات الهندسة الميكانيكية وأسهموا فيها إسهامات خالدة حتى اليوم، نذكر منهم:
بنو محمد بن موسى بن شاكر
وهم: أبو جعفر (803 – 873م) وقد برع في الفلك والهندسة والجغرافيا والفيزياء، وأحمد (803 – 873م) الذي برع في الهندسة والميكانيكا، وأخيرًا الحسن (810 – 873م) وبرع في الهندسة والجغرافيا.
وللأخوة الثلاث الذين عاشوا في القرن التاسع الميلادي ما بين خراسان بإيران وبغداد بالعراق، إنجازات هائلة ناطحوا بها علماء اليونان والإغريق القدماء، ولعل كتابهم الشهير “حيل بني موسى” أحد أبرز الدرر في الهندسة الميكانيكية، إذ يتضمن قرابة مئة ابتكار ميكانيكي مع شروح تفصيلية لكل منها، بعضها يعتبر اختراعات علميَّة حقيقية مكتملة الأركان والجوانب.
كان إيمان بنو موسى بالعلم لا مثيل له، إذ كانت النهضة العلمية بالنسبة لهم غاية وليست وسيلة للتكسب كما كان لدى الآخرين، إذ تشير الروايات إلى أنهم سخروا ما حصلوا عليه من مال طيلة حياتهم لدعم العلماء فجذبوا حولهم أباطرة كبار وجذبوا أيضًا أطباء ومترجمين وفلكيين ومهندسين كثيرين منهم حنين بن إسحق وثابت بن قرة.
بنى تقي الدين الدمشقي الشامي المرصد الفلكي في إسطنبول 1177م، هذا بخلاف إسهاماته الأخرى في اختراع العديد من الطرق لإخراج الماء إلى الأعلى عن طريق المضخات، فضلًا عن اختراعه للساعة الفلكية الميكانيكية
بديع الزمان الجزري ابن الرزاز (1136- 1206م)
أحد أشهر علماء الميكانيكا في التاريخ الإنساني، ولد في جزيرة ابن عمر في سوريا، وعمل رئيسًا للمهندسين في ديار بكر شمال الجزيرة الفراتية وحظي بمكانة كبيرة لدى البلاط الحاكم، فأصبح كبير مهندسي الميكانيكا لمدة ربع قرن تقريبًا.
من أشهر إسهاماته الميكانيكية كتاب “الجامع بين العلم والعمل لصناعة الحيل” الذي وُصف بأنه “الأكثر دقةً ووضوحًا” في هذا العلم، وترجم إلى عدة لغات، وقد قسم هذا الكتاب إلى عدة أقسام تناولت معظم الحركات الميكانيكية للعديد من الأجهزة والاستعمالات التقنية والتصميمات الهندسية النافعة، من أبرزها “ساعة الفيل” وهي ساعة معقدة تخبر بالوقت، ومصممة على شكل فيل يمتطيه راكب يعلن الوقت كل ساعة، وقد اعتمدت على تقنيات العمل بالمياه، فيما أطلق عليها البعض “أول روبوت في التاريخ”.
كما اخترع طريقة للتحكم في سرعة دوران عجلة باستخدام آلية الهروب، بجانب خمس آلات لرفع المياه، وكذلك طواحين مائية وعجلات مائية مع حدبات على محورها تستخدم لتشغيل الآلة، وفي حقه قال المؤرخ الإنجليزي دونالد هيل، أحد كبار علماء التكنولوجيا في التاريخ: “نرى للمرة الأولى في عمل الجزري عدة مفاهيم مهمة لكل من التصميم والبناء: تصفيح الأخشاب لتقليل التشوه إلى أدنى حد وتحقيق التوازن الثابت بين العجلات، واستخدام قوالب خشبية ونماذج الورق لإنشاء التصاميم، ومعايرة الفتحات وطحن المقاعد والمقابس للصمامات مع مسحوق الصنفرة ليلائم الماء، وصب المعادن في صناديق مقفلة مغلقة بالرمل”.
أشهر إسهامات الجزري الميكانيكية كتاب “الجامع بين العلم والعمل لصناعة الحيل” الذي وُصف بأنه “الأكثر دقةً ووضوحًا” في هذا العلم
تقي الدين الدمشقي الشامي (1526 – 1585م)
ولد في سوريا وعاش حياته في كنف الدولة العثمانية، وكان أحد المسلمين العرب الموسوعيين في كل مجالات العلوم، فكان فلكيًا منجمًا ومهندسًا بارعًا وفنيًا محترفًا، له أكثر من 90 مؤلفًا في علوم الفلك والتنجيم وصناعة الساعات والهندسة والرياضيات والميكانيكا والبصريات والفلسفة الطبيعية.
حظي بتقدير كبير من الدولة العثمانية فيما وصف حينها بأنه أعظم عالم على وجه الأرض، ويعد كتابه “الطرق السامية في الآلات الروحانية” أحد أشهر المؤلفات في التاريخ، هذا الكتاب الذي وصف فيه الأجزاء الأساسية الذي يتكون منها التوربين البخاري والمحرك البخاري، قبل أن يكتشفها العالم جيوفاني برانكا سنة 1629م.
صمم عام 1547م – مع أخيه الأكبر – آلة لتدوير السيخ الذي يوضع فيه اللحم على النار، ليدور من تلقاء نفسه من غير حركة حيوان، كما بنى المرصد الفلكي في إسطنبول 1177م، هذا بخلاف إسهاماته الأخرى في اختراع العديد من الطرق لإخراج الماء إلى الأعلى عن طريق المضخات، فضلًا عن اختراعه للساعة الفلكية الميكانيكية، التي سُمِّيت في كتابه “الكواكب الدرية في البنكامات الدورية” باسم ساعة المشاهدة، وكانت تعتبر أول ساعة تقيس الوقت بالدقائق.
العالم الأندلسي علي بن خلف المرادي
ينضم إلى كوكبة علماء المسلمين الكبار في الميكانيكا، صاحب كتاب “الأسرار في نتائج الأفكار” أحد أبرز المؤلفات الميكانيكية في القرن الخامس الهجري في الأندلس، هذا الكتاب الذي يضم أكثر من ثلاثين نوعًا من الأجهزة الميكانيكية، أشهرها حامل المصحف الموجود بجامع قرطبة، كذلك العالم بن يونس المصري الذي عاش في نهايات القرن العاشر وبدايات الحادي عشر الميلادي، ويذكر عنه العالم البلجيكي الأمريكي جورج ألفريد ليون سارتو، فى موسوعتة “تاريخ العلم” أنه أول من اخترع الرقاص واكتشف قوانين ذبذبته، وذلك قبل أن يتوصل إليها العالم الإيطالي غاليليو بستة قرون.
وهكذا تثبت الحضارة الإسلامية أنها ليست حضارة دينية فقط، كما يدندن بعض المستشرقين، إذ إنها – بشهادة المنصفين منهم – أسهمت في البناء الحضاري الإنساني وما يزال يُنتفع بعلوم علمائها في كل العصور وفي المجالات المختلفة حتى اليوم.