توجه الناخبون المجريون صباح اليوم إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في الانتخابات البرلمانية التي تعد واحدة من أكثر الماراثونات حساسية في ظل التنافس الكبير بين معسكر الشرق المقرب من موسكو بقيادة رئيس الوزراء الحاليّ، قومي التوجه، فيكتور أوربان (59 عامًا) ممثلًا عن التحالف الحاكم بزعامة حزب “فيديز”، والمعسكر المائل للغرب بقيادة زعيم المعارضة بيتر ماركي زاي (49 عامًا)، وتحالفه المكون من 6 أحزاب.
يحاول أوربان الذي يحكم البلاد منذ 12 عامًا، ويعد أطول زعماء أوروبا بقاءً في الحكم، الفوز بولاية رابعة، وسط مخاوف من المعارضة من فرض رئيس الحكومة “النموذج البوتيني” على السلطة الداخلية (الهيمنة على كل السلطات وإنهاء الفصل بينها) في ظل العلاقة القوية التي تربط بينه وبين الرئيس الروسي، حتى إن البعض وصفه بـ”خادم بوتين”.
الاستطلاعات الأولية ربما تصب في صالح الحزب الحاكم بنسبة 39% مقابل 36% للمعارضة، لكن من المتوقع أن تكون المنافسة قوية في ظل تقارب الحظوظ مقارنة بالدورات السابقة، وهو ما أشار إليه المحلل في معهد “بوليتكال كابيتال”، بولتشو هونيادي، الذي يرى أنه “لم يسبق لرئيس الوزراء الذي يعتمد نهجًا سياديًا أن واجه يومًا مثل هذا الغموض في الانتخابات”، مؤكدًا أن كل الخيارات مطروحة، في ظل ارتفاع نسبة المترددين بشأن أوربان وزاي، المقدر عددهم بنحو نصف مليون في البلد الذي يضم 9.7 ملايين نسمة.
أوربان ونظرية المؤامرة
منذ تولي أوربان السلطة في 2010 والعلاقات بين بودابست والاتحاد الأوروبي تعاني من توترات بين الحين والآخر، إذ ينتمي رئيس الوزراء المجري إلى القومية المتشددة التي تتعارض شكلًا ومضمونًا مع سياسات القارة العجوز، فضلًا عن اتهامات عواصم أوروبا له بالسير عكس عقارب الساعة الغربية بما يهدد مصالحها ويضعها على المحك.
يمثل أوربان النموذج الشعبوي الأكثر تطرفًا في القارة الأوروبية، وعليه يلقى خطابه السياسي الرسمي قبولًا لدى شريحة كبيرة من أبناء هذا التيار الذي يصدر نفسه كنموذج ناجح للقومية المسيحية في صراعها الأبدي مع النظام العالمي الجديد ذو التوجه الليبرالي.
يتبنى رئيس الوزراء الشعبوي نظرية المؤامرة كأحد المرتكزات الأساسية في سياسته طيلة السنوات الـ12 الماضية، حيث يرى في الاتحاد الأوروبي كيانًا سياسيًا خطرًا يهدد استقلال وسيادة بلاده ويسعى للهيمنة عليها عبر سياسات لا تراعي مصالحها الخاصة، وينطلق من تلك الرؤية في تعزيز شعبيته المتصاعدة لا سيما منذ 2015 حين وصلت الشعبوية إلى مستويات غير مسبوقة في تمددها الرأسي والأفقي.
وينتهج أوربان حزمة من السياسات المتطرفة التي ألقت بظلالها على المشهد المجري خلال الآونة الأخيرة، حيث قاوم بشدة فكرة استقبال بلاده لأي مهاجرين، وأغلق الباب تمامًا أمام أي محاولات أو ضغوط، وصلت إلى حد بناء أسلاك شائكة على الحدود لمنع دخول اللاجئين البلاد في 2017، هذا بخلاف التعامل غير الآدمي من الشرطة مع طالبي اللجوء على الشريط الحدودي المجري، وهي السلوكيات التي أدانتها المنظمات الحقوقية الدولية.
ونتاجًا لذلك طالب السياسي الشعبوي النساء بالإكثار من الإنجاب بهدف تعزيز القومية المسيحية في مواجهة أي تغيرات ديموغرافية محتملة مستقبلًا، فيما لعب جيدًا على أوتار العقيدة ومشاعر الدين بما يخدم أهدافه السياسية التي تتمحور حول بقائه في السلطة أطول قدر ممكن، ساعده على ذلك هيمنته على وسائل الإعلام وكبت الحريات وتصدير الصوت الواحد الذي يعكس وجهة نظره ويعزز السردية التي يريدها.
