أشارت عملية انسحاب القوات الروسية مؤخرًا من المحيط الشمالي والغربي للعاصمة الأوكرانية كييف، والتراجع نحو الجبهة الجنوبية والشرقية، وفكّ الحصار الذي كانت تفرضه هذه القوات على العاصمة، إلى جانب تقدُّم مهم في المفاوضات الروسية والأوكرانية بوساطة تركية؛ إلى أن سيناريو الهزيمة الروسية بدأ يطرح نفسه بقوة، مع فشل الآلة العسكرية على مدار الأسابيع الماضية من تحقيق إنجاز عسكري على الأرض.
وعند البحث في التكاليف الاستراتيجية المتحققة في أوكرانيا، يمكن القول إن التحدي الحقيقي الذي تواجهه روسيا يتمثل في تصاعد أشكال التعاون الدفاعي الغربي مع كييف، إذ تحاول روسيا جاهدة تغيير التوازنات العسكرية على الأرض، قبل أن تتمكن كييف من الحصول على مزيد من الأسلحة ذات الأهمية الاستراتيجية في مسرح العمليات.
وما يزيد من مخاوف موسكو هو التغييرات التكتيكية التي نجحت صواريخ “ستار ستريك” البريطانية المضادة للطائرات في إحداثها، والتي شلّت قدرات طائرات سوخوي سو-35 التكتيكية على تحقيق تغيير واضح على أرض المعركة.
كان للفوج 331 المظلي آمال كبيرة في أن يكون ضمن صفوف المجموعة التي تميّزت عن غيرها في القتال، لكنه بات الآن رمزًا لفشل خطة روسيا للحرب الخاطفة.
وفي هذا الإطار، يبدو أن موسكو بدأت تدرك أنه لم يعد لها أي تأثير على كييف، ومن ثم إن روسيا على الأرجح بدأت تنظر إلى أن إعادة التموضع العسكري في الجنوب والشرق سيكون أقل تكلفة ممّا قد يكون عليه الوضع في الأيام القادمة، خصوصًا إذا استمرت أوكرانيا في تعزيز قدراتها العسكرية، وفشلت الجولات التفاوضية القادمة في تحقيق وضع محايد لأوكرانيا، أو حتى نزع سلاحها.
ولعلّ هذا ما يظهر من حجم الحرص الروسي على تثبيت وضع قائم في الحدود الجنوبية والشرقية، سواء على مستوى تأمين وضع إقليم دونيتسك، أو تأمين سيطرتها على الموانئ البحرية الأوكرانية على البحر الأسود، من أجل تدارك أي مفاجآت عسكرية في الأيام المقبلة، خصوصًا بعد تحول مجريات الصراع نحو الاستنزاف.
وفي هذا السياق، من المستحيل التأكد ممّا يفكر فيه الرئيس بوتين، إذ إن سلوك موسكو الحالي بعيد كل البُعد عن تحركاتها العسكرية في بداية الحرب، حيث واقع الانتشار العسكري والقوة النارية وعدم تحقيق الأهداف التي أعلنها الرئيس بوتين يعني أن روسيا ستتحمّل تكلفة المصداقية إذا لم تتصرف أو تحصل على تنازلات.
وتشير وجهة النظر الروسية إلى أن تكاليف عدم الحسم العسكري قد تؤدي إلى فشل الأهداف الروسية في أوكرانيا، ومثل هذا النهج من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم الوضع داخل روسيا حول جدوى الحرب أساسًا، وهو ما يخشاه الرئيس بوتين.
معضلة بوتين الحقيقية في أوكرانيا
رغم إمكانات الحسم العسكري الروسي، إلا أن نظرة شاملة على الاستراتيجية العسكرية الروسية في أوكرانيا، تشير بوضوح إلى مشاكل كبيرة تواجهها روسيا في مجال الخدمات اللوجستية والاتصالات واحتلال المدن.
وبالنظر إلى سير العمليات العسكرية، تبرز تعديلات آنية وكبيرة يقوم بها الجيش الروسي، سواء فيما يتعلق بالعمليات الجوية وإعادة الإمداد اللوجستي والتنظيم العملياتي، حيث جاءت هذه التعديلات المتواصلة بعد التحول المهم الذي طرأ على سلوك القوات القتالية الأوكرانية في ميدان المعركة، وهو ما جعل الجهد العسكري الروسي محرجًا جدًّا على المستوى التكتيكي، خصوصًا بعد طول أمد الحرب.
ركّزت الاستراتيجية العسكرية الروسية على الوصول إلى كييف بسرعة، وحصرها وعزلها، إلا أن المعضلة التي واجهها الرئيس بوتين هي أن قواته واجهت واقعًا صعبًا، إذ بقيت القوات الروسية تراوح مكانها لمدة شهر كامل دون التمكُّن من اختراق حدود العاصمة، أو حتى فتح جبهة داخلها.
الرئيس بوتين يضع نصب عينَيه تاريخ التاسع من مايو/ أيار المقبل، ذكرى عيد النصر في روسيا، لإعلانه تحقيق النصر في الشرق الأوكراني.
ورغم أنها تمكنت من الوصول إلى مناطق إيربين وبوتشا على الجبهة الغربية من العاصمة، وأصبحت على مقربة بمسافة 15 كيلومترًا من مركز العاصمة، إلا أن انقطاع الدعم اللوجستي وتصاعد أعمال المقاومة الأوكرانية أجبراها على الانسحاب الأخير، وكذلك الانسحاب من مدينة تشيرنيهيف في المحيط الشمالي الشرقي من العاصمة، حيث يبدو أن المخططين الروس لم يأخذوا أوكرانيا وجيشها على محمل الجد، كما يبدو واضحًا أنهم أرادوا تجنُّب الاستنزاف وتكاليف الإصابات، والوصول إلى كييف بأقل الخسائر، وهو ما لم يتحقق.
ومن المحتمل أيضًا أنه لم يرغب المخططون العسكريون الروس في إلحاق مستويات عالية من الدمار في أوكرانيا، نظرًا إلى مدى عدم شعبية هذه الحرب في الداخل الروسي، إذ إن معظم الجنود الروس هم من الشباب، وليس لديهم اهتمام كبير بمحاربة الأوكرانيين كأعداء، ولا يرون الأوكرانيين خصومًا.
فباستثناء حرب الشيشان عام 1994، تبدو الروح المعنوية للجنود الروس محل تساؤل، ومن ثم هذا يشير إلى أن روسيا كانت تخطط لحرب شاملة وسريعة دون تعقيدات كبيرة، على أمل تجنُّب أسوأ العقوبات الغربية والتحديات الداخلية.
ترقُّب أوكراني من الخطوة الروسية الأخيرة
قالت نائبة وزير الدفاع الأوكراني هانا ماليار إن القوات الأوكرانية استعادت كامل المنطقة المحيطة بالعاصمة كييف، بينما انسحبت القوات الروسية من مناطق رئيسية بعد أسابيع من القتال الشرس بين الطرفين في عدة مدن وقرى، وصوّرت موسكو عملية الانسحاب هذه على أنها بادرة حسن نية منها خلال المفاوضات مع الجانب الأوكراني.
ولكنّ محللين قالوا إن موسكو اضطرت لوقف عملياتها على أي حال، ونقلت شبكة “سي إن إن” الأمريكية عن مسؤولين أمريكيين أن الرئيس بوتين يضع نصب عينَيه تاريخ التاسع من مايو/ أيار المقبل، ذكرى عيد النصر في روسيا، لإعلانه تحقيق النصر في الشرق الأوكراني.
وفي هذا الإطار قال الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، إن سحب روسيا للقوات من كييف ليس انسحابًا حقيقيًّا، وإنما إعادة نشر للقوات يمكن أن يتبعها مزيد من الهجمات، وأضاف ستولتنبرغ أنه “ليس متفائلًا جدًّا” بشأن ما تقوله روسيا عن سحب قواتها من محيط العاصمة الأوكرانية كييف.
وهنا يعتقد محللون أن الرئيس بوتين سيعيد نشر القوات شرقًا لشنّ هجوم جديد، وفي محاولة لحفظ ماء الوجه بعد الانتكاسات العسكرية في الجبهة الغربية، ما قد يمهِّد الطريق لمعارك عنيفة، ويبرر الخبراء أن انسحاب الروس نحو الشرق حيث إقليم دونباس، هو لاعتبارها ساحة المعركة الأكثر أهمية في المرحلة الراهنة من الحرب بين روسيا والقوات الأوكرانية.
في الوقت الذي تزداد فيه التكهُّنات التي تقف خلف الغاية الرئيسية وراء الانسحاب الروسي الأخير، إلا أنه لا بدَّ من التأكيد أن هناك واقعًا عسكريًّا صعبًا تواجهه روسيا في أوكرانيا
إن إحدى أبرز الانتكاسات العسكرية التي واجهتها روسيا مؤخرًا، هي الاستنزاف الكبير الذي أصاب قواتها المظلية، إذ كان للفوج 331 المظلي آمال كبيرة في أن يكون ضمن صفوف المجموعة التي تميّزت عن غيرها في القتال، لكنه بات الآن رمزًا لفشل خطة روسيا للحرب الخاطفة.
وكان الفوج يُعتبر مثالًا عن خطة الحكومة الروسية في استبدال جنود الخدمة الإلزامية بمتعاقدين عسكريين مهنيين يُسمّون “كونتراكتنيكي”، وهذا ما يفسِّر لماذا كان على الجنرالات الروس إعطاء الفوج دور مهم في الحرب، ولتدارك الخسارات الكبيرة التي تعرّض لها هذا الفوج تمَّ سحبه نحو بيلاروسيا، وحتى التقديرات المتحفظة لعدد القتلى وتواريخ وقوعها التي نعرف عنها حتى الآن، تشير إلى أن الخسائر التي مني بها الفوج في غضون أسابيع تتجاوز بالفعل الخسائر التي حصلت في أفغانستان والشيشان.
إجمالًا، هناك موقف معقّد تمرُّ به الحرب الروسية الأوكرانية حاليًّا، ففي الوقت الذي تزداد فيه التكهُّنات التي تقف خلف الغاية الرئيسية وراء الانسحاب الروسي الأخير، إلا أنه لا بدَّ من التأكيد أن هناك واقعًا عسكريًّا صعبًا تواجهه روسيا في أوكرانيا، ويبدو أن الرئيس بوتين قد يطمح في الأيام المقبلة، وبناءً على خطوة الانسحاب الأخيرة، أن يعلن النصر في هذه الحرب وعلى المناطق التي تسيطر عليها القوات الروسية، من أجل تحقيق عدة أهداف، أبرزها إيقاف الحرب، وتثبيت الوضع القائم في الشرق، وتغيير الخارطة الأوكرانية، وتخفيف الضغوط الغربية.
وقد يؤدي هذا إلى أن يأخذ الصراع أبعادًا أخرى في ضوء الاندفاع العسكري الأوكراني، حيث تمكّنت أوكرانيا من شنّ هجمات صاروخية في اليومَين الماضيَين في الداخل الروسي، ومن ثم يمكن القول إن قواعد الاشتباك الجديدة هي من سيحدِّد المستقبل الذي يرسم النهاية الكاملة لهذه الحرب.