“عندما أتعب أضع رأسي على كتف قاسيون ولكن عندما يتعب قاسيون على كتف من يضع رأسه”، كانت كلمات محمد الماغوط تلك حقيقية، فلم تعد نثرًا أدبيًا أو نظمًا من الشعر، فقاسيون تعب ولم يجد من يسند إليه رأسه وكذا سوريا تعبت دون كتف حانٍ أو أخ مجير، رحل الماغوط وتعب الوطن وما زالت كلماته دليلًا على ما عاش من خوف في ظل الوطن الذي أحب والذي من أجله كان يكتب وينثر ومن أجله يعتقل ويخاف ويُظلم.
محمد الماغوط الذي “حطمه” سجن الوطن وكتب أنه “سيخونه” ظل حالمًا بالحرية التي “لو كانت ثلجًا لنام في العراء”، تراه يكره الخوف الذي زُرع في قلبه بعد اعتقاله الأول ولم يزل يلازمه حتى الموت وهو القائل: “بعد المسرح كل كتابتي من الشعر والسينما والصحافة كانت لترميم ذلك الكسر الذي ورثته من السجن، لكنني لم أستطع”، ظل الماغوط حتى آخر حياته إذا طُرق بابه ليلًا لا يفتح خوفًا من الاعتقال رغم أن “الدولة تحميني لكنني ما زلت أخاف” كما يقول.
لم ينس الماغوط السجن طوال حياته ولطالما تمحورت رواياته وكتبه ومؤلفاته حول الزنازين في بلد القمع وأقبية الفروع الأمنية منذ زمن بعيد، وقد خلف الاعتقال في نفس الشاعر الماغوط أسى لا تصفه الكلمات وخوف يستشعره في كل حين وقد لاحقه في كل تفاصيل حياته حتى قال عنه: “السجن مثل الشجرة له شروش (جذور)، شروشه تذهب إلى القصيدة والمسرحية والفيلم حتى إنها تذهب إلى الفم الذي تقبله”.
ذكرى وفاته
تمر اليوم الذكرى السادسة عشرة لوفاة الأديب والشاعر والكاتب السوري محمد الماغوط الذي غادر سوريا عام 2006، ولد الماغوط في مدينة السلمية بمحافظة حماة عام 1934 لأسرة فقيرة، فأبوه كان يعمل فلاحًا بالأجرة في أراضي الآخرين، وعبّر الماغوط عن قساوة أبيه مرة حيث قال: “كان أبي لا يحبني كثيرًا، يضربني على قفاي كالجارية، ويشتمني في السوق”، وانتقل إلى ريف دمشق ليتلقى تعليمه الثانوي هناك لكنه لم يكمل دراسته.
يروي الماغوط أنه لم يكن يتخيل بيوم من الأيام أن يصل إلى ما وصل إليه نتيجة حالة الفقر والعوز التي كان يعايشها مع أهله وكانت أحلامه تتجلى بزواجه من إحدى قريباته في ضيعته وإنجاب الأولاد والمعيشة معهم في أرضهم، لكن بعد أن عاد الماغوط إلى السلمية، انتسب إلى الحزب القومي السوري الاجتماعي منذ شبابه، وفي مدينته كان يوجد حزب البعث أيضًا بالإضافة إلى القومي.
ويروي الماغوط سبب انتسابه إلى الحزب القومي لا إلى البعث، قائلًا: “دخلت إلى حزب لم أقرأ مبادئه، كانت الدنيا برد وشتوية وكان يوجد حزب البعث والحزب القومي، وحزب البعث كان يوجد في حارة بعيدة والطريق إليه موحلة ويوجد فيها كلاب، وإلى جانب بيتنا كان يوجد الحزب القومي وفي مقره يوجد مدفأة فذهبت إليهم”، ويضيف الماغوط “كان المسؤول في حزب البعث ملاكمًا وأنا أكره العضلات وأخاف أن يضربني”.
عام 1955 اتهم الحزب القومي السوري باغتيال العقيد عدنان المالكي ووضع جميع المنتسبين إليه في السجون، وكان من ضمنهم الماغوط، وهنا يقول الكاتب والصحفي عبد الكريم بدرخان إن سجن الماغوط “لم يكن بسبب اعتناقه لفكر حزبي معارض، ولم يكن بسبب موقف سياسي معارض، ولم يكن بسبب كتاباته المعارضة للسلطة”، مشيرًا إلى أن اعتقاله “كان عشوائيًا ظالمًا، استفاد منه الماغوط في بناء شخصيته المستقبلية، شخصية الشاعر المعارض المُضطَهَد من الاستبداد العربي، الشاعر البسيط والفقير والبائس والمتواضع، وهي شخصية مكّنته من احتلال قلوب الكثيرين، باعتبارها نموذجًا مختلفًا عن شخصية الشاعر العربي الموروثة”.
عمل الماغوط الكثير خلال حياته المهنية، ولعل من أهم المحطات هي مساهمته في تأسيس صحيفة تشرين الحكومية في السبعينيات، وعمل فيها لسنوات طويلة، كما عمل رئيسًا لتحرير “مجلة الشرطة” الحكومية السورية، وعمل في المسرح القومي بالتعاون والشراكة مع دريد لحام أنتجا خلالها الكثير من المسرحيات الناجحة والشهيرة التي أصبحت محط الإعجاب الشعبي الكبير لما فيها من نقد لحالة الحكومات العربية والحكام، خاصة أنها تخرج من سوريا التي تحكمها عائلة الأسد القمعية.
الوطن والماغوط
رغم أن الماغوط يعتبر من رواد الأدب السياسي الساخر وهو من الذين داوموا على انتقاد الفساد والفقر وقمع الحريات والظلم، فإنه لم يكن معارضًا للأسد الأب والابن بالمعنى الحرفي، إذ إنه لم يصرّح بذلك، لكن ابنته سلافة قالت: “لو كان أبي على قيد الحياة لوقف ضد نظام أسد”، كما تروى الكثير من القصص والمواقف التي تدل على أن الماغوط كان معارضًا للنظام ولا يأبه به.
ومن هذه المواقف ما حكاه الإعلامي السوري توفيق الحلاق عنه: “المناسبة هي أول عرض لمسرحية كاسك يا وطن، ويجلس حافظ الأسد في الصف الأول وحوله حاشيته المناسبة للموقف مثل نجاح العطار وزيرة الثقافة، لكن كاتب المسرحية محمد الماغوط الذي أخذه الأعوان من يده ليجلس بجانبه أصّر على أخذ آخر مقعد في الصف بعيدًا عنه بسبعة مقاعد. كنت أنا في الصف الثالث مع الإعلاميين. انتهى العرض وصفق الأسد ووقف فوقف الكل. هرع الممثلون إليه وسلموا وفي مقدمتهم دريد لحام.. انتظر الجميع محمد الماغوط.. محمد الماغوط لم يتحرك من مقعده ما اضطر الأسد لمناداته، اقترب الأسد منه، تحرك الماغوط قليلًا ووقف نصف وقفة وصافحه، قال الأسد: “يعطيك العافية وسوف نعمل على تلافي التقصير”!! قال الماغوط بصوت أجش ساخر: إن شاء الله إن شاء الله وأدار رأسه”.
أحب الماغوط وطنه رغم كل مآسيه، وحينما كان ينتقد الفساد أو الظلم والطغيان لم يكن يتكلم فقط عن بلده سوريا إنما كان يوزع حروفه على كل البلاد العربية، حتى باتت بعض كتبه ممنوعة في كثير من بلاد العرب، وهو الذي يقول: “ثم إنني أحب هذا الوطن من محيطه إلى خليجه، فأينما كنت، ما إن أقرأ اسمه في جريدة أو أسمعه في إذاعة حتى أتجمد كنهر سيبيري، كعريف في حضرة جنرال، إنني أحبه، قدروا ظروفي وعواطفي”.
أعماله
توفي الماغوط وخلّف إرثًا أدبيًا عظيمًا لا يمكن أن ينسى، فمقولاته عن الوطن باتت هذه الأيام تلامس الجميع كأنها تقرأ واقعًا أليمًا نعايشه جميعًا، فكتب عدة مسرحيات تم تمثيلها مثل ضيعة تشرين وشقائق النعمان وغربة وكاسك يا وطن وخارج السرب، جلّ المسرحيات التي ألفها الماغوط أداها تمثيليًا الممثل السوري دريد لحام، ولعل البون شاسع بين الشخصين، إذ إن الماغوط مات كارهًا للاستبداد والطغيان والظلم، بينما لا يزال دريد لحام يسير خلف نظام الأسد الذي قتل مئات الآلاف وشرد الملايين.
كما أن الماغوط ألف دواوين شعرية كان أهمها ديوان “حزن في ضوء القمر” وديوان “غرفة بملايين الجدران” وديوانه “الفرح ليس مهنتي”، كما ألف عدّة مسلسلات تليفزيونية، إضافة إلى أفلام سينمائية مثل فيلم “الحدود” الشهير وفيلم “التقرير”.
ظل يحلم الماغوط بالحرية وفناء السجون، وهو القائل: “طالما في ظلم سيظل يوجد سجون”، وعن أمنياته قال: “أتمنى أن لا يظل أحد في السجون وأن لا يظل جائع على وجه الأرض”.. مات الماغوط وتحولت بلاده إلى سجن كبير ومأتم عظيم لشعب جائع.