المعارضة.. وحدة تصطدم بالتحديات
تحاول المعارضة من خلال الانتخابات الحاليّة كسر هيمنة “فيديز” على منظومة الحكم بعد 12 عامًا من السيطرة الكاملة، فشكلت 6 أحزاب تحالفًا رئيسيًا لمواجهة أوربان في تلك المعركة، هي: الاشتراكي المجري (اجتماعي ديمقراطي) ويوبيك (يمين قومي) والديمقراطي الكلاسيكي وحزبي الخضر والليبرالي وحزب “وطننا”.
واتفق التحالف على اختيار بيتر ماركي زاي، الذي ينتمي إلى تيار الوسط اليساري، كمرشح رئيسي، لما يتمتع به من حضور جماهيري كبيرة وخبرة سياسية كافية، إذ نجح في الحصول على أغلبية الأصوات في الانتخابات التمهيدية لأحزاب المعارضة التي جرت في أكتوبر/تشرين الأول الماضي لاختيار المرشح الأساسي لمنافسة أوربان في تلك الانتخابات.
وتواجه المعارضة العديد من التحديات في مساعيها لإزاحة الحزب الحاكم الذي يسيطر على 106 مقاعد من أصل 199 مقعدًا داخل الجمعية الوطنية المجرية (البرلمان)، أبرزها مساحات الحريات الضيقة وهيمنة أوربان على المنظومة الإعلامية وتضييق الخناق على التحركات السياسية لأحزاب المعارضة، فضلًا عن ابتزاز الشارع بما لديه من نفوذ مالي وسياسي.
ويعتمد تآلف المعارضة على استغلال الانتقادات والثغرات التي يمكن تشويه صورة أوربان من خلالها، على رأسها إساءة استخدام السلطة وتسخير موارد الدولة لخدمة أجندته السياسية الخاصة، وهو ما يمكن قراءته من الحملات الإعلانية المكثفة له ولحزبه والممولة من ميزانية البلاد (البعض يقدرها بـ4 مليارات دولار)، هذا بخلاف منح المقربين منه صلاحيات غير مسبوقة كالسيطرة على النخب الاقتصادية والرموز الإعلامية والأكاديميين، بجانب منحهم الامتيازات الهائلة التي حولتهم إلى أكبر الأثرياء في المجر، في مشهد أقرب لـ”أوليغارشية” بوتين.
الحرب الروسية الأوكرانية تلقي بظلالها
وضعت الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في 24 فبراير/شباط الماضي رئيس الوزراء المجري في مأزق سياسي، إذ أكدت تبعيته شبه الكاملة للمعسكر الشرقي، وأفقدته مساحة المناورة التي كان يلجأ إليها بين الحين والآخر لتبرير مناهضته للسياسة الأوروبية بزعم الدفاع عن استقلالية بلاده ومصالحها.
كان أوربان من أوائل الساسة الذين رفضوا العقوبات الغربية الموقعة ضد موسكو بسبب الحرب، مبررًا هذا الموقف بالأضرار المحتملة جراء تنفيذ تلك العقوبات التي على رأسها وقف إمدادات الغاز والنفط والقمح الروسية التي تعتمد عليها بودابست بصورة كبيرة.
أسفر هذا الموقف عن تصاعد الانتقادات الموجهة ضده على المستوى الداخلي بجانب الضغوط الخارجية، ما دفعه لعدم اللجوء إلى استخدام حق النقض “الفيتو” ضد أي من العقوبات المفروضة على الروس، رغم إعلانه سابقًا عدم موافقته عليها، ما وضعه في مأزق سياسي أمام حليفه الشرقي.
وانعكست تلك المواقف الرمادية على شعبية الزعيم الشعبوي، فقد أظهرت استطلاعات الرأي الأخيرة تراجع شعبية الحزب واقتراب المعارضة من المنافسة بقوة، ما دفعه لإعادة النظر في بعض السياسات، ليتخذ عددًا من الإجراءات التي حاول من خلالها مغازلة الشارع مرة أخرى، كإطلاق برامج اقتصادية سريعة لتحسين أحوال الشباب تحديدًا، وتخفيض الضرائب للأسر، وزيادة رواتب وأجور موظفي الدولة وضباط المؤسسة الأمنية بمقدار 10% تقريبًا.
وفي الأخير فإن الانتخابات الحاليّة يمكن النظر إليها على أنها تقييم عملي لميول الشارع المجري سياسيًا، وما إذا كان المزاج العام يميل نحو المعسكر الشرقي وتكرار النموذج البوتيني فعلًا أم الانتصار للانتماء الأوروبي وسياساته رغم الانتقادات بشأنها، وفي السياق ذاته يمكن اعتبارها “ترمومترًا” للخريطة السياسية الداخلية، وحجم نفوذ التيار الشعبوي وسيطرته على الساحة السياسية.