الصلاة في المسجد الأقصى حلم يراود كل مسلم ومسلمة، يُسعى إليه وتُشد إليه الرحال، وفي حين أن وقوع المدينة المقدسة تحت نير الاحتلال الإسرائيلي يحرم مسلمي العالم من زيارة ثالث الحرمين، فإنّ أهل فلسطين على الأغلب يقدرون، لكن الوصول إلى هناك بالنسبة إلى فلسطينيي الضفة والداخل المحتل وقطاع غزة المحاصر وحتى أهل مدينة القدس يأتي بعد قطع العشرات من الحواجز العسكرية التي تقيمها الشرطة الإسرائيلية، ما يضطر المئات منهم لسلك طرق التفافية خاصة في شهر رمضان الكريم.
وكما الرجال تتسابق النساء لحجز أماكنهنّ في صلاة التراويح وقيام الليل بالأقصى، فالروحانيات بحسب وصفهن “لا يمكن ترجمتها إلّا بعد معايشتها”، فالمكان مكتظّ بجارات الأقصى ومن جاءت من بعيد لتزاحمهن بعدما ظفرت بتصريح دخول، ما يستدعي ضرورة توفر الأمن والأمان لهنّ.
منذ 14 عامًا تشكلت لجنة نظام فتيات المسجد الأقصى التي تعدّ أكبر مبادرة عمل تطوعي ميداني للفتيات في مدينة القدس، ويتلخّص عملها كما يعرفن عبر صفحتهن على فيسبوك في كلمة “هام”، فالحرف الأول يعني الهدوء الذي يحافظن عليه في ساحات الأقصى خلال رمضان لراحة النساء، وحرف “الألف” يرمز إلى تعزيز الأمن، بينما حرف “الميم” يعني فتح المسارات أمام المصلين وطواقم الإسعاف والإطفاء وفرق الدفاع المدني.
أنصت “نون بوست” لمتطوعات من لجنة نظام فتيات الأقصى، ليحكين عن تجربتهن في عملهن التطوعي وخدمة المصليات، وكيفية وصولهن إلى المسجد وقت الأحداث المشتعلة.
تقول أسماء جعيدي (23 عامًا)، وهي تسكن في منطقة باب العامود، إنها انضمت للجنة بعد عام من نشأتها حين كانت بعمر الـ 13، وذلك بواسطة صديقتها التي شجّعتها على ذلك، مشيرة إلى أن فرحة اعترتها حين حصلت على الزيّ الخاص بالنظام، وشعرت وقتها بمسؤولية كبيرة داخل الأقصى رغم صغر سنّها.
وتابعت: “كنت معتادة التردد على المسجد لصلاة الجمعة، لكن انضمامي للفريق علّقني بالأقصى أكثر وأنتظر الشهر الكريم بفارغ الصبر لممارسة دوري (..) كل لحظة تعب أشعر بها تزيدني عزيمة على التمسك بخدمة ضيوف الأقصى”.
وتوضّح جعيدي لـ”نون بوست” أنها تدرك جيدًا قيمة تواجدها في الأقصى، خاصة أن الكثيرين لا يحظون بما تفعله، معلقةً: “أبكي حين أرى سيدات جئنَ من أماكن بعيدة وبمجرد وصولهن لباحة الأقصى يسجدن ويبكين فرحًا لتحقق حلمهن”.
وعن فترة تواجدها في الأقصى، ذكرت أنها فور تناولها طعام الإفطار في الأيام الأولى من رمضان، تسارع إلى صحن قبّة الصخرة حيث بئر رمانة المقابل لباب الجنة، ترتدي الزي وتتّجه إلى أماكن تجمُّع النساء لتجهيز المصليات وقت صلاة التراويح، مشيرة إلى أن طبيعة العمل تكمن في المحافظة على الهدوء وإبقاء المسارات مفتوحة، وفي بعض الأحيان حمل الصغار وقت صلاة أمهاتهم، وكذلك جذب الصغيرات للانضمام إلى اللجنة.
وتحكي أن فتيات الأقصى منهن جامعيات ويتقنّ لغات أجنبية كالإنجليزية والتركية، ما يسهّل عليهن التعامل مع النساء الأجنبيات اللواتي يحضرن للصلاة.
وعن أبرز المعيقات التي تواجهها عند وصولها إلى المسجد الأقصى، ذكرت أنه وقت اشتعال الأحداث كما حدث العام الماضي عند باب العامود، تضطر إلى سلك طريق آخر بعيدًا عن الحواجز العسكرية التي يفرضها جنود الاحتلال.
وتشير إلى أنها في كثير من الأحيان تحاول مسايرة جنود الاحتلال وعدم العناد معهم لتتمكّن من دخول الأقصى، خاصة في الأيام الأخيرة من رمضان حيث ضغط العمل بسبب الازدحام، موضّحة أنهن يحضرن طعامهن لكن الشرطة تعرقل دخولهن بحجّة حملهن معدات ممنوعة كقدر المقلوبة وورق العنب.
وتذكر أن العام الماضي كانت تعمل برفقة زميلاتها في لجنة النظام، وسط إطلاق قنابل الغاز والرصاصات المطاطية التي كان يرميها الجنود على المصلين والمصليات، ومع أجواء الرعب والخوف كنّ صامدات يواصلن عملهن دون تراجع.
الرباط وأبعاد المقدسيات
وإلى تجربة أخرى ترويها هالة بيطار (25 عامًا)، وهي ضابطة ميدانية دوارة انضمت إلى اللجنة منذ 9 سنوات برفقة قريباتها اللواتي شجّعنها على خوض التجربة التي وصفتها بالإنسانية والممتعة، مبيّنة أن أهالي القدس يشجعن بناتهن ليتعلق الجيل الجديد بالأقصى.
تقول بيطار لـ”نون بوست” إن وضعها مختلف بالنسبة إلى زميلاتها، فهي تحضر بمفردها بتشجيع من زوجها الممنوع أمنيًّا من دخول الأقصى كونه لا يحمل الهوية المقدسية، لذا دومًا يدفعها لعدم التأخر من باب ثواب “الرباط” وأن يعوّض أحدهم غياب الآخر.
ومنذ صغرها تعلّقَ قلبها بالأقصى عبر حلقات حفظ القرآن الكريم والندوات الدينية، لذا تعتبره بيتها الثاني وتغامر للوصول إليه فترة الإغلاقات والاشتباكات التي تقع بين شباب القدس الثائر وجنود الاحتلال، حيث تسلك طريق الأودية كوادي قدرون أو مقبرة باب الرحمة أو المقبرة اليهودية في جبل الزيتون.
وشهدت بيطار أحداثًا كثيرة في الأقصى فترة تطوعها خلال شهر رمضان، وتقول: “كحال المقدسيات تعرضت وزميلاتي في اللجنة إلى إبعاد وملاحقة من قبل جنود الاحتلال، خاصة وقت الأحداث”.
وما يهوِّن عليها وزميلاتها تعب التنظيم هو دعوة سيدة كبيرة في السن لهن، وتقديم قطع الحلوى، ما يزيد حماسهن ويدفعهن للمواصلة.
ويبقى عمل فتيات اللجنة حتى الانتهاء من صلاة عيد الفطر، وهنا يحلّقن فرحًا في باحات الأقصى بعدما ينتهين من أداء عملهن التطوعي على أكمل وجه، ثم يتبادلن المعايدات والكعك والمعمول، ولا يخرجن من المسجد إلا بعد الاطمئنان أن كل طفل برفقة أمه، والقول للبيطار.
مكافحة السرقة سبب آخر لوجودها
وفي السياق ذاته، ذكر رضوان عمرو، مسؤول لجنة نظام فتيات المسجد الأقصى، أن قبل عام 2008 لم يكن هناك قسم للحراسة النسوية، رغم أن جمهور النساء من المصليات كبير لكنهن لا يتلقين الخدمة.
وأوضح عمرو لـ”نون بوست” أن انبثاق اللجنة جاء لعدة أسباب، أحدها الحاجة الماسّة للحدّ من ظاهرة السرقة التي كانت منتشرة في ذلك الوقت بشكل كبير، ما سبّب إزعاجًا للنساء، وفي الوقت ذاته كان الشباب من حرّاس الأقصى يجدون حرجًا في التعامل مع تلك الحالات، لذا اقتضى وجود لجنة خاصة بالسيدات.
وأشار إلى أن عدد الفتيات المنضمّات للجنة هو 500، وكل ليلة يحضر ما بين 100 و150 حسب الحاجة والازدحام، وجميعهن يخضعن لتدريبات قبل شهر رمضان بأسابيع للتعامل مع الوضع القائم، لافتًا إلى أن هذا العام مختلف، فهناك فريق طوارئ تدرّب على إطفاء الحرائق والإسعاف والمساعدة وقت الإصابة حال وقعت اشتباكات كما العام الماضي.
تتعرّض “فتيات المسجد الأقصى”، كما المقدسيات، للقمع ورميهن بقنابل الغاز والرصاص المطاطي، على أنهن حتى في أوج الخطر يحاولن خدمة جمهور النساء، إذ يتبعن تعليمات بالمواصلة حتى آخر لحظة، كما يقول عمرو